ظمأ فارغ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مريم محمود العلي
    أديب وكاتب
    • 16-05-2007
    • 594

    ظمأ فارغ

    ظمأ...فارغ
    أخذتْ تجوبُ شوارعَ المدينةِ ، تخلعُ سنيَّ قهرِها ، تنطلقُ إلى الساحةِ الرئيسية ، وقفتْ عاريةً في وسطِها بجانبِ تمثالِ الأحلام
    الأحلام التي وئدت وهي في أوج تفتحها في الذات المتطلعة إلى أيام تعانق المستقبل الموشح بالفرح والسعادة
    اجتمعَ الناسُ مشدوهينَ في بادئِ الأمرِ ، ثمّ أخذوا يصيحونَ صيحاتٍ مختلفةٍ : " جنّتِ المسكينة .. لا .. كانتْ شيطاناً بصورةِ ملاكٍ .. إنّها ماجنة .. كافرة " .
    وصرخَ القسمُ الأعظمُ منَ الرجالِ : إنها مجنونةٌ دعوها وشأنَها .
    تمنت لو أنها فعلا مجنونة ... ما أروع الجنون إذا كان يجعلنا لا نفكر ولا ندرك ما يجري حولنا ومعنا
    لكن حتى هذه النعمة لا نتمتع بها رغم أننا نقف عند حافته ... متأرجحين بحبال واهية..لا نستطيع أن نهوي إلى بؤرته ولا نقدر على التراجع
    نظرتْ إليها النساءُ باشمئزازٍ .. الأطفالُ يرمقونَها بنظراتٍ باهتةٍ لا تفهمُ معنى وقفتِها.. الرجالُ يلتهمونها بنظراتٍ مفترسةٍ ويرسمونَ على شفاههم بسماتٍ ملتوية .
    طالَ وقوفُها .. مالتْ الشمسُ إلى الأفولِ واستقرَّ رأيُ الأغلبيةِ على أنها مجنونةٌ فانفضوا عنها راثينَ حالَها وتركوها وحيدةً في الساحة .
    ظلامٌ دامسٌ سترَ عريَها .. انزوتْ إلى ركنٍ منْ أركانِ قاعدةِ التمثال .. جلستْ تحدّقُ بعينٍ ثاقبةٍ إلى ظلامِ الليلِ الذي عانقَ المدينةَ البائسة ..النائمة في أحضان اليأس منذ أن فقد أهلها كرامتهم بعد أن سلموا مفاتيحها إلى السماسرة الذين باعوها في سوق النخاسين .
    شعرتْ بأصواتٍ تشبهُ دبيبَ النملِ لكنهُ ليسَ بنمل . ربّما كانَ حفيفَ الأشجارِ ، لكنْ أينَ الأشجارُ في هذهِ المدينةِ المقهورة؟... التي دنست مياهها.. فأبى الزرع أن يشرب منها . وشرب الناس ملء بطونهم فامتلأت ذواتهم بالذل والهوان ..والاستسلام
    تسلقتْ القاعدةَ واحتمتْ بالتمثال .. سكنتْ سكونَ المومياءِ .. أحسّتْ ببرودةٍ قاتلةٍ تتغلغلُ في أعماقِها الحارة الصارخة التي أبت أن تشرب من تلك المياه فهب الظمأ ينفض عنها أثواب الخنوع والرياء
    كانَ رجالُ المدينةِ يتسلّلونَ إلى الساحةِ وفي داخلِ كلٍّ منهم وحشٌ يريدُ افتراسَها قبلَ الآخر ، فجأةً ظهرتِ النسوةُ يحملْنَ قناديلَ أضاءتْ أرضَ الساحةِ فظهرَ رجالهنَّ حفاةً شبهَ عراةٍ .. نظرنَ إليهم نظراتٍ يتطايرُ منها الشرر.. صرخَ أحدُ الرجالِ متداركاً الموقفَ : أينَ الساقطة ؟.. ارتفعَت أصواتُ الرجال : أينَ الساقطة ؟.
    واختلطتْ أصواتُ الرجالِ والنسوةِ : الغانية .. الكافرة .. أحرقوها.
    ظمأ يشتعل في فراغ اللحظات القادمة من المجهول الرابض فوق الأحلام البعيدة ... حيث تسافر الأماني المختنقة في ظل الحاضر المنكسر تحت نزوات الانحطاط والانهزام
    عانقتِ التمثالَ بكلِّ قوتها .. التصقتْ بهِ حتى أصبحتْ جزءاً منهُ ، لكنَّ القناديلَ ترتفعُ إلى أعلى وتقتربُ منها أكثرَ فأكثر.
    من الفراغ الممتد بين البطون المتخمة والعقول العليلة تنتصب مائدة الشعارات المزيفة
    إنها تراهم .. تسمعُ حواراتِهم ومجادلاتِهم الساخنةَ حولَ الخيانة .. الشرف .. الغضب.
    يتجمد الظمأ من صقيع الاحتضار ..وينهار متحطما على صخرة الواقع المر...لكن ..؟
    فجأةً أحسّتْ بدفءٍ يسري في الجسدِ الباردِ الذي تلتصقُ بهِ ، ويمتدُّ إلى ذاتِها المتجمدة ، وأنَّ شيئاً ما قدْ توحّدَ بها ومدَّها بطاقةٍ منَ النورِ سترتْها نهائياً وجعلتْ روحَها تسمو إلى الأعلى ، فتلاشتْ الأشياءُ .. الرجالُ .. النساءُ .. الساحةُ .. المدينةُ .. لكنّها سمعتْ بكاءَ الأطفالِ الذينَ استيقظوا ولمْ يجدوا أمهاتِهم وآباءَهم .

  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    الأخت الأديبة مريم/
    لغة شاعريّة رصينة و أصيلة.
    جاءت القصّة مشوّقة،سلسة.
    بيد أنّ لي ملاحظة ليتها تجد لديك سعة الصّدر:
    أستاذتي:
    فجأةً أحسّتْ بدفءٍ يسري في الجسدِ الباردِ الذي تلتصقُ بهِ ، ويمتدُّ إلى ذاتِها المتجمدة ، وأنَّ شيئاً ما قدْ توحّدَ بها ومدَّها بطاقةٍ منَ النورِ سترتْها نهائياً وجعلتْ روحَها تسمو إلى الأعلى ، فتلاشتْ الأشياءُ .. الرجالُ .. النساءُ ..
    ماذا حدث؟من أين الدّفء؟ما مأتاه؟ما حقيقته ؟و لم تأخّر كلّ هذا الوقت إن كان مأتاه جسد تمثال الأحلام بصفته رمزا للتّوق و الحرّيّة و الانفلات من قيود الجهل و الضّلال؟
    ربّما استدعيت الخاتمة بسرعة حتّى أنّي لم أتبيّن مصدر التّحوّل المفاجىء الذي حلّ بالمرأة
    خاصّة أنّ القفلة كانت مذهلة و صادمة؟
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • ربيع عقب الباب
      مستشار أدبي
      طائر النورس
      • 29-07-2008
      • 25792

      #3
      أستاذة مريم العلى

      أيها الاسم السامق
      كم تمنيت أن تكوني هنا دائما ، نتعلم منك و من إبداعك الجميل
      و ها أنت تقبلين بروعة طروحك المميزة

      قرأت .. أظنني فى حاجة لقراءة أخرى !!

      لى عودة بأمر الله


      تحيتي و تقديري
      sigpic

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        متمردة هى
        شريرة فى قداستها
        ملعونة فى عيونهم لأنها فجرت هذا الكامن الذى يتحكم في إراداتهم كرجال أصحاء
        قادرين على الفعل ، و لكنهم عجزة شهواتهم ، يحركهم جسد امرأة ، و شهوة آنية بلهاء
        هم جوعى موتهم ، جوعى أفكارهم البليدة
        لقد عرتهم هذه المرأة من ثياب حكمتهم و تخاذلهم تماما
        و كشفت الغطاء عن خروج من دائرة الموت
        بحثا عن فعل ، حتى ولو كان جسد امرأة
        لا تعوزهم القوة و الجسارة ، و أساليب القنص ، بقدر ما تعوزهم النخوة ومطاردة الظالمين
        و حين التحمت بالتمثال و أحست بالدفء كانوا أفرغوا عجزهم ، فى طعنة أو رصاصة
        ليناموا هانئين بعد ذلك ، بينما كانت تشعر براحة ما ، لكن أصوات الضحايا تلعنهم
        و تبحث بأى ذنب قتلت !!

        أشكرك أستاذة مريم على هذه القصة المتمردة ، القوية فى فعلها
        الماتعة فى معناها !!
        عشت فى قلب الدهشة الليلة !!

        خالص احترامي و تقديري
        sigpic

        تعليق

        • خالد يوسف أبو طماعه
          أديب وكاتب
          • 23-05-2010
          • 718

          #5
          الأستاذة الرائعة / مريم محمود العلي
          وقفت هنا طويلا وأنا أصفق لهذا النص الصارخ
          الفاضح لذوات كثيرة جدا جدا من رجالات شتى ونساء شتى
          من حملة الذل والهوان من حملة القبح والعار!!
          هل أصبحت الحرية مطلبا لحوحا لنا ؟
          وهل أصبحنا مجرد حجارة صماء ؟
          نص صارف فاضح لكل شيء حتى الثمالة الحمقاء!!!
          انزوتْ إلى ركنٍ منْ أركانِ قاعدةِ التمثال .. جلستْ تحدّقُ بعينٍ ثاقبةٍ إلى ظلامِ الليلِ الذي عانقَ المدينةَ البائسة ..النائمة في أحضان اليأس منذ أن فقد أهلها كرامتهم بعد أن سلموا مفاتيحها إلى السماسرة الذين باعوها في سوق النخاسين .
          شعرتْ بأصواتٍ تشبهُ دبيبَ النملِ لكنهُ ليسَ بنمل . ربّما كانَ حفيفَ الأشجارِ ، لكنْ أينَ الأشجارُ في هذهِ المدينةِ المقهورة؟... التي دنست مياهها.. فأبى الزرع أن يشرب منها . وشرب الناس ملء بطونهم فامتلأت ذواتهم بالذل والهوان ..والاستسلام

          هنا وجدت القهر والألم
          الحزن والشجون المرارة والفقد
          والحرمان .... هل أصبح هؤلاء مجرد أكوام من البشر
          لا يهمهم غير إفراغ شهوات وملذات رخيصة؟
          أستاذة مريم العلي
          نصك هذا أحزنني جدا ونشر
          السأم في روحي وجميع أنحاء جسدي
          أحييك على هذه التحفة الرائعة والرصينة
          في اللغة والأسلوب المدهش وهذه حقيقة
          لا أجاملك فيها أبدا .....
          تقديري واحترامي الكبيرين
          sigpicلن نساوم حتى آخر قطرة دم فينا

          تعليق

          • سمية الألفي
            كتابة لا تُعيدني للحياة
            • 29-10-2009
            • 1948

            #6
            حبيبة قلبي / ماري

            ياهلا ياقلبي أنرتِ الكون غاليتي

            نصك جميل ومدهش , هكذا هم يتلصصون حتى على المساكين

            تنمو فيهم الرغبة تحركهم نحو الغير معقول

            دائما مشوهين مادامت الشهوة هي التفكير وأقتناص المساكين هو السبيل


            حبيبة قلبي فل وجوري لعيونك

            تحياتي

            تعليق

            • مريم محمود العلي
              أديب وكاتب
              • 16-05-2007
              • 594

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
              الأخت الأديبة مريم/
              لغة شاعريّة رصينة و أصيلة.
              جاءت القصّة مشوّقة،سلسة.
              بيد أنّ لي ملاحظة ليتها تجد لديك سعة الصّدر:
              أستاذتي:
              فجأةً أحسّتْ بدفءٍ يسري في الجسدِ الباردِ الذي تلتصقُ بهِ ، ويمتدُّ إلى ذاتِها المتجمدة ، وأنَّ شيئاً ما قدْ توحّدَ بها ومدَّها بطاقةٍ منَ النورِ سترتْها نهائياً وجعلتْ روحَها تسمو إلى الأعلى ، فتلاشتْ الأشياءُ .. الرجالُ .. النساءُ ..
              ماذا حدث؟من أين الدّفء؟ما مأتاه؟ما حقيقته ؟و لم تأخّر كلّ هذا الوقت إن كان مأتاه جسد تمثال الأحلام بصفته رمزا للتّوق و الحرّيّة و الانفلات من قيود الجهل و الضّلال؟
              ربّما استدعيت الخاتمة بسرعة حتّى أنّي لم أتبيّن مصدر التّحوّل المفاجىء الذي حلّ بالمرأة
              خاصّة أنّ القفلة كانت مذهلة و صادمة؟
              الأستاذ الرائع : محمد فطومي
              أليس الحجر هو أكثر دفئا من عقول تجمدت ؟؟؟؟؟؟
              أو من أناس لايهمهم الذل والهوان مهما اعتراهم ؟
              كل الشكر والتقدير لمرورك الرائع تحياتي محملة بعبق الورد

              تعليق

              • مؤيد البصري
                أديب وكاتب
                • 01-09-2010
                • 690

                #8
                قصةٌ رائعة جميلةٌ جداً أجدت بها وأحسنت الصياغة بوركت سيدتي تقبلي مروري وتقديري مودتي

                تعليق

                • محمد فطومي
                  رئيس ملتقى فرعي
                  • 05-06-2010
                  • 2433

                  #9
                  نعم صدقت أستاذة مريم ،أنا أكثر منك تحاملا ربّما من هذه النّاحية.
                  شكرا لك أديبة رائعة و قديرة.
                  مدوّنة

                  فلكُ القصّة القصيرة

                  تعليق

                  • مريم محمود العلي
                    أديب وكاتب
                    • 16-05-2007
                    • 594

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
                    متمردة هى
                    شريرة فى قداستها
                    ملعونة فى عيونهم لأنها فجرت هذا الكامن الذى يتحكم في إراداتهم كرجال أصحاء
                    قادرين على الفعل ، و لكنهم عجزة شهواتهم ، يحركهم جسد امرأة ، و شهوة آنية بلهاء
                    هم جوعى موتهم ، جوعى أفكارهم البليدة
                    لقد عرتهم هذه المرأة من ثياب حكمتهم و تخاذلهم تماما
                    و كشفت الغطاء عن خروج من دائرة الموت
                    بحثا عن فعل ، حتى ولو كان جسد امرأة
                    لا تعوزهم القوة و الجسارة ، و أساليب القنص ، بقدر ما تعوزهم النخوة ومطاردة الظالمين
                    و حين التحمت بالتمثال و أحست بالدفء كانوا أفرغوا عجزهم ، فى طعنة أو رصاصة
                    ليناموا هانئين بعد ذلك ، بينما كانت تشعر براحة ما ، لكن أصوات الضحايا تلعنهم
                    و تبحث بأى ذنب قتلت !!

                    أشكرك أستاذة مريم على هذه القصة المتمردة ، القوية فى فعلها
                    الماتعة فى معناها !!
                    عشت فى قلب الدهشة الليلة !!



                    خالص احترامي و تقديري
                    الأستاذ القدير والرائع : ربيع عقب الباب
                    لست أدري كيف أعبر لك عن شكري وامتناني لهذه القراءة الرائعة منك التي أضفت على النص رونقا خاصا
                    لقد استعطت حقا أن تسبر أغوار النص
                    كل الشكر والتقدير لك
                    تحياتي محملة بعبق الورد

                    تعليق

                    • مختار عوض
                      شاعر وقاص
                      • 12-05-2010
                      • 2175

                      #11
                      المبدعة القديرة الأستاذة
                      مريم محمود العلي
                      ربما كان هذا هو دخولي الأول لمحراب فنك؛ فإذا بي أمام ذات مفكرة، وقامة مبدعة، وقلم شاعر، ونفس ثائرة محفِّزة، وروح أخلصت للفن فأعطاها ذاته حتى تعرَّى أمامها في صورة امرأة أرادت أن تطهِّر قومها فلم تجد إلا افتعال العري والجنون لتعرِّي زيفهم وخنوعهم..
                      سيدتي..
                      أعترف أن القراءة لك متعة تستحق الوقوف كثيرًا أمام مرامي إبداعك اللامحدود..
                      سعدت بالتعرف إلى إبداعك فاقبليني مريدًا لك.
                      مودتي والألق لروحك.

                      تعليق

                      • وفاء الدوسري
                        عضو الملتقى
                        • 04-09-2008
                        • 6136

                        #12
                        نعم أستاذة/مريم
                        هذا هو المجتمع القابع في عقل
                        يعشق التمثال الذي.........
                        يدور حوله بالتصفيق الغريق!..
                        مجتمع يتقن فنون الكسر....
                        كسر اللون، العطر، والصور
                        مجتمع كل شيء فيه يحلق بعيداً...
                        عن الحلم، وقريباً من فراغ فجر ليس له بداية
                        لليل يتشنج بإيقاع حزن ثمل من روح البقاء
                        إلى الشقاء!..
                        شكراً للإبداع
                        تحية طيبة
                        التعديل الأخير تم بواسطة وفاء الدوسري; الساعة 05-11-2010, 12:34.

                        تعليق

                        • أمل ابراهيم
                          أديبة
                          • 12-12-2009
                          • 867

                          #13
                          المشاركة الأصلية بواسطة مريم محمود العلي مشاهدة المشاركة
                          ظمأ...فارغ
                          أخذتْ تجوبُ شوارعَ المدينةِ ، تخلعُ سنيَّ قهرِها ، تنطلقُ إلى الساحةِ الرئيسية ، وقفتْ عاريةً في وسطِها بجانبِ تمثالِ الأحلام
                          الأحلام التي وئدت وهي في أوج تفتحها في الذات المتطلعة إلى أيام تعانق المستقبل الموشح بالفرح والسعادة
                          اجتمعَ الناسُ مشدوهينَ في بادئِ الأمرِ ، ثمّ أخذوا يصيحونَ صيحاتٍ مختلفةٍ : " جنّتِ المسكينة .. لا .. كانتْ شيطاناً بصورةِ ملاكٍ .. إنّها ماجنة .. كافرة " .
                          وصرخَ القسمُ الأعظمُ منَ الرجالِ : إنها مجنونةٌ دعوها وشأنَها .
                          تمنت لو أنها فعلا مجنونة ... ما أروع الجنون إذا كان يجعلنا لا نفكر ولا ندرك ما يجري حولنا ومعنا
                          لكن حتى هذه النعمة لا نتمتع بها رغم أننا نقف عند حافته ... متأرجحين بحبال واهية..لا نستطيع أن نهوي إلى بؤرته ولا نقدر على التراجع
                          نظرتْ إليها النساءُ باشمئزازٍ .. الأطفالُ يرمقونَها بنظراتٍ باهتةٍ لا تفهمُ معنى وقفتِها.. الرجالُ يلتهمونها بنظراتٍ مفترسةٍ ويرسمونَ على شفاههم بسماتٍ ملتوية .
                          طالَ وقوفُها .. مالتْ الشمسُ إلى الأفولِ واستقرَّ رأيُ الأغلبيةِ على أنها مجنونةٌ فانفضوا عنها راثينَ حالَها وتركوها وحيدةً في الساحة .
                          ظلامٌ دامسٌ سترَ عريَها .. انزوتْ إلى ركنٍ منْ أركانِ قاعدةِ التمثال .. جلستْ تحدّقُ بعينٍ ثاقبةٍ إلى ظلامِ الليلِ الذي عانقَ المدينةَ البائسة ..النائمة في أحضان اليأس منذ أن فقد أهلها كرامتهم بعد أن سلموا مفاتيحها إلى السماسرة الذين باعوها في سوق النخاسين .
                          شعرتْ بأصواتٍ تشبهُ دبيبَ النملِ لكنهُ ليسَ بنمل . ربّما كانَ حفيفَ الأشجارِ ، لكنْ أينَ الأشجارُ في هذهِ المدينةِ المقهورة؟... التي دنست مياهها.. فأبى الزرع أن يشرب منها . وشرب الناس ملء بطونهم فامتلأت ذواتهم بالذل والهوان ..والاستسلام
                          تسلقتْ القاعدةَ واحتمتْ بالتمثال .. سكنتْ سكونَ المومياءِ .. أحسّتْ ببرودةٍ قاتلةٍ تتغلغلُ في أعماقِها الحارة الصارخة التي أبت أن تشرب من تلك المياه فهب الظمأ ينفض عنها أثواب الخنوع والرياء
                          كانَ رجالُ المدينةِ يتسلّلونَ إلى الساحةِ وفي داخلِ كلٍّ منهم وحشٌ يريدُ افتراسَها قبلَ الآخر ، فجأةً ظهرتِ النسوةُ يحملْنَ قناديلَ أضاءتْ أرضَ الساحةِ فظهرَ رجالهنَّ حفاةً شبهَ عراةٍ .. نظرنَ إليهم نظراتٍ يتطايرُ منها الشرر.. صرخَ أحدُ الرجالِ متداركاً الموقفَ : أينَ الساقطة ؟.. ارتفعَت أصواتُ الرجال : أينَ الساقطة ؟.
                          واختلطتْ أصواتُ الرجالِ والنسوةِ : الغانية .. الكافرة .. أحرقوها.
                          ظمأ يشتعل في فراغ اللحظات القادمة من المجهول الرابض فوق الأحلام البعيدة ... حيث تسافر الأماني المختنقة في ظل الحاضر المنكسر تحت نزوات الانحطاط والانهزام
                          عانقتِ التمثالَ بكلِّ قوتها .. التصقتْ بهِ حتى أصبحتْ جزءاً منهُ ، لكنَّ القناديلَ ترتفعُ إلى أعلى وتقتربُ منها أكثرَ فأكثر.
                          من الفراغ الممتد بين البطون المتخمة والعقول العليلة تنتصب مائدة الشعارات المزيفة
                          إنها تراهم .. تسمعُ حواراتِهم ومجادلاتِهم الساخنةَ حولَ الخيانة .. الشرف .. الغضب.
                          يتجمد الظمأ من صقيع الاحتضار ..وينهار متحطما على صخرة الواقع المر...لكن ..؟
                          فجأةً أحسّتْ بدفءٍ يسري في الجسدِ الباردِ الذي تلتصقُ بهِ ، ويمتدُّ إلى ذاتِها المتجمدة ، وأنَّ شيئاً ما قدْ توحّدَ بها ومدَّها بطاقةٍ منَ النورِ سترتْها نهائياً وجعلتْ روحَها تسمو إلى الأعلى ، فتلاشتْ الأشياءُ .. الرجالُ .. النساءُ .. الساحةُ .. المدينةُ .. لكنّها سمعتْ بكاءَ الأطفالِ الذينَ استيقظوا ولمْ يجدوا أمهاتِهم وآباءَهم .
                          الأستاذة مريم محمود العلي
                          مساء الخير والعافية
                          إنه فعلا ظمأ فارغ ، الحرية؟ والجشع والظلم والقسوة
                          والشهوة هذا كله زيف بالمطالب حتى الجنون يرضخ للقوانين وشروط
                          للحرية، والشرف، والدين، وليس للجنون فقط هذا ما يحصل الآن للشريف
                          والمناضل والمثقف والمتخلف هذا ما يحكمنا قوانين فارغة فهل التحدي التي
                          سلكته هذه المجنونة يسكتهم دفعت حياتها لدفئ مجنون وهم يعتبرونه نصر علي
                          مجنونة
                          سلم قلمك أستاذتي الغالية أسعدني المرور وشرفني
                          تحية وود
                          درت حول العالم كله.. فلم أجد أحلى من تراب وطني

                          تعليق

                          • إيمان الدرع
                            نائب ملتقى القصة
                            • 09-02-2010
                            • 3576

                            #14
                            من ذاكرة عام 2010
                            تحيّاتي أستاذة / مريم محمود العلي / نفتقدك جدّاً...
                            كلّ عامٍ وأنتم بخيرٍ

                            تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

                            تعليق

                            يعمل...
                            X