الممرّضة
تمادى ليلتها في السّهر على التلفزيون بقاعة الجلوس يتنقّل بين الفضائيّات.كان مستلقيا على الأريكة يدخّن و يسعل بصورة غير منتظمة.لا شيء يشغل باله أو يعكّر مزاجه..الإقامة مريحة ،و في متناوله كلّ ما يشتهي من أصناف الأطعمة و الشّراب و السّجائر،فماذا بعد؟ ولم العجلة ،و ما الذي يجعله حريصا على العثور بسرعة عن عمل؟..النّعيم الذي وجد نفسه فيه فجأة و بسخاء جعله يكسل و يرتخي و يتوهّم بأنّه، لحين على الأقلّ ، مواطن إيطالي،و بأنّه يساويهم،متناسيا بأنّه يختبىء عن عيون البوليس لا أكثر،يتحيّن الفرصة المناسبة للعبور إلى فرنسا.كمقابلة كبيرة لكرة قدم أو أحد الأعياد المسيحيّة المهمّة،أو غفلة و كفى..أصلا ليس هناك ما هو أدهى من وصوله إلى أوّل شبر من أوروبا .فقد شاهد أصحابه يُلقى بهم أمام عينيه في عرض البحر ليلا و هم نيام،تخفيفا على القارب..كان قد سمع بقصص مشابهة قبل أن يهاجر،و غامر بالرّغم من ذلك ..ما أبشع أن يخرج الموت من حيّزه المعتم الكريه المُخيف ليدخل في حساباتنا اليوميّة،فنرضى به نسبة مئويّة بديهيّة لا بدّ منها،مقتولة الهيبة،مقدارا من عدّة ،و نقبل ببساطة أن يساهم كغيره من المقادير المسالمة لتكتمل الضفّة..ما عاد الموت الحياة التي فرّطنا فيها..صارت الحياة ما فرّطنا فيه من موت.!
في غرفة النّوم تململت "لارا" منزعجة،و غمغمت بكلمات سخط ،ثمّ انتفضت جالسة تنظر إلى وائل الذي استيقظ مرتبكا على حركتها الحادّة:
- لست تنامين؟كم السّاعة الآن؟
وائل أيضا صدفة عفا عنها نرد السّماسرة..
منذ وضعت رأسها على المخدّة و هي تنتظر أن يسألها هذا السّؤال.
- إنّها الواحدة ..لم يغمض لي جفن..كيف استطعت أن تنام أنت ؟ألست تسمع التلفزيون و ضجيج صديقك؟
اعتدل وائل و حاول تهدئتها، لكنّها لم تبد أيّ استعداد للفهم في تلك المرّة.كان تصرّف عثمان صديق زوجها و عدم مبالاته كالقطرة التي فاض لها الكأس،أو بالأحرى كالدّبّوس الذي إذا سحبته سقطت أطنان من الأغراض دفعة واحدة.
منذ حلّ بينهما عثمان،و هي عصبيّة بشكل ملفت و مستاءة طوال الوقت،و لكنّها في البداية كانت تكتفي ببعض التّعاليق و الملاحظات تستحثّ بها زوجها على إيجاد حلّ للمسألة بأسرع وقت و دون تأجيل.
أدرك وائل بأنّ الأمر مختلف و أنّ زوجته لم تعد تحتمل وجود ذرّة واحدة من عثمان في البيت لدقيقة أخرى فتركها تتكلّم لعلّ ذلك يخفّف من غضبها و يقرضه وقتا إضافيّا للتّفكير.
- ..لست مضطرّة لتقديم تنازلات من أجل صديقك البتّة؟أنا هنا في بيتي و هذا الانتهازي المشبوه يجثم على صدري و يحدّ من حرّيّتي و يشاركني أغراضي و زوجي.
وسكتت قليلا تنظر إلى حافّة السّرير ثمّ واصلت بغيظ : الآن إذا أردتُ أن أخرج إلى المطبخ أو إلى الحمّام ،ماذا أفعل؟أأمرّ من أمامه هكذا؟(ممسكة بقميص نومها بين إبهامها و سبّابتها من ناحية الكتف)،أم تراني مجبرة في كلّ مرّة على ارتداء كلّ ملابسي؟
مرّر وائل يده على شعرها بودّ يهدّئها و قال :
- لارا ،لا تكوني قاسية إلى هذا الحد؟الفتى مهدّد بالسّجن و الطّرد من البلاد بعد كلّ ما قام به من تضحيات كادت تودي بحياته!.أرجوك لارا ،نامي الآن و غدا نتدبّر الأمر..أعدك..فأمامي يوم شاقّ و طويل..و لا ينام وائل..و عادت به الذّاكرة عجبا إلى أحد الذين عمل معهم في مصنع التّبغ في بلاده،كان يروق له أن يجالسه أوقات الرّاحة،كان يجد لحديثه نكهة بدويّة حلوة،كان يدعوه باسم وليد،لم يُصحّح له وائل الخطأ.لم يجد فرقا.تغيّب عن العمل يومين ،و سأله وائل: فيما الغياب قلقت عليك؟
قال حسام ببراءة الأطفال: لقد جاءني مولود،و لأنّي أحبّك سمّيته باسمك:وليد..
تأكّد لوائل أنّ الخطأ صار حميما،فبارك له و ابتلع اسمه.
و عبثا حاول فهم العلاقة بين برق الذّاكرة ذاك و بين ما دار بينه و بين "لارا"،و لكنّ خاطرة ظلّت تتردّد على ذهنه ،تغدو و تروح حتّى الصّباح،كتلك الأغاني السّمجة التي تعلق في شفاهنا دون سواها من الطّرب الجميل لأسبوع ثمّ تغادر..ظلّ يقول في سرّه (كم هو مضحك أن يصيب داء الوحم حساما و زوجته كلاّ على حدة لصالح مولود واحد..هي من جهتها على صورة بطل مسلسلها المُدبلج،و هو على اسم صديقه المفضّل،فلا أحد يُفلح..و لم لا تجد "لارا" ما يجده بي حسام؟؟)
مرّ يومان على اتّفاقهما ،و لا شيء يدلّ على أنّ الأوضاع ستتغيّر بعد ،و سيطر عليها إحساس كاليقين بأنّ وائل يماطلها،و زارها شعور مرعب بأنّ مكوث صديقه سيطول بينهما، أو ربّما لن يغادر أبدا.
و قرّرت أن تحسم أمرها و تضع حدّا للمهزلة بيدها،طالما أنّ زوجها قد منعه الحياء من استعادة حياته المغتصبة..الفكرة التي راودتها هي أن تلقي له بأغراضه في السلّم قبل وصوله بقليل، حتّى إذا وجدها عاد من حيث أتى دون رجعة.و أخبرت وائل بما تنوي فعله.و ضيّقت حول رقبته الحبل :
- وائل..هذه العيشة لا تلائمني .نفد صبري .عليك أن تختار إمّا أنا و إمّا هو في هذا البيت..
يومها لم يخرج عثمان كما اعتاد أن يفعل صباح كلّ يوم و كما ظنّ الزّوجان . بل ظلّ في غرفة نومه مستيقظا في الفراش. فتناهى إلى مسامعه نقاشهما بسببه و احتدّت اللّهجة و أصبحت صراخا. كانت "لارا" مصرّة على موقفها.و لا شيء يثنيها أو يزحزحها عن قرارها.
حزّ في نفسه أنّه ثقيل ظلّ و غير مرغوب .فار الدّم في رأسه و أحسّ بالإهانة تحيط به من كلّ جانب ،فصرّ قبضته و ضرب بها زجاج النّافذة بكلّ ما أوتي من قوّة.
هرع الزّوجان إلى مصدر الصّوت و إذا به ينزف و يتأوّه ممسكا يده المصابة بمنشفة وجهه.
ما من وقت للسّؤال، و لا طائل من إضاعة الوقت.أخذ وائل صديقه إلى المستشفى. و قام بكلّ ما يلزم من أجله و اطمأنّ عليه و قفل عائدا بعدما أخبره الطّبيب بأنّ حالته لا تسمح له بالمغادرة الفوريّة.
في القسم الذي أودعوه فيه أظهرت "ميموزا" الممرّضة التي تباشره اهتماما خاصّا به لا سيّما أنّه بدا لها رطب اللّسان، ممازحا،وسيما و طيّبا.و تعاطفت معه أكثر، لمّا سمعت منه حكايته و امتعضت جدّا لما بدر من "لارا"،و اعتبرتها نكرة و حالة شاذّة في القسوة و الرّعونة و العنصريّة،و كادت تنطق منذ اللّحظة الأولى بأنّها على استعداد لإيوائه لو لا أن وقر في ذهنها أنّه ربّما ارتاب من تسرّعها في دعوته.ثمّ بمرور الوقت تطوّرت العلاقة بينهما و صارت تحبّه و لا يمكنها أن تعيش بدونه مهما كلّفها الأمر.
و بعد أسبوع قضاه عثمان في المستشفى تحت العناية لفقده كمّيّة كبيرة من الدّم،خرج مباشرة إلى بيت زوجته "ميموزا".(أقصد بيته).حتّى أنّ وائل فوجئ باختفائه و ظنّ أنّهم لا ريب قد ألقوا عليه القبض.
و نجح بفضلها خلال مدّة وجيزة في الحصول على وثائق الإقامة و في التّعرّف على أصدقاء كثيرين و تمكّن من دخول عالم الأعمال و بدأ رصيده في البنك يتزايد منذ السّنة الأولى. و استطاعت أن تحوّله من طريد شريد مهدّد ،إلى رجل واثق إذا خرج يتجوّل في المدينة ،مرفوع الرّأس إذا مشى بين النّاس ..كان يحبّ الأطفال فأنجبت له بنتا آية في الجمال، بالرّغم من نيّتها في تأجيل مسألة الحمل.و كانت تدعمه و تشير عليه و لا تبخل عليه بالمساندة ،و لا تدع مناسبة إلاّ و تُظهر فيها لجميع معارفها أنّها سعيدة مع من تحبّ.. كانت ممرّضة بحقّ.
و لكي يكافئها عبّر لها بكلّ فظاظة على انتهاء حاجته منها.و طلّقها و جحد كلّ الذي عمِلته من أجله.خذلها و كسر قلبها و خلّف لديها مرارة كبيرة و أصدر في حقّ البنيّة حكما باليتم و رحل دون أدنى التفاتة إلى الوراء.
و تحوّل منذ اللّحظة واقع "ميموزا" إلى جحيم نفسيّ كأنّ أركان حياتها بأسرها تجمّعت في نقطة واحدة،هي غدر عثمان و انفصالها عنه إلى الأبد..عزاؤها الوحيد كان في ابنتها،و كانت تسلّي نفسها بأنّها ربّما إذا كرّست كلّ وقتها لتربيتها و لعملها من أجل إسعادها، التأم جرحها و استطاعت أن تغلب الأسى و تستردّ مرحها و مزاجها الرّائق الذي لم يكن في السّابق يفارقها.
لم تر "ميموزا" عثمان مجدّدا أبدا و لم تسمع عن أخباره شيئا و لم تردها أيّة مكالمة منه منذ سنتين.توقّعت أن يهاتفها على الأقلّ ليسأل عن ابنته،لكنّه لم يفعل.الواضح أنّه شقّ طريق العملة و لا أحد بوسعه كبح جماح نهمه لها،حتّى البنيّة.
هناك مقهى تعوّدت أن تجلس فيه "ميموزا" أيّام الأحد لساعة في الصّباح ،تحتسي القهوة و تطالع ما تقع عليه يدها دون أن تقيّد نفسها بصنف معيّن من الكتب أو مواضيع لمقالات بعينها. كان ما يجذبها إلى ذاك المكان هو ما تجده فيه من حميميّة و راحة و هدوء ،و الأكثر من ذلك إطلالته على أكبر شوارع ميلانو الحيّة.
كان يوما غائما ،و اللّون الطّاغي هو الرّماديّ، لكنّ الجوّ لم يكن باردا كما قد يوحي المنظر لمن يشاهده عبر النافذة.جلست تنتظر القهوة ..أخرجت من حقيبتها مرآة صغيرة .نظرت فيها قليلا ثمّ أخفتها و أخرجت مجلّة نسائيّة و بدأت تقلّب الصّفحات. حضر النّادل ، وضع أمامها القهوة و غاب.أخذت في تحريكها و عينها على المقال،حين مثل أمامها شابّ طويل القامة قمحيّ اللّون أجعد الشّعر.استأذنها في الجلوس فسمحت له ،أو ربّما ذهولها هو الذي سمح له.حدّثها طويلا ،باح لها بأنّه لا يعرفها لكنّها بدت له إنسانيّة و نبيلة ،دلّت على ذلك قسماتها الدّافئة ،لذلك لم يجد حرجا في الحديث معها،كاد يبوح لها بحبّه،لولا أن تذكّر بأنّه ربّما أفسد بذلك كلّ شيء..روى لها أنّه تائه و ليست له أيّ وجهة و بأنّه ملاحق من قِبل البوليس منذ وصوله اللّيلة قبل الفارطة لأنّ هجرته لم تكن قانونيّة.و لمّح لها بأنّه يلتمس منها المساعدة..سمعته "ميموزا" باهتمام كبير دون أن تقاطعه،فتماسك كلامه أكثر لإصغائها،و شعر بأنّه يسير نحو استمالة قلبها..لم تكن الّلغة عائقا ،فهي واحدة من أهمّ مكوّنات تركيبة الوصول إلى الضّفّة ،يتعلّمها الشّباب قبل إضافة المكوّن الأساسي: الموت..و لمّا فرغ من الحديث،دعته لمرافقتها لقضاء شأن من الشّؤون لم تطلعه عليه. تبعها و أغلب ظنّه أنّها وافقت على مبدإ العلاقة بينهما على الأقلّ.بل سافر بخياله بأنّها امرأة سهلة جدّا و بأنّه سيجد صعوبة كبرى في التّخلّص منها بعد زوال فائدتها..لم يطل مسيرهما.قالت إنّها ستمرّ بإحدى صديقاتها..توقّفت و دخلت إلى صيدليّة و طلبت منه أن ينتظرها دقيقتين في الخارج.
ثمّ خرجت و بيدها كيس أدوية .قدّمته له صامتة،فتناوله متردّدا. جسّه من الخارج ثمّ فتحه ليلقي نظرة على ما يحتويه،فقطعت عليه حيرته قائلة و على وجهها ابتسامة باردة:
- ستجد هنا ضمّادات و علبة قطن و حبوب مخفّفة للأوجاع و كلّ ما يلزم لتطهير الجرح.. ستحتاجها صدّقني..و الآن طاب يومك..
ثمّ وقفت على الرّصيف ،و أشارت إلى أوّل سيّارة تاكسي ..
من داخل السيّارة ألقت نظرة على الشّاب من الزّجاج الخلفيّ،فألفته لا يزال واقفا يتفحّص الكيس بذهول و دهشة..
ربّما كان من المُفترض لصالح القصّ أن أزمّ القصّة..و عذرا إن كان ما سأهذيه ،زيادة قد تبدو مجانيّة ،فسادا سيعصف بألوانها و متعة قفلتها..فقط أردت أن أقول بأنّ
لهذا الشابّ" الكمبرس " الطّويل الأسمر اسم و أمّ و أب حنون ...اسمه وليد ،و أمّه لا تعرف عنه شيئا منذ شهر، و والده لا يزال بعد يعتقد أنّ ابنه يحمل اسم صديق قديم...
محمد فطّومي
تعليق