((ليلة لا تنسى))
وأخيراً جاءت اللحظة الموجعة التي تواريت عنها كثيراً، وأبعدتها عن مخيلتي مراراً، وخفتها وواجهتها بآن واحد.
هذه الليلة سيزفّ فيها زوجي الحبيب إلى عروسه المطلّقة الولود ،التي أفرزتها مرارة الأيام لتقدّمها له، بعد يأس شديد من إنجابي، وبعد صراع مرير مع الزمن الذي لم يقدّم لي أيّ بارقة أمل في الأمومة..
لم يعد لي إلا القبول والإذعان لهذا الأمر، فلا بد ّأن يكون له ولد من صلبه يحمل اسمه، وأنا... لا بدّ لي أن أرضخ لهذا الحكم القاسي، لأني أردت الاحتفاظ به، تتويجاً لحبّ قديمٍ متجدّدٍ لم تفك عراه رغم قسوة الواقع.
لأول مرة أشعر بالضياع، وبالوحدة ، الصمت يلفّني، يشعرني بالتلاشي، لم أعتد في ليلة واحدة البعد عن زوجي ورفيق دربي، كان يهدهدني قبل النوم كطفلة صغيرة أتوسّد صدره الدافئ بتشبّث غريب يتعمقّ كلّ يوم أكثر. البرودة تمتد إلى أطرافي، وروحي، نبضات قلبي تبكي، وجوارحي تئنّ، ليس من السهل أن تقتطع أوصالي مني لتنام في أحضان أخرى، لقد كان هو تلك الأوصال التي بارحتني.
لم أكن أتوقّع هذا الكمّ من الآلام التي تعتصر المرأة المحبّة في لحظة كهذه مهما كانت توقّعاتها، ومهما تهيّأتْ لها. لست أعلم بأني سأستحضر بهذه اللحظة كلّ الصحارى الجرداء بأشواكها وعلقمها، وكلّ الأشجار اليابسة، وكلّ أوراق الخريف الباكية، التي تتلاعب بها الرياح.. وأودعها قلبي البائس، فما أشبهني بكل هذه الأشياء... (أنا المرأة التي وصلت عتبة الشتاء ولم أدغدغ أحشائي بحركات جنين يعبث، يتمطّى، يلهو بشقاوةٍ تشتكيها الحبلاوات بغنجٍ ودلالٍ).
كان يؤلمني صمت زوجي الموجع في أحايين كثيرة، عندما تعصف به أشواق الأبوّة مدارياً عني الكثير من المشاعر، أعرف أنه كان يشفق عليّ، ولا يريد أن يخسرني، دافناً بين ضلوعه شغفه بأن يعانق بعضاً منه، ابنه... ذلك الكائن الغضّ الطريّ، الحُلم... الذي يعصف بكيانه كالمارد.
كيف لك يا زوجي المتعب أن تدفن هذا المارد، الذي يكبر كلّ يوم، ويداعبك مناجياً كلّ لحظة، ويسدّ عليك الدروب أينما مشيت، يقهقه عالياً في وجهك، ويستنزف مشاعرك، ويزيد شوقك وحنينك، ويفقدك كلّ صبرٍ على المكابرة...؟؟
لن أنسى هذا اليوم ما حييتْ، عندما أقدمت على تلك الخطوة، وقد عدّتها صديقاتي وأخواتي مغامرة حمقاء، سوف أخسر فيها كل شيء بعد أن تتزوج ويجرفك هذا الحنين الطويل إلى اللاعودة.
يومها أدرت ظهري لهنّ، وأصمّيت أذني عنهن، وفي إصرارٍ عجيب أقنعتك .
حينها لم تكن تصدّق ما سمعت مني، كابرت، وأسكتّني مراراً.. ألاّ أكمل، ولكني أصررتُ... وقدّمت لك زميلتي في العمل -المدرسّة هدى- المطلّقة الولود، التي كانت تبثّني همومها كلّ يومٍ عن حظّها العاثر، وهذه المحنة التي لفّتْ أيامها بالحزن والألم، وعن ضائقتها المالية، ووحدتها، وتنصّل الأهل منها، ومحاربتها، وتضييق الخناق عليها ،وجدتها مقهورة مثلي ،شيء ما كان يصلني بها... هو خيط الألم والحرمان الذي وحّد بين نفسينا وقلبينا، كلّ بمحرابه.
طاردتها بفكرتي هذه، استنكرتها أولاً وشكّكتْ في مصداقيتها، حسبتني أختبرها بسبب زياراتها المتكرّرة لي في المنزل... والتقائها بزوجي مرات عديدة ،وصارتْ تعاملني بتخوّف وحذر، ولكنها أيقنت صدق مقصدي، وجديّة طرحي، وتركتُ لنفسي العنان في إكمال بقية الفصول، كنت أسير بهدفٍ وبلا هدفٍ، أمشي بطريقٍ على غير هدى دون أن أعلم بما يخبّئه لي هذا الطريق، وها هي يا زوجي الحبيب بين يديك، تنعم بدفء صدرك ،تحيطها بذراعيك بدلاً عني، تلهبها بأنفاسك، وتعتلي بها صهوة رحلاتك المجنونة التي كنت توصلني بها إلى أعلى القمم، أبعد الجزر، وأحلى البقاع.
ما حسبت لهذه اللحظة التي سأقتل فيها ألف مرة بهذا الليل المليء بالصقيع ،وأنا أتقلّب على فراشي البارد أستحضرك في قلبي، وتناديك روحي، تعذّبني وحدتي واشتياقي، وها أنذا تبكيك كلّ جوارحي، تبكيك الجدران والنوافذ والستائر وكلّ الزوايا، ليت حبّات المطر التي تطرق هذا الشبّاك العتيق الذي ضمّنا قربه تنقل إليك دموعي ،وخوفي، واضطراب قلبي، أشعر بالصّقيع يلفّني، ليتك قربي، وحدك القادر على إسعادي، وبعث الدفء والأمان بين ضلوعي، لن أستطيع النوم في هذا الليل الموحش... ولن أستطيع أبداً...
مهلاً... ماذا أسمع؟ ... وقع خطواتك أيّها الحبيب... عبقك يأتيني عبر أبواب المنزل ،هذا أنت.. نعم أنت... أتيتني بكلّ الحبّ والوفاء الذي عهدته فيك، هذا أنت.. نعم لا أصدّق أني بين أحضانك، وأنك فضلتني على عروسك الليلة..
لن أنسى ما حييتُ هذه الليلة، كانت أجمل من ليلة زفافنا الأولى ،ففيها اختلط الحبّ..، بالدموع...، برفقة العمر...، بالوفاء.
قلت لي أني أجمل عروس في الدنيا، وأنّ هدى.. زوجك الجديدة، رضيت بكلّ حبّ أن تكون هذه الليلة عندي، تقضيها معي، تعطيني فيها كلّ كنوز العمر المخبّأة في صدرك الذي يحميني ويقوّيني.
لن أنسى ما حييت هذه الليلة، أعانتني على تحمّل الألم، وقبول الواقع، واجتياز الكثير من المصاعب، وتوّجتني بعدها المليكة الأم على عرش بيتك.. بكلّ ما يحتويه، ما قدّر لي من حياة.
هذه الليلة سيزفّ فيها زوجي الحبيب إلى عروسه المطلّقة الولود ،التي أفرزتها مرارة الأيام لتقدّمها له، بعد يأس شديد من إنجابي، وبعد صراع مرير مع الزمن الذي لم يقدّم لي أيّ بارقة أمل في الأمومة..
لم يعد لي إلا القبول والإذعان لهذا الأمر، فلا بد ّأن يكون له ولد من صلبه يحمل اسمه، وأنا... لا بدّ لي أن أرضخ لهذا الحكم القاسي، لأني أردت الاحتفاظ به، تتويجاً لحبّ قديمٍ متجدّدٍ لم تفك عراه رغم قسوة الواقع.
لأول مرة أشعر بالضياع، وبالوحدة ، الصمت يلفّني، يشعرني بالتلاشي، لم أعتد في ليلة واحدة البعد عن زوجي ورفيق دربي، كان يهدهدني قبل النوم كطفلة صغيرة أتوسّد صدره الدافئ بتشبّث غريب يتعمقّ كلّ يوم أكثر. البرودة تمتد إلى أطرافي، وروحي، نبضات قلبي تبكي، وجوارحي تئنّ، ليس من السهل أن تقتطع أوصالي مني لتنام في أحضان أخرى، لقد كان هو تلك الأوصال التي بارحتني.
لم أكن أتوقّع هذا الكمّ من الآلام التي تعتصر المرأة المحبّة في لحظة كهذه مهما كانت توقّعاتها، ومهما تهيّأتْ لها. لست أعلم بأني سأستحضر بهذه اللحظة كلّ الصحارى الجرداء بأشواكها وعلقمها، وكلّ الأشجار اليابسة، وكلّ أوراق الخريف الباكية، التي تتلاعب بها الرياح.. وأودعها قلبي البائس، فما أشبهني بكل هذه الأشياء... (أنا المرأة التي وصلت عتبة الشتاء ولم أدغدغ أحشائي بحركات جنين يعبث، يتمطّى، يلهو بشقاوةٍ تشتكيها الحبلاوات بغنجٍ ودلالٍ).
كان يؤلمني صمت زوجي الموجع في أحايين كثيرة، عندما تعصف به أشواق الأبوّة مدارياً عني الكثير من المشاعر، أعرف أنه كان يشفق عليّ، ولا يريد أن يخسرني، دافناً بين ضلوعه شغفه بأن يعانق بعضاً منه، ابنه... ذلك الكائن الغضّ الطريّ، الحُلم... الذي يعصف بكيانه كالمارد.
كيف لك يا زوجي المتعب أن تدفن هذا المارد، الذي يكبر كلّ يوم، ويداعبك مناجياً كلّ لحظة، ويسدّ عليك الدروب أينما مشيت، يقهقه عالياً في وجهك، ويستنزف مشاعرك، ويزيد شوقك وحنينك، ويفقدك كلّ صبرٍ على المكابرة...؟؟
لن أنسى هذا اليوم ما حييتْ، عندما أقدمت على تلك الخطوة، وقد عدّتها صديقاتي وأخواتي مغامرة حمقاء، سوف أخسر فيها كل شيء بعد أن تتزوج ويجرفك هذا الحنين الطويل إلى اللاعودة.
يومها أدرت ظهري لهنّ، وأصمّيت أذني عنهن، وفي إصرارٍ عجيب أقنعتك .
حينها لم تكن تصدّق ما سمعت مني، كابرت، وأسكتّني مراراً.. ألاّ أكمل، ولكني أصررتُ... وقدّمت لك زميلتي في العمل -المدرسّة هدى- المطلّقة الولود، التي كانت تبثّني همومها كلّ يومٍ عن حظّها العاثر، وهذه المحنة التي لفّتْ أيامها بالحزن والألم، وعن ضائقتها المالية، ووحدتها، وتنصّل الأهل منها، ومحاربتها، وتضييق الخناق عليها ،وجدتها مقهورة مثلي ،شيء ما كان يصلني بها... هو خيط الألم والحرمان الذي وحّد بين نفسينا وقلبينا، كلّ بمحرابه.
طاردتها بفكرتي هذه، استنكرتها أولاً وشكّكتْ في مصداقيتها، حسبتني أختبرها بسبب زياراتها المتكرّرة لي في المنزل... والتقائها بزوجي مرات عديدة ،وصارتْ تعاملني بتخوّف وحذر، ولكنها أيقنت صدق مقصدي، وجديّة طرحي، وتركتُ لنفسي العنان في إكمال بقية الفصول، كنت أسير بهدفٍ وبلا هدفٍ، أمشي بطريقٍ على غير هدى دون أن أعلم بما يخبّئه لي هذا الطريق، وها هي يا زوجي الحبيب بين يديك، تنعم بدفء صدرك ،تحيطها بذراعيك بدلاً عني، تلهبها بأنفاسك، وتعتلي بها صهوة رحلاتك المجنونة التي كنت توصلني بها إلى أعلى القمم، أبعد الجزر، وأحلى البقاع.
ما حسبت لهذه اللحظة التي سأقتل فيها ألف مرة بهذا الليل المليء بالصقيع ،وأنا أتقلّب على فراشي البارد أستحضرك في قلبي، وتناديك روحي، تعذّبني وحدتي واشتياقي، وها أنذا تبكيك كلّ جوارحي، تبكيك الجدران والنوافذ والستائر وكلّ الزوايا، ليت حبّات المطر التي تطرق هذا الشبّاك العتيق الذي ضمّنا قربه تنقل إليك دموعي ،وخوفي، واضطراب قلبي، أشعر بالصّقيع يلفّني، ليتك قربي، وحدك القادر على إسعادي، وبعث الدفء والأمان بين ضلوعي، لن أستطيع النوم في هذا الليل الموحش... ولن أستطيع أبداً...
مهلاً... ماذا أسمع؟ ... وقع خطواتك أيّها الحبيب... عبقك يأتيني عبر أبواب المنزل ،هذا أنت.. نعم أنت... أتيتني بكلّ الحبّ والوفاء الذي عهدته فيك، هذا أنت.. نعم لا أصدّق أني بين أحضانك، وأنك فضلتني على عروسك الليلة..
لن أنسى ما حييتُ هذه الليلة، كانت أجمل من ليلة زفافنا الأولى ،ففيها اختلط الحبّ..، بالدموع...، برفقة العمر...، بالوفاء.
قلت لي أني أجمل عروس في الدنيا، وأنّ هدى.. زوجك الجديدة، رضيت بكلّ حبّ أن تكون هذه الليلة عندي، تقضيها معي، تعطيني فيها كلّ كنوز العمر المخبّأة في صدرك الذي يحميني ويقوّيني.
لن أنسى ما حييت هذه الليلة، أعانتني على تحمّل الألم، وقبول الواقع، واجتياز الكثير من المصاعب، وتوّجتني بعدها المليكة الأم على عرش بيتك.. بكلّ ما يحتويه، ما قدّر لي من حياة.
22/2/2004
تعليق