أنثَى حُبْ...رَجلُ حربْ..
" الحب بالنسبة للمرأة ولادة...إلا أنها الولادة الوحيدة التي لا تحمل معها تأشيرة الموت . " آسيا
عندما تنتهي الطاقة و نحن في البَدْء , عندما نفيق من سَكرة الحلم لنجدَ القلب على شفا جرحٍ غائر , و نكون قاب قوسين أو أدنى من الانهيار, ربما لا يبقى أمامنا من خيار سوى التراجُع ..
انتهى الأمر .لقد قرّرت رفع الراية البيضاء و إعلان انسحابها.. من مملكته , من حياته .
لم تكن تؤمن بالصُدَف ولكن الصدفة أدخلتها دنياه في ليلة من ليالي الصيف الضاحكة .
كانت برفقة أصدقاء , يتمشون , يتنسّمون عبير الصيف المنعش . و كان الشارع يعج بالناس , يشع بالأضواء , و لافتة عريضة , ملفتة للأنظار , " معرض الفنان التشكيلي وائل عزيز " .
بدا لها المكان كمغارة علي بابا ,سحر و بريقٌ و ألوانٌ . حضور متميّز في كل شيء , حتى الكلمات المتبادلة هناك لها عبقٌ خاص , كأنها من نسج أبجدية أخرى .
و كان , أنيقا , وسيما , مثل أمير , يقف أمام إحدى اللّوحات محاطا بجمهور كبير ,يتحدث بحماس و يداه تتحركان في الهواء , ترسمان خطوطا و دوائر ..
- أنا أعامل اللّوحة كالأنثى الجميلة . ألواني لا تغطّيها , بل تتغلغل في أعماقها , لتكشف لي عن خبايا فتنتها . ثم...أنا فنان يوقّع مع لوحاته معاهدة حب , و ..
و يلتفت . يلمحها هناك , مشدوهة , تنظر إليه بعيون فغرها الإعجاب , مأخوذة بتلك الهالة التي تحيطه .
يبتسم , يومئ لها بتحيّة فيها دعوة للاقتراب .
بصعوبة تجد لها طريقا بين الجموع . تقف بالقرب منه . تتبادل معه حديثا لذيذا , شيقا . يسألها عن رأيها في لوحاته فتبدي إعجابها ثم يتشعب بينهما الكلام فتحدثه عن نفسها , عن عشقها للفن بكل أنواعه , و.. يكاد يغمى عليها من فرط الفرح حين يقدم لها دعوة رسمية لحضور عرضه الثاني بعد أسابيع .
ولأول مرّة تحملها الأقدار فوق أرجوحة الحب .
و لأول مرّة يحدثها قلبها بلغة مغايرة ..و تشتعل في دمها نيران الوله , و يشرق في عتمة صدرها ألف نجم .
إنما كان عليها أن تدرك , منذ البداية , أنه رجل يجيد لعبة التلوين ,و أيضا يلوّن المفردات ! و ريشته التي تداعب الجماد و تحوّل بياض القماش إلى خطوط من دهشة , كان يحلو له أن يجعلها سوطًا يجلد به كبرياءها .
هي اليوم أكثرَ قناعةً من أي وقت , بأن الحب خُلق لكي نشقى به ... وحيدة , مصدومة , تكفكف أحلامها, مثل سنبلة خلّفها الموسم . عصافير الحزن تنقر شغاف روحها و تقتلها خيبة أمل مريرة , في الرجل الوحيد الذي وضعته على خزائن قلبها .
كم أغراها دخول مملكته , و الانتماء لدنياه . كم عشقته و انبهرت بعالمه الملوّن , المضيء , الذي لا يشبه عالمها الباهت الشاحب !
الآن تكتشف أنها لا تحب الألوان العديدة , الفاقعة , المتداخلة , التي لا تعطي في النهاية سوى صورة بلا لون .
الرمادي أيضا لون جميل . على الأقل واضح و صريح .
يتقابلان هذا المساء في نفس المكان الذي شَهدَ أجمل فصول حبهما قبل أن ينقشع السحر و تتبخّر الرومانسية . قبل أن تكتشف ألاعيبه . كم من موعد أخلفه هنا و تركها فريسة للقلق و الحيرة . تنتظره لساعات ثم تحمل حقيبتها و بقية من كرامة و تعود إلى البيت لكي تستريح من الانتظار....بالانتظار!
كان كثيرا ما يغيب , فجأة , لأيام و أسابيع دون أن يترك لها خبرا , ثم يظهر فجأة أيضا , يقدم أعذارا واهية ,لا تقنعها أو يبادرها باللوم و العتاب و أنها هي التي لم تسأل عنه , و لم تأبه لغيابه..يعرف أن الهجوم هو أحسن طريقة للدفاع , و حتى لا تحاصره بأسئلتها , فإنه يثير زوبعة من أبسط الأمور , و يتحول إلي ضحية , و يسقط في يدها , فلا تدري كيف تواجهه .
يجلسان صامتين , واجمين , مثل غريبين يجمعهما الطريق لثوان .
يسألها و هو يشيح ببصره عنها و ينظر إلي الشارع :
- لا أفهم كيف تحوّل حبنا إلى حرب ... هل انتهينا ؟
لم تجد في نبرته روح السؤال ..هل كان يصدر قرارا ؟
يضحك باستخفاف و عيناه هاربتان , تبحثان عن التعلق بأي شيء إلا بعينيها .
تستفزّها ضحكته . تخنقها الكلمات , و تحتار بأية لغةٍ تفهمه أنه من عجّل بالنهاية يوم اعتبرها لوحة من لوحاته , و أباح لنفسه الحق في أن يشطبَ فيها , و يمحو , و يخربش , أو يعيد التشكيل , قبل أن يوقّعها بحروف اسمه , ثم يعلّقها على الحائط فرجةً للزائرين , و يقف غير بعيد مستمتعا بإنجازه , فخورا بإبداعه .
أخيرا , تستقر عيناه فوق وجهها . يطيل النظر إليها . نفس النظرة , نفس الوميض الذي خرّ له قلبها عاشقا ذات ليلة , غير أن التأثير مختلف ..جدا .
يبتسم في خبث :
- لكن الحروب كلها سواء..تنتهي دائما بمنتصرٍ و مهزوم .
و تبرق عيناه بنشوة النصر . مغرور هو . دائما يحسم النهاية لصالحه , حتى قبل النهاية . يعلم أنها أنثى حب , و لكنها ليست عاشقة بلهاء , على استعداد لأن ترمي بسنابل العمر في قلب اللهب .
فعلا , الحروب كلها سواء لأن كلٌ فيها يجزم بأنّه على حق . و هل يشعل فتيل الحرب إلا قناعة كل طرف , و لو خطأً , بعدالة قضيته ؟
- لماذا الصمت ؟ قولي شيئا . أنا آسف . ربما لم نفهم بعض . كنت آمل أن نلتقي على الأقل في نقطة المنتصف .
كيف يأمل ذلك و هما لم يتجاوزا بعد خط البداية ؟ كيف ؟ و كل موعد حب يحوّله بمهارة عجيبة , إلى ساحة قتال , تمتطي فيها كلماته صهوة المراوغة و الخداع . فنان حقا في افتعال الأزمات , و خلق الجدال , و كلما أغلقت هي بابا في وجه الريح , يفتح هو للإعصار ألفَ نافذة , و يعطيها سببا آخر للبعد و النسيان .
في كلامه دائما بذرة مهيّأة للانفجار , عبارة مؤثثة بالكذب , نظرة عينيه لم تعد ترشح بالحب مثل الأول . و هي الشفافة كدمعة , المسالمة كفراشة , هي التي لا تعشق في الألوان سوى لون الثلج , ولا تجيد من اللغات سوى لغة الشمس , أنهكها أن تصبح لقاءاتها معه تحفّزا لاشتعال المعركة .
كم يتعبنا الحب حين نعيشه ملتحفين بالخوف , متوجسين هبوب الظنون , مهيّئين لمسح الدموع التي سوف تنهمر . ليس حبا إذا الحب لا يحرّرنا من أسر القلق ,إذا لا يأخذ شكل أحلامنا , و لا يروي ظمأنا للإحساس بالأمان .
صحيح , نحن لا نمللك سوى أن ' نقع ' , و لكن يمكننا اختيار الوقوفَ من ' وقعتنا ' حين يكون الحب مقصلةً للكبرياء .
هي ذي الآن حزينة مثل غيمة غرّبتها الريح . لازالت تذكر كلماته , في تلك الليلة الصيفية الضاحكة . " أنا فنان يوقّع مع لوحاته معاهدة حب " . هراء . محض افتراء و تزويق كلام .
لم تكن من بادر باقتراح ' المعاهدة '. و لم تشترط اقتسام الغنائم و لا اعتلاء كرسيّ العرش . كانت تحلم بعلاقة يغذيها الوضوح و الصدق و الثقة , و لكن يبدو أن تلك معانٍ لم يدركها عقله , أو اكتشافات جديد ة لم يسمع بها بعد !
تلتقي بصديقاتها فيما يشبه اجتماع عزاء .
- نصحناك أن تحذريه . الفنّانون كائنات غريبة الأطوار !
و يضحكن في محاولة للتخفيف من مأساوية الموقف :
- ألم تسمعي بمقولة ' الفنانين إخوان المجانين ' ؟
تبتسم , ابتسامة حزينة مجاراة للصداقة . لا تقوى على الضحك .لا زالت تنتظر اللحظة التي تدخل فيها كهوف النسيان .. حينها ستجد القدرة على الضحك , من نفسها , من مشاعرها , من براءتها و سذاجة تفكيرها , و لكي تصل إلى تلك المرحلة , عليها أن تعود أدراجها إلى نقطة البدء , من قبل أن تدخل المغارة السحرية.. لحظة كان الفنان الكبير يقف خارج أسوار قلبها و لا يعني لها شيئا..مطلقا .
نعم , عليها أن تفعل ذلك , و لكن التجديف إلى الأمام مرهق و صعب , فكيف إذا كان إلى الخلف ؟
تعليق