قليل من الانتفاخ/إلى أ. ربيع، إيمان، آسيا، فطومي..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالمنعم حسن محمود
    أديب وكاتب
    • 30-06-2010
    • 299

    قليل من الانتفاخ/إلى أ. ربيع، إيمان، آسيا، فطومي..

    قليل من الانتفاخ
    هذا الانتفاخ الذي يظهر في جيبي الخلفي الآن يجعل من شاربي شارباً كثيفاً ولامعاً، المرآة مصقولة وناعمة وأمينة في عكسها لكل شعاع لا يرتطم بها، صورتي كما اشتهي أنْ أراها، العيون لا تخلو من بريق، والأنف معقوف كعادته، ذات الأنف الذي تسبّب في طلاق زوجتي الأولى، ففي كل مرة أقول لها أنْ أنفي كبير، تهزُّ رأسها لأعلى وأسفل، وتعيد ذات الكلمات بتردد صوتي منتظم..
    - " لا، لا ليس كبيراً يا حبيبي"..
    أزجُّ جسدي الضيئل في جلبابٍ أخضر قصير وأغلق الباب خلفي بعنف، وأخرج حيث ينتظرني (مستور) في ذات الموقع المتفق عليه كل ليلة، نضحك سوياً ونتمايل ونردد بإيقاع لاهث..
    - " لا، لا، ليس كبيراً يا حبيبي"..
    قبل نصف ساعة من وقوع حادثة الطلاق، أدخلتْ يدها في جيبي الخلفي قبل أنْ يصيبه داء الانتفاخ، قبضتْ على مشطٍ صغير بلا أسنان وارتمت فوقي، مشطتْ أعشاب صدري، وهمستْ في أذني..
    - " لماذا تلح عليّ في كلِّ ليلة وفي وقتٍ معين بهذا السؤال السخيف ؟ "
    أزحتها جانباً وأعطيتها ظهري، ترآى لي (مستور) يتمايل طرباً وهو يمسد شاربه، ويترنم ثانيةً..
    - " لا، لا ليس كبيرا يا حبيبي"
    اعتدلتُ وألصقتُ وجهي في وجهها..
    - اسمعي جيدا يا (سلمى)، كي نعيش في سلام يجب علينا الدخول سوياً في دائرة من الوضوح لا أحد يعلم كم يبلغ طول نصف قطرها. هل أنفي كبيراً كما أعتقد أم لا"؟
    أعادت بيدٍ واجفة المشط إلى مكانه في جيبي الخلفي، وغطتْ النصف الأعلى من وجهها، ورمتْ في طرف الفراش حروف مرتبكة..
    - " نعم قليلا يا.."
    وكمن لسعته عقارب الخلاص جميعها انتفضتُ، قفزتُ أكثر من مرّة، ومن بين القفزات المتتابعة رميتُ عليها يمين الطلاق ببطء تحسدني عليه أكبر سلحفاة معمرة على وجه البسيطة..
    نعم هذا الانتفاخ الذي يعاني منه جيبي الخلفي في الأوّل من كلِّ شهر يعجبني، كإعجابي بامرأة تحمل في أحشائها جنيناً في شهره الرابع. قبل عشر سنوات كان الجنين عمره شهران حالما استلمت الوظيفة التي بسببها انتفخ جيبي الخلفي هذا الصباح. صديقي (مستور) الذي لم أراه منذ أنْ طلقت زوجتي، فشل في تصنيف هذا التتابع رياضياً، فإلى أيّة متوالية هندسية تتبع آلية الزيادة في راتبي الشهري، وبعملية حسابية معقدة حاول (مستور) أنْ يستعين فيها بعالم مشهور فاز بجائزة نوبل للرياضيات من قبل، ولكنه اكتشف بأنْ هذا العلم ليس مدرجاً في لائحة تلك الجائزة، ضحك في سرّه وكأنه صدق ما اشيع حول الفريد نوبل، وأنْ المرأة التي كان يريدها لنفسه قد خدعته واختارت بدلاً عنه (جوستا متاج لفلر) المتبحر في هذا العلم، وعليه استبعد (الفريد) هذا العلم من المنافسة. لم يجد مستور مفراً سوى أنْ يستعين ب(جوستا) ليصلا معاً في نهاية الأمر، إلى أنْ هذا الانتفاخ لن يشبه جنيناً في شهره التاسع إلا بعد عشر سنوات أخر، وعليه لن يتجاوز معاشك الشهري سعة جيبك الخلفي ما دمت ساكناً في هذه الوظيفة..
    لمُحاسب شركتنا يوم واحد في الشهر يعتبره مميزاً، ينتظره بفارغ الصبر، يجمع فيه أكبر قدر من البريق، يتمعن بتلذذ في الممازحات والابتسامات التي كانت مختبئة في وجوه الآخرين طوال الثلاثين يوماً المنصرمة، الرجل الذي أعلى مني درجة في السُلم الوظيفي، وأقل كفاءة، لا علاقة له بهذا المحاسب، ولا يلتفت للتواريخ كثيراً، فهو كثير الاهتمام بدخله السنوي، بعدما أكمل عامه العاشر في ذات الكرسي..، بينما الفتاة التي بلا عنق يرفعها لأعلى وأدني مني درجة، وأكثر كفاءة، لا تهب المحاسب الابتسامة التي يريدها كلما وقفت أمامه، كان جل اهتمامها ينصب في التخطيط لفتح مزيد من الصناديق بين الزملاء، صناديق التوفير ليست سوداء حتّى تحتفظ بأسرارها، ففي كل مرّة يحمل مديرنا إبرة حادة ويثقب بها صناديقها المقترحة، علّها ترضى وتمنحه ابتسامة صغيرة تثنيه عن ذلك..
    ليس لديّ ابتسامة لأرسمها في وجه المحاسب، أو ضحكة ملونة ألون بها مكتب المدير، يكفيني هذا المشط الصغير الذي نمت له أسنان حادة منتظمة بعد الطلاق، أنه يقبع الآن جنباً لجنب مع معاشي الشهري في جيبي الخلفي، وكلّ ما عليّ في هذه اللحظة أنْ أكون حذراً حالما اصل للمحطة الخاصة بالمركبات العامة، وسأقفز في بطن أول (باص) يقابلني متجهاً لمدينة (أم درمان)..، الطريق ليس طويلاً وبيني وبينها الجسر. منزلي المكون من غرفة وصالة، ويقع خلف صالون (نجاة) للتجميل، سأفتحه هذه المرّة برفق كما اعتدت في بداية كل شهر ميلادي، وسأفرغ المحتويات التي تسببت في هذا الانتفاخ الجيبي في حضن زوجتي الجديدة، عدا المشط الذي سيرافقني لدورة المياه بعد فاصل إعلاني نقوم باعداده وتمثيله أنا و(المدام) فقط، وما أنْ ينتهي دوري في الإعلان، حتّى أرمي الكرة في ملعبها، شريطة أنْ تضمن لنا أنْ لا نموت جوعاً خلال الثلاثين يوماً القادمة..
    قرّرت أنْ أكون حذراً وأنا أهم بالطلوع في المركبة العامة، اخترتُ كرسياً تكون النافذة فيه على يميني حتّى يلتصق جزء من جيبي الخلفي المنتفخ بجدار المركبة. الرجل الذي يجلس علي يساري يحمل كماً من الصحف اليومية. ساورني الشك حول هذه الحيلة القديمة، حتماً أنه لا يدري من يجاور الآن، وحيلة الصحف هذه كنا نمارسها أنا وصديقي (مستور) بعد أن نتمايل مع أنغام أغنيتنا الشهيرة.."لا، لا ليس كبيرا يا حبيي" بمهارة ردحاً من الزمن، وعندما وجدتُ هذه الوظيفة التي انتفخ بسببها جيبي الخلفي الآن تركتُ هذه العادة وشطبت (مستور) أيضاً من دفتر سجلاتي..
    أوّل الأمر توهم جارك في (الباص) بأنك لا تعيره اهتماماً، وأنك من قبيلة المهمومين بالثقافة وبقضايا المثقفين، وأنْ المادة هي آخر ما تفكر فيه. تفرد صفحات الصحيفة وتنهمك في القراءة لمدة لا تتجاوز التسع دقائق، وفجأة وكأنَّ الأمر يعنيك تخاطبه دون أنْ تلتفت إليه مشيراً بابهامك لعنوان غير بارز في الصفحة، وتقول بلهجة حزينة..
    - "معقول بعد كل هذا العطاء والإبداع يموت فقيراً لا منزل لا أصدقاء..الله يرحمه ويحسن إليه بقدر ما اسعدنا"
    ينتابك الفضول وتحيل بعض اهتمامك بجيبك الخلفي إلى هذا الخبر المثير، تلوي عنقك قليلاً وتميل بكتفك حتّى تلتصق به..
    - " من تقصد يا أستاذ "
    يلتفت نحوك راسماً ملامح من الأسى، يرمي في حضنك الصحيفة ويفرد الأخرى، تفتح عيونك قدر ما تستطيع وتقرأ بنهم. المركبة العامة تقف لثوان وأنت لم تكمل بعد، تلتفت اتجاهه المقعد خال، تتذكر جيبك المنتفخ، لا تشعر بالانتفاخ يدغدغ مؤخرتك، تنتفض كالمجنون، وتصرخ.." عملها إبن.."..
    ضحكتُ في سرّي، وتذكرتُ (مستور) الذي كان أكثر مهارة مني في سرقة مرتبات الموظفين، كتمت بقايا الضحكة، وتلمستُ انتفاخي، التصقتُ أكثر بجدار (الباص)، مرّ الوقت المحدد للقراءة وفق نظرية (مستور)، وجاري لم يحرك ساكناً، سخرتُ من هواجسي، واعتدلت في جلستي، وابصرت جانباً من الصحيفة التي يفردها جاري قريباً من فخذي الأيسر، شدني التشابه بينه وبين الصورة المعلقة في صدر الصفحة، شعر بأنفاسي تقترب منه، وبدون مقدمات أشهر نصف الصفحة في وجهي..
    - " نعم هذا أنا وهذا نصي الشعري الجديد..
    أخرجتُ يدي القابضة على الانتفاخ خلفي، رسمت ابتسامة حقيقية فوق ملامحي وأعلنتُ عن الشرف الذي انتابني في لحظة تعارفي به، لم أسأله كيف كتب هذا النص، ومع ذلك قرأ ما يدور في ذهني، وسمعته يقول" أنه كتب آخر قصائدة وهو في بطن حافلة تئن في منتصف الجسر". قرأت بتمعن ما كتبه، وعندها عرفت لماذا استعان والي ولايتنا الجديد بدفعة كاملة من البصات الدائرية. لم تعجب جاري فكرة البصات الدائرية التي تدور في رأسي، أفرد صحيفة أخرى، تكومنا تحت تل من الجرائد ونحن نقرأ المقالات التي تدين أو لا تدين جدوى هذه الفكرة في عاصمة مثل عاصمتنا، اشتد الحوار والتهب، مزقتُ تلال الصحف واشرتُ للسائق، ترجلتُ من المركبة، لم أرفع بصري لأنظر إليه من خارج النافذة، اكتفيتُ بانتفاخ جيبي الذي زاد انتفاخاً لدرجة إني استغنيتُ عن المشط الذي عادة ما تستخدمه زوجتي الجديدة في تهذيب الأعشاب الضارة التي تنمو في صدري مع بداية كلّ شهرٍ جديد.
    التواصل الإنساني
    جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


  • إيمان الدرع
    نائب ملتقى القصة
    • 09-02-2010
    • 3576

    #2
    الزميل المبدع : عبد المنعم حسن محمود:
    أشكرك ومن القلب على هذا الإهداء الجميل...
    أحببْت النصّ ورموزه التي تضحك حدّ الوجع..
    وتوقّفت عند بعض مفردات..أعطت إسقاطات جميلة
    لا لا ليس كبيراً ياحبيبي ...،مستور ، الجيب المنفوخ
    المشط الذي كان بلا أسنان، فصار بأسنان حادّة أول الشهر
    الرّجل ... صاحب الصحف الذي جاورك في الحافلة ...ومحاورته ،وغيرها ...وغيرها
    حقيقة أسلوبك جميلٌ، متجدّد، يشدّ القارئ ..
    ويرسم ابتسامة ولو من خلال غصّة الألم..
    سلمتْ يداك..
    دُمتَ بسعادةٍ... تحيّاتي

    تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

    تعليق

    • آسيا رحاحليه
      أديب وكاتب
      • 08-09-2009
      • 7182

      #3
      شكرا على الإهداء أخي الكريم عبد المنعم حسن محمود..
      كنت أقرأ و أضحك..أسلوبك مشوّق و لغتك جميلة..
      و رغم أن النص يبدو بسيطا في فكرته إلا أنه يرمز إلى جوانب حياتية هامة ..
      هناك بعض الأخطاء..أرجو تصحيحها ليكتمل جمال النص .
      أتمنى أن أقرأ لك الجديد قريبا .
      تحيّتي و احترامي.
      يظن الناس بي خيرا و إنّي
      لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

      تعليق

      • عبدالمنعم حسن محمود
        أديب وكاتب
        • 30-06-2010
        • 299

        #4
        سلام

        قليل من الانتفاخ
        محاولة قصصية
        تسعى لانتزاع ابتسامة ولو طفيفة من هذا الرباعي
        (المهدى له النص) الذي أحبه جداً..
        ودمتم..
        التواصل الإنساني
        جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


        تعليق

        • محمد فطومي
          رئيس ملتقى فرعي
          • 05-06-2010
          • 2433

          #5
          السّلام عليك أخي عبد المنعم حسن.
          هديّتك كانت غاية في الّلطف .تتحكّم جيّدا في السّرد و ترتيب الأفكار .أسلوب دعابة ،ساخر ،محبّب،يحمل بين طيّاته أنين الموظّفين و أسرهم و أسرارهم..كان الوصف رائعا و صادقا بشكل ملفت.
          كلّ التّوفيق و المودّة.

          1هل أنفي كبيراً(كبيرٌ) كما أعتقد أم لا"؟
          2 وعندما وجدتُ هذه الوظيفة التي انتفخ بسببها جيبي الخلفي *الآن*(،) تركتُ هذه العادة وشطبت (مستور) أيضاً ..
          3 الملاحظة الثالثة حول اختلال حكي تسبّب فيه عدم حفاظك على ما نسبته للمخاطب و لضمير الغائب من دور،داخل ذات السّياق،فقد عكست دوريهما و ارتبك حوار الضّمائر،و لك أن تمتحن ذلك.و هذا هو الشّاهد:
          الآتي هي " وصفة " الصّديق "مستور"؛اختار الكاتب فيها أن يشرح الخطّة المتّبعة للمتلقّي (لسامعها) كقائم بالفعل:
          أوّل الأمر توهم جارك في (الباص) بأنك لا تعيره اهتماماً، وأنك من قبيلة المهمومين بالثقافة وبقضايا المثقفين، وأنْ المادة هي آخر ما تفكر فيه. تفرد صفحات الصحيفة وتنهمك في القراءة لمدة لا تتجاوز التسع دقائق، وفجأة وكأنَّ الأمر يعنيك تخاطبه دون أنْ تلتفت إليه مشيراً بابهامك لعنوان غير بارز في الصفحة، وتقول بلهجة حزينة..
          - "معقول بعد كل هذا العطاء والإبداع يموت فقيراً لا منزل لا أصدقاء..الله يرحمه ويحسن إليه بقدر ما اسعدنا"
          التّالي ستكون ردّة فعل الطّرف الذي سيقع عليه الفعل(الـ:هو):و الذي أوردته مخاطبا أيضا.
          ينتابك الفضول وتحيل بعض اهتمامك بجيبك الخلفي إلى هذا الخبر المثير، تلوي عنقك قليلاً وتميل بكتفك حتّى تلتصق به..(
          ينتابه - أو سينتابه و كذا بقيّة الأفعال - الفضول ويحيل بعض اهتمامه بجيبه الخلفي إلى هذا الخبر المثير، يلوي عنقه قليلاً ويميل بكتفه حتّى يلتصق به..)....
          - " من تقصد يا أستاذ "
          نعود لصيغة الـ :أنت لأنّ الحديث تتمّة للخطّة(خطّة السّرقة):و التي نسبتها للجار المسروق بعد أن كنت، نسبتها لمتلقّيك.
          يلتفت نحوك راسماً ملامح من الأسى، يرمي في حضنك الصحيفة ويفرد الأخرى، تفتح عيونك قدر ما تستطيع وتقرأ بنهم. المركبة العامة تقف لثوان وأنت لم تكمل بعد، تلتفت اتجاهه المقعد خال، تتذكر جيبك المنتفخ، لا تشعر بالانتفاخ يدغدغ مؤخرتك، تنتفض كالمجنون، وتصرخ.." عملها إبن.."..(
          تلتفت نحوه راسماً ملامح من الأسى، ترمي في حضنه الصحيفة وتفرد الأخرى،(ردّة فعل): يفتح عيونه قدر ما يستطيع ويقرأ بنهم. المركبة العامة تقف لثوان وهو لم يكمل بعد، يلتفت اتجاهك؛ المقعد خال، يتذكر جيبه المنتفخ، لا يشعر بالانتفاخ يدغدغ مؤخرته، ينتفض كالمجنون، ويصرخ.." عملها إبن.."..)


          مودّتي و محبّتي لك لقد أبدعت،و بلّغت كأحسن ما يكون.
          مدوّنة

          فلكُ القصّة القصيرة

          تعليق

          يعمل...
          X