القصيدة التناغمية
يرى فيرديناند دي سوسير أن الكلمة بالمعنى الواسع لها "هي رمز لفظي يستغرق فترةزمنية ما و ذو أثر نفسي على المتلقي , يعبر عن مدلول ما مادي أو معنوي والعلاقة بينالدّال والمدلول هي خطّية اعتباطية ,كقولنا مثلاً المربع = ⊿
والكلام بوصفه نظاماًيعطي معناه ضمن العلاقات الإختلافية بين الكلمات (الرموز)و ضمن علاقة مركبة يختلف وقعها النفسي على المتلقي باختلاف هذه العلاقة مثلاً يختلف قولنا (سقط الإنسان إذا كذب ) عن قولنا (إذا سقط الإنسان كذب)
وهذا قريب جداً مما قاله أدونيس و الذي هوالمحور المركزي-في رأيي- للموضوع
((المعنى هو فعالية العلاقات التي ينتجهاالكلام.يكون المعنى غنيا بقدر ما تكون هذه العلاقات غنية. وفي هذا الحيز ، يمكنالقول إن " الشكل " هو المعنى .النقد ، في بعض وجوهه ، هو الكشف عن هذهالفعالية))...مع النظر أيضا إلى ما قاله عبد القاهر الجرجاني –كما لفت نظريأحدهم- :
((يُعلم أنه لا يستعار اللفظ مجرداً عن المعنى ولكن يستعار المعنى ثماللفظ يكون تابعا للمعنى))
يمكن لنا القول ما يلي:
بافتراض غض النظر عن المشاريع الثقافية واهتمامات كل من تقدم ذكره ,و بافتراض أن ما تقدم كان صحيحا- يمكننا استنتاج ما يلي :
*أن التأثير النفسي الواقع على المتلقي بسبب العلاقات المركبة للكلام واستغراقها الزمني في القول هو الذي يحدد ابتداءً ما هو شعر مما هوليس منه , وهذا ما يدفع المتلقي للقول بأن ألفية أبن مالك (الفذّة ) ليست من الشعرفي شيء وإن جاءت على بحر الرجز, وعليه يكون تطور القصيدة من الشكل العمودي و حتى قصيدة نثر هو محاولة لاستحداث المعاني من خلال علاقات مركبة جديدة للكلام وبالتالي تطوير التأثر النفسي عند المتلقي . أي أن جدلية (الشكل / المعنى ) هي الباعث لهذاالتطور.
1-
إن البيئة البسيطة التي عاشها العربي القديم لا من حيث التطورالفكري وإنما من حيث تعقيدات الحياة اليومية واعتزازه بفصاحته اللغة حدّ القداسة بوصفها لغة القرآن الكريم ولأسباب حياتية أخرى كثيرة أوردها أدونيس في دراسته (الثابت والمتحول) جعلت الخطاب الشعري يستند أساسا على المعجم اللفظي الهائل للغة العربية في علاقاتها الخطية المباشرة من الدال إلى المدلول و ضمن سياق ذو نظام تركيبي ثابت تقريبا وصفه الخليل ببحور الشعر , فاعتبار القصيدة قوية أوضعيفة كان مرهونا بمدى حسن اختيار ألفاظها ومدى انسجامه مع الوزن والقافية وجاءت هنالك مصطلحات نقدية تتلاءم مع ذلك ( الزحاف ,العلة, التصريع و, الوصل , الخروج...الخ). وبالرغم من وجود تجارب فذّة للكتابة بشكل مغاير إلا أن الأركان الأساسية لتمييز الخطاب الشعري عن غيره كانت أقوى من أن تكسر حيث كانت هذه الأركان مرتبطة بشكل كبير جدا بالبيئة النفسية والحياتية للعربي في ذلك الوقت , من أهم هذه التجارب هي كتابات المتصوفة كالطواسين للحلاج , منطق الطير للعطار, حكمة الإشراق للشيخ المقتول السهروردي ,-على سبيل المثال لاالحصر- وغيرها الكثير.
2-
ومع تعقد الحياة اليومية والبيئة الحياتية بشكل عام كان لابد من تطور النص الشعري لمواكبة هذا التعقيد والبحث عن فسحة في المستوى المُركّب للكلام لتعبير متطور في الخطاب الشعري يواكب تعقد البيئة اليومية , فجاءت قصيدة التفعيلة بمثابة الحجر الذي تم رميه في المياه الراكدة فتحركت بعده كل الأشياء. وكانت قصيدة النثر هي الاستطراد الطبيعي لهذا التطور من حيث تفعيل العلاقة الكلامية على المستوى المركب حتى أقصى حدودها ,و كانت المحاولات الجادة لتطوير هذه العلاقات في النص الشعري هي الأساس لظهور قصيدة النثر , وما القول عن التأثّر بأعمال بودلير , رامبو وغيرهم إلا هو –في رأيي- تحقيق لمقولة أن التالي(( يبدأ من آخر سطح وطئته الأقدام )) . وإنما البذور الحقيقية لظهور قصيدة النثر كانت في التطور الطبيعي للخطاب الشعر العربي وليست خارجة عنه .
3-
إن من حق المنظرين لقصيدة النثر كجنس أدبي متفرد إعطاء صفات وشروط محددة تميز قصيدة النثر مما ليس منها كوحدة الموضوع , وضرورة التكثيف وغيره ,ولكن أليس في محاولة إطلاق التحررنحو المعنى حتى أقصاه ضمن الشروط الواجب توافرها في قصيدة النثر هو تقييد للشعر بشكل أو آخر ؟
فيكون صحيح تماماً عندما نقول أن قصيدة النثر بتفردها لاتقبل الموسيقى الخارجية العالية أو الالتزام بالقافية و لكنه من جهة أخرى سيلزم الشاعر بتغيير وتبديل النص الشعري إذا أحسّ أنّ قصيدته النثرية فيها شيء من الموسيقى الخارجية أو نوع من الالتزام بقافية , تماما كما يلزم كاتب القصيدة العامودية أن يغير أو يبدل النص الشعري إذا أحسّ بكسر في الوزن أو عدم ملائمة القافية.
مع الاحترام الكبير للنظرة التشريحية للنصوص الشعرية والتي تستند أساساً على ضرورة تقسيمه و إفراد أدوات صناعة كل قسم,و القول بتوازي هذه الأدوات دون تقاطعها.
إن تطور النص الشعري كان طبيعيا من تتابع الشكل للتوافق مع المعنى , من الخارج الممثل( بالوزن/الموسيقى الخارجية / القافية/ المفردات الواضحة وعلاقاتهاالخطية الطافية على السطح…..) إلى الداخل الممثل (بالموسيقى الداخلية / الترميز / الكثافة / الكلام بعلاقاته الغائرة المركبة التي تفضي إلى سعة المعنى …..) وحتى تكتمل دورة التطور الشعري –على المستوى النظري على الأقل- يجب أن تكتمل جديلة (الشكل / المعنى ) حتى آخرها فنصل ارتقاءً إلى النص الشعري المكتمل الصفات الملتزم فقط بانسجام ثنائية ( المبنى/المعنى) , ويكون بذلك تصنيف العمودي , التفعيلة, المنثور,النثر ….هو مجرد ضرورة مرحلية ليس إلا فالأصل أن الشعرهو واحد ويحتمل كل ما تقدم .
و طالما أن الأثر النفسي الواقع على المتلقي يخبره أن ما قرأه أو سمعه شعرا, فيكون ما قيل أو كتب هو مُندرج تحت بند الشعر , ويكون ملتزم بكل ما تقدم في إطار الانسجام , وتكون ذات القصيدة راقصة ساخرة حيناً , هادئة كثيفة حيناً , صارخة غاضبة حيناً , موزونة حيناً منثورةً حيناً …وكل ذلك مرهون بضرورة انسجام القول مع المُراد منه , لا مع شروط مسبقة واجبة الإتباع هنا و واجبة التخلي عنها هناك .
إن الشعر: هو انسجام الشكل والمعنى حدّ التماثل.....
إن هذه النظرة بالذات ما جعلتني أحمل قصائدي على ظهري حين تم مصادرتها من أقسام العمودي ,التفعيلة , والنثر بدعوى عدم اتفاقها مع أي من هذه الأقسام , في العديد من المنتديات ,مما دعاني بإلحاح للتفكير بهكذا مشروع , والذي تم النقاش حوله بشكل مطول مع الأخ الشاعر زياد هديب وإنتاج عدّة نصوص نعتقد أنها واعية وتخدم الموضوع وتم مناقشة المشروع أيضا مطولاً مع الأخ الشاعر الكبير محمود النجار, والذي أوضح توافق النظرة عند الجميع ,وقام الأخ الشاعر محمود النجار مشكوراً كثيراً , بتبني المشروع وإفراد قسم خاص به ضمن تجمع شعراء بلا حدود , ضمن جهود كبيرة أخرى لإثراء الموضوع. فكانت ولادة القصيدة التناغمية ضمن أصوات ودراسات أخرى تتحدث عن ذات الموضوع وتنظّر له .
أعتقد أن التناغمية على المستوى الدلالي والقرائني تمثل و تدّعي- من حيث الإمكان- توافق بعض أو كل أشكال الشعر ضمن الجملة الشعرية الواحدة والجمل الشعرية ضمن القصيدة الواحدة باعتبار أن كل أشكال الشعر تتفق في أنّها موقعة , وبافتراض أن التوقيع هو أحد أهم العناصر الدّالة على الشعر , سيكون شعراً-ابتداءً- كل نص موقع مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة الكلامية المركبة من حيث المعنى ,وما الموزون الخليلي وغيره , والتفعيلي ,والشعر النثري, سوى حالات إيقاعية أحادية خاصة للشعر, تتأتى بأحاديتها –بحسب ما أدعي- عبر الاستدعاء الواعي غالباً , و من الطبيعي أن العقل التأويلي الراصد والنقاد أن يكون أحادي النظرة عند النظر لهذه الحالات الخاصة والتعبير عنها وذلك ليس بالضرورة إنقاصاً من قيمة تلك الحالات الشعرية ذات القامات العالية أو إنقاصاً للنقد المبني عليها وإنما الاتجاه الواحد المبني على الشكل المحدد مسبقا والتركيب المعنوي المتوافق معه سيبرز بالضرورة المنطقية إشكالية ,أن لا تتعايش التناغمية بخصوصيتها التركيبية مع هذه النظرة الراصدة والناقدة الأحادية .
أعتقد أن المشروع التناغمي هو ثورة للشعر على المستوى المفهومي والتأصيلي للوصول إلى ما يمكن أن نسميه دراما الإيقاع وبالتالي تحرير المعنى من القيد الأحادي, والذي يمكن له أن يتأتى (أي دراما الإيقاع) من الاستدعاءات الواعية و/أو التوافقات المتأتية من ذات النص شرط الإبداع الناضج ,وهذا يستدعي بالضرورة ثورة بالتوازي على المستوى التأويلي والنقدي , فأنا أعترف هنا أن المشروع التناغمي يُخرج إلى السطح إشكالية للجدل كبيرة ومهمة وهي تركيبية النص الشعري والذي يحتاج إلى تأويل, رصد , ونقد على المستوى التركيبي وعلى المستوى البنائي , ما يمكن أن نسميه ما بعد التفكيكية /التشريحية والتي يجب تُنَظِّر على مستويين ,على المستوى البنيوي للإيقاع الخاص وعلى المستوى التركيبي للإيقاعات الخاصة من جهة ومدى توافقاتها وتناغماتها من جهةٍ أخرى .
إن رقصة الانتقال من إيقاع إلى آخر دون التنشيز تشبه إلى حدٍ بعيد ظاهرة الرنين وهي إمكانية انتقال الموجات من جسم إلى آخر عند توافقات معينة بين هذين الجسمين , وتنسجم أكثر مع دراما الطبيعة –مثلا- خرير الماء ينسجم مع حفيف الأشجار وزقزقة العصافير.
أعتقد أن طريقة انتقال شعور ما للمتلقي عند سماع السيمفوني 40 لموزرت –مثلاً-, هو ذاته يحققه إلقاء قصيدة تناغمية ناضجة بطريقة فاهمة ,حتى عند سماعها من قِبل غير الناطقين بذات اللغة , فلا أدعي ولا أُنظّر لكمالية ما في النص التناغمي مشروطة بضرورة وجود كل الأشكال الشعرية , ووجود ترتيبات محددة وبالتالي منطقيا سيكون هنالك نقص ما عند غياب أحد هذه الشروط ,, وإنما أدعي أن القصيدة التناغمية هي موسيقى الكلام ناهيك عن تحرر المعنى ..ينقصها نشاز ثنائية الشكل/المعنى و/أو نشاز التركيبةالإيقاعية.
هيثم الريماوي
تعليق