القلــب الأبيـــض

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د .أشرف محمد كمال
    قاص و شاعر
    • 03-01-2010
    • 1452

    القلــب الأبيـــض

    القلــب الأبيـــض



    عرفها بحكم طبيعة عمله التي تجعله شديد القرب من مآسي البشر و آلامهم. بطبيعته التي اعتادت البحث عن أنات القلوب الجريحة و الأنفس الحائرة . و قلبه الذي يحب ذاك اللون من الشجن الشجي الذي يلهب أوتار مشاعره , فيجد سعادته في مشاركة الآخرين أحزانهم – إن لم يجد منها شيئاً داخله – ذلك الأنين الصاخب, و تلك الصرخات المكتومة الصامتة , و الأماني التائهة و الآمال الضائعة.
    هذه اللمسات الحسية و المشاعر الإنسانية الصادقة التي توقظ أحاسيسه الخاملة ما بين آونة و أخرى . تمنحه وقود حياته الذي يعينه على احتمال رتابة مهنته . لذا تراه دائماً يفتش عنهم بعينٍ فاحصةٍ و قلبٍ شغوفٍ , يبحث عن أصدقائه في رحلة العذاب و الألم بكل اللهفة و الحب ؛ كى يبكى معهم وحدتهم و وحدته و يشاركونه غربته .
    .. كان يجد نفسه معهم . حين تمتد يده لمساعدتهم للتغلب علي محنهم و آلامهم و مواساتهم فيما قُدر لهم.. !! يراقب تلك العيون الكسيرة و الأجساد الهزيلة و الأيدي المرتعشة . يحاول أن يضيء شموع الأمل بين نفوسهم اليائسةحتى لو كانت سراباً من نسج خيالهم – فلا توجد أماني مستحيلة . و لا توجد حياة بلا أمل أو هدف أو غاية نحاول الوصول إليها . فرحمة الله بعباده وسعت كل شيء؛ إنما هو - جلت قدرته- يختبرهم في قوة صبرهم و مدى إيمانهم .
    .. رآها لأول مرة. كانت تختلف عنهم جميعاً في شيءٍ ما..!! لم يكن يعرفه في بادىءالأمر. شديدة بياض البشرة, كزهرة أوركيد بيضاء, شفافة الملامح؛ حتى تحسبها ملك من الملائكة , أو حورية من حور الجنة , أو إن كانت تنتمي إلي دنيانا ؛ أقرب الشبه إلي قطعة من المرمر الأبيض , ناعمة كالحرير , باسمة الثغر, هادئة الطبع .لكن كانت تغللها تلك المسحة من الحزن التي ما كان ليخطئها أبداً, تلك الدموع التي تترقرق في العيون , و لا تسقط إلا في الخفاء. و ذاك الرأس المرتفع في كبرياء يرفض الاستسلام للمرض , و ينفي هذا الادعاء في إباء.
    .. يحسبها من يرها لأول وهلة ؛ أنها واحدة من ملائكة الرحمة , تخطر بخطوات رقيقة باسمة بين الأسرة. توزع البسمات و الضحكات و الكلمات المطمئنة , تحلق كالفراشات.
    لولا تلك الفحوص والتحاليل و الأشعات اللعينة..!! ما صدق أبداً أن هذا القلب الرقيق الجميل..عليل, و يحتاج إلى جراحة عاجلة ؛ كي تهبه القدرة علي مواصلة العطاء و تعينه على البقاء.
    .. كانت شديدة القرب إلى سائر زملائها , تبث فيهم روح الأمل و الإيمان و الصبر ؛ حتي أطلق عليها البعض لقب زهرة الصبار. لأنها تشقي بالعطش ولاتشكو منه. و تروي الظمأى ماء حياتها.!! لا تبكي أبداً من أجلها لكن من أجل غيرها. و تقول دائماً في ذلك:
    - بكاء النفس من أجل غيرها يطهرها..أما بكاؤها من أجل نفسها يحرقها
    دائماً ما كان يراها قوية , صابرة , مؤمنة , حالمة. تحلم بالبلاد المحجوبة بعالم نقي , تقي . لا يعرف سوى الحب و الإخلاص و الوفاء. عالم العدل و المساواة و الإخاء . عالم بلا أخطاء بلا آلام .
    كانت مفعمة بالإيمان تردد دائماً تلك المقولة:
    - الله في قلبي هو رب قلبي..فما القلب إلا بيت الله..فيه أنوار صفاته..و النور في قلبي و بين جوانحي..فعلام أخشى السير في الظلماء..؟!
    واثقة من رحمة الله تقول:
    - ما افتقد شيئاً من وجد الله.. و ما وجد شيئاً من افتقد الله
    تتحمل آلامها - التي لم تظهرها أبداً – بصبر , و ثقة , و نفس راضية ,قانعة . و سكينة ما بعدها سكينة.. قائلة:
    - الحمد لله الذي منحني الصبر أن أتقبل مالا يسعني تغييره.. و الشجاعة لأغير بها ما أستطيع تغييره.
    ..إلى أن وجدها ذات يوم ؛ على شفى الانهيار وسط أنهار من الدموع الصامتة. إثر وفاة صديقة لها أثناء إجراء جراحة في صمامات القلب ؛ كانت قريبة الشبه بحالتها, كثيراً ما جلسا يحلمان معاً أحلام الفتيات , و يخططان لمستقبل حياتهما التي لم يكونا يعلمان أنها قصيرة .. قصيرة جداً إلي هذا الحد..!!
    انخرطت في بكاءٍ دامٍ, متواصل؛ حتى أنها فقدت القدرة على النطق و سقطت.. سقطت صاحبة القلب الأبيض في غيبوبة تامة. غابت عن عالم الوعي لأيام وسط عالم الأجهزة الذى يرصد أنات قلبها الصامتة, و أنفاسها المرتعشة الخافتة.
    ظلت لعدة أيام ما بين الحياة و الموت. ذلك الجسد الرقيق , الهزيل , و تلك الروح المرهفة . مازالت تقاوم , و تنتفض كفراشة تحاول التحليق . بعدما غاصت في بحيرة من الظلام الدامس . قاومت .. و قاومت حتي تفتحت أعينها علي الحياة من جديد, و استنشقت رحيقها ثانية؛ بعدما رأت الموت بعينيها حقيقة لا مجازاً.
    .. تماثلت للشفاء سريعاً , وسط دهشة الجميع . تألقت عيناها من جديد , و التمعت بذلك البريق. عادت إلى طبييعتها زهرة ندية في صباح ربيعي جميل.
    ..اقترب منها في لهفة كي يطمئن على سلامتها , يسألها عما حدث لها. فأجابته قائلة في وهن:
    -في ذاك اليوم .. دعوت الله أن أموت كصديقتي.. فاستجاب الله لدعائي..و علمني الدرس.. عرفت مذاق الحياة.. و عرفت معني الإرادة ..و الإيمان و الصبر.. فلم استسلم .. نجحت في الامتحان ..و ازداد إيماني بالله ..و بنفسي..و عرفت أن النجاة في البقاء لا الهروب.. لأنه سلاح الجبناء.. ففي الصبر على ما أصابك أكثر من حل لآلامك.. و النسيان دواء كم يقول الشاعر .. مسائل مالها من حل و لكن ..إذا نسيت ففي النسيان حل
    .. توقع الجميع أن ترفض إجراء الجراحة بعدما حدث لصديقتها ؛ إلاأنها على عكس ذلك . بدت متحمسة , متفائلة ,هادئة , راضية, مطمئنة , باسمة دوماً . تلك الابتسامة الغامضة ؛ كابتسامة الموناليزا التى تجمع ما بين الأمل و اليأس , الفرح و الحزن, الثقة و الخوف. لم يكن أحدٌ يدرى ماذا يدور بخلدها . لأنها أبداً لم تشكو لأحدٍ يوماً ما بها , أو تحدثهم بحقيقة مرضها الذي بدأ معها منذصغرها. و قضت سنوات عمرها في رحلة العذاب و الألم , رحلة الكفاح و الصبر.
    و.. شاءت الأقدار أن يسافر في أحد المؤتمرات العلمية خارج البلاد؛ بعثة للتدرب على نوعية جديدة من الجراحات الخاصة بتغيير الصمامات . ذهب إليها ليودعها. و ربت على يدها. و شد على أناملها مطمئناً , ثم سألها في ود :
    -ماذا تريدين أن أحضر لك من الخارج..؟!
    فقالت له , و عيناها تشع فرحاً و سروراً طفولي:
    - أحضر لي معك حياة جديدة ..و أملاً لي .. و لغيري من أصحاب القلوب الموجوعة ..
    فضحك قائلاً:
    - سأحضر لك معي قلباً جديداً .. بدلا من ذلك القلب ذو الصمامات المتهالكة.
    ثم أهدت له مصحفاً كي يحفظه من الشرور. فودعها بابتسامةمطمئنة. و نصحها ألا تجهد نفسها لحين عودته. و إجراء عمليتها .
    ..مكث هناك قرابة الشهر .و عاد يحمل معه صمامين حديثي الاختراع . و قد ثبت نجاحهما بنسبة تفوق التسعين بالمائة .عاد تملؤه اللهفة , و الشوق إليها. فقد اكتشف في فترة غيابه مدى حبه لها , و تعلقه بها. شرد مفكرأ - على متن الطائرة - يتخيل لحظةلقائهما. نظر بكل الحب إلي تلك السلسلة التي تحمل قلباً أبيضاً من البلاتين أحضره كهدية إلى صاحبة القلب الأبيض.
    .. ذهب مسرعاً إلى المستشفى ـ من قبل أن ينته من فض أمتعته – و اتجه رأساً إلى سريرها. إلا أنه لم يجدها..؟! فأسقط فى يده. وقف جزعاً تنتابه هواجس شتى . لكنه أخذ يطرد عنه وساوسه إلى أن قابل أحد زملائه. و سأله عنها. فنظر إليه ملياً, و ظل لبرهة صامتاً كالدهر . ثم أمسك بيده قائلاً:
    -تعال معي لأريك أياها.
    ظلا سائرين في ردهة طويلة مطرقى الرأس, صامتين صمت الموتى. انتابته مشاعر متضاربة . و خوف دفين. توقف زميله فجأة عند أحد الأبواب ؛ التي يعرفها جيداً , قد كتب عليه (متحف الأنسجة).
    .. دخلا حيث كان يرقد وافدٌ جديدٌ داخل صندوقٍ زجاجيٍ . سرت قشعريرة رهبة في جسده. نظر إلى ذلك القلب الأبيض. عرفه علي الفور. إنه قلبها لابد أن يكون كذلك..!! فهو يستشعر فيه روحها الوديعة . و عبق عطرها الآخاذ ؛ كما لو أنها تجالسه الآن.
    ..سقط متهالكاً على أقرب المقاعد إليه. فاضت عيناه بالدموع . و دفن رأسه بين كفيه ؛ كي يواري قطرات أبت إلا أن تسقط من بين أنامله بين يدي صاحبة هذا القلب الأبيض . نظر إلى زميله بعد فترة من الصمت المشوب بالذهول . و قد اغرورقت عيناه بالدموع متسائلاً.. فأجابه:
    - لقد ساءت حالتها في يوم من الأيام .. حتى أنها أدخلت إلي غرفة العناية المركزة..و ظلت بها لمدة أسبوعٍ.. و اضطروا إلى إجراء جراحة طارئة لها ..إلا أن قلبها الضعيف لم يحتمل..!!
    ثم استطرد في أسى قائلاً:
    - لقد تبرعت كتابياً بقلبها قبل إجراء العملية .. قائلة..إذا لم يكتب ليّ النجاه..فهاكم قلبي معكم مدى الحياة.
    نظر إلى ذلك القلب الأبيض , و الألم يعتصر فؤاده , و يحرق مهجته , يفجر أوجاعاً لا نهائية في جسده ,و جراحاً لن تندمل أبداً في روحه , ثم انخرط في نحيب يدمي القلوب , لكنه في غمرة أحزانه شعر كما لو أن طيفها يحوم حوله , و يداً رقيقة , ناعمة . تملس على شعره , تمسح دموعه , و انساب صوتها متغلغلاً داخله . مردداً كلماتها له . كوميض فجر يبدد عتمة الليل :
    -لقد أدركت أن الله قد أراد بنا أمراً..و أراد منا أمراً.. فما أراده بنا طواه عنا..و ما أراده منا أظهره لنا.. فما بالنا ننشغل بما أراده بنا ..عما أراده منا..لقد صارت الدنيا في يدي ..لا في قلبي..وسيلة و ليست غاية.. طريقا ًو ليس منتهى.. فعلينا أن نتعلم أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه في تلك الحياة.. وأن نتعلم من التمرد الرضا.. ومن العصيان الطاعة.. و أنه لا يصيرنا عظماء .. إلا الألم العظيم.
    فغمرته السكينه و الطمأنينة و عمر قلبه بالحب و الإيمان .و منذ ذلك الحين كرس حياته من أجل انقاذ المئات و المئات كحالتها. برع في تلك العمليات. و ذاع سيطه بين الأطباء و المرضى . و كان يشعر بالرضا ؛ برغم ذاك الحزن المر الذي يسكن بين حنايا قلبه . كلما شاهد نظرة امتنان , أو ابتسامة شكر على وجه أحد مرضاة ممن كتب لهم الشفاء على يديه. حينها كان يلمح وجهها الصبوح , و شبح ابتسامتها الهادئة, الواثقة , المطمئنة؛ يشع من وجوههم . كشمسٍ منيرةٍ , تشرق وسط سماء صافية.
    التعديل الأخير تم بواسطة د .أشرف محمد كمال; الساعة 29-09-2010, 13:36.
    إذا لم يسعدك الحظ بقراءة الحكاوي بعد
    فتفضل(ي) هنا


    ولا تنسوا أن تخبرونا برأيكم
  • مؤيد البصري
    أديب وكاتب
    • 01-09-2010
    • 690

    #2
    تحيتي لك استاذ أشرف ولقلمك المبدع قصة رائعة رغم تسربلها بالحزن فبارك الله بك وحفظك أستاذ أشرف طيبي القلوب لايموتون لأنهم يخلدون بعقول الذين عاشروهم وتواصلوا معهم تقبل مروري منحنياً أمام كبريائك تحيتي وحبي لك ولقلمك

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة د .أشرف محمد كمال مشاهدة المشاركة
      القلــب الأبيـــض




      عرفها بحكم طبيعة عمله التي تجعله شديد القرب من مآسي البشر و آلامهم. بطبيعته التي اعتادت البحث عن أنات القلوب الجريحة و الأنفس الحائرة . و قلبه الذي يحب ذاك اللون من الشجن الشجي الذي يلهب أوتار مشاعره , فيجد سعادته في مشاركة الآخرين أحزانهم – إن لم يجد منها شيئاً داخله – ذلك الأنين الصاخب, و تلك الصرخات المكتومة الصامتة , و الأماني التائهة و الآمال الضائعة.
      هذه اللمسات الحسية و المشاعر الإنسانية الصادقة التي توقظ أحاسيسه الخاملة ما بين آونة و أخرى . تمنحه وقود حياته الذي يعينه على احتمال رتابة مهنته . لذا تراه دائماً يفتش عنهم بعينٍ فاحصةٍ و قلبٍ شغوفٍ , يبحث عن أصدقائه في رحلة العذاب و الألم بكل اللهفة و الحب ؛ كى يبكى معهم وحدتهم و وحدته و يشاركونه غربته .
      .. كان يجد نفسه معهم . حين تمتد يده لمساعدتهم للتغلب علي محنهم و آلامهم و مواساتهم فيما قُدر لهم.. !! يراقب تلك العيون الكسيرة و الأجساد الهزيلة و الأيدي المرتعشة . يحاول أن يضيء شموع الأمل بين نفوسهم اليائسةحتى لو كانت سراباً من نسج خيالهم – فلا توجد أماني مستحيلة . و لا توجد حياة بلا أمل أو هدف أو غاية نحاول الوصول إليها . فرحمة الله بعباده وسعت كل شيء؛ إنما هو - جلت قدرته- يختبرهم في قوة صبرهم و مدى إيمانهم .
      .. رآها لأول مرة. كانت تختلف عنهم جميعاً في شيءٍ ما..!! لم يكن يعرفه في بادىءالأمر. شديدة بياض البشرة, كزهرة أوركيد بيضاء, شفافة الملامح؛ حتى تحسبها ملك من الملائكة , أو حورية من حور الجنة , أو إن كانت تنتمي إلي دنيانا ؛ أقرب الشبه إلي قطعة من المرمر الأبيض , ناعمة كالحرير , باسمة الثغر, هادئة الطبع .لكن كانت تغللها تلك المسحة من الحزن التي ما كان ليخطئها أبداً, تلك الدموع التي تترقرق في العيون , و لا تسقط إلا في الخفاء. و ذاك الرأس المرتفع في كبرياء يرفض الاستسلام للمرض , و ينفي هذا الادعاء في إباء.
      .. يحسبها من يرها لأول وهلة ؛ أنها واحدة من ملائكة الرحمة , تخطر بخطوات رقيقة باسمة بين الأسرة. توزع البسمات و الضحكات و الكلمات المطمئنة , تحلق كالفراشات.
      لولا تلك الفحوص والتحاليل و الأشعات اللعينة..!! ما صدق أبداً أن هذا القلب الرقيق الجميل..عليل, و يحتاج إلى جراحة عاجلة ؛ كي تهبه القدرة علي مواصلة العطاء و تعينه على البقاء.
      .. كانت شديدة القرب إلى سائر زملائها , تبث فيهم روح الأمل و الإيمان و الصبر ؛ حتي أطلق عليها البعض لقب زهرة الصبار. لأنها تشقي بالعطش ولاتشكو منه. و تروي الظمأى ماء حياتها.!! لا تبكي أبداً من أجلها لكن من أجل غيرها. و تقول دائماً في ذلك:
      - بكاء النفس من أجل غيرها يطهرها..أما بكاؤها من أجل نفسها يحرقها
      دائماً ما كان يراها قوية , صابرة , مؤمنة , حالمة. تحلم بالبلاد المحجوبة بعالم نقي , تقي . لا يعرف سوى الحب و الإخلاص و الوفاء. عالم العدل و المساواة و الإخاء . عالم بلا أخطاء بلا آلام .
      كانت مفعمة بالإيمان تردد دائماً تلك المقولة:
      - الله في قلبي هو رب قلبي..فما القلب إلا بيت الله..فيه أنوار صفاته..و النور في قلبي و بين جوانحي..فعلام أخشى السير في الظلماء..؟!
      واثقة من رحمة الله تقول:
      - ما افتقد شيئاً من وجد الله.. و ما وجد شيئاً من افتقد الله
      تتحمل آلامها - التي لم تظهرها أبداً – بصبر , و ثقة , و نفس راضية ,قانعة . و سكينة ما بعدها سكينة.. قائلة:
      - الحمد لله الذي منحني الصبر أن أتقبل مالا يسعني تغييره.. و الشجاعة لأغير بها ما أستطيع تغييره.
      ..إلى أن وجدها ذات يوم ؛ على شفى الانهيار وسط أنهار من الدموع الصامتة. إثر وفاة صديقة لها أثناء إجراء جراحة في صمامات القلب ؛ كانت قريبة الشبه بحالتها, كثيراً ما جلسا يحلمان معاً أحلام الفتيات , و يخططان لمستقبل حياتهما التي لم يكونا يعلمان أنها قصيرة .. قصيرة جداً إلي هذا الحد..!!
      انخرطت في بكاءٍ دامٍ, متواصل؛ حتى أنها فقدت القدرة على النطق و سقطت.. سقطت صاحبة القلب الأبيض في غيبوبة تامة. غابت عن عالم الوعي لأيام وسط عالم الأجهزة الذى يرصد أنات قلبها الصامتة, و أنفاسها المرتعشة الخافتة.
      ظلت لعدة أيام ما بين الحياة و الموت. ذلك الجسد الرقيق , الهزيل , و تلك الروح المرهفة . مازالت تقاوم , و تنتفض كفراشة تحاول التحليق . بعدما غاصت في بحيرة من الظلام الدامس . قاومت .. و قاومت حتي تفتحت أعينها علي الحياة من جديد, و استنشقت رحيقها ثانية؛ بعدما رأت الموت بعينيها حقيقة لا مجازاً.
      .. تماثلت للشفاء سريعاً , وسط دهشة الجميع . تألقت عيناها من جديد , و التمعت بذلك البريق. عادت إلى طبييعتها زهرة ندية في صباح ربيعي جميل.
      ..اقترب منها في لهفة كي يطمئن على سلامتها , يسألها عما حدث لها. فأجابته قائلة في وهن:
      -في ذاك اليوم .. دعوت الله أن أموت كصديقتي.. فاستجاب الله لدعائي..و علمني الدرس.. عرفت مذاق الحياة.. و عرفت معني الإرادة ..و الإيمان و الصبر.. فلم استسلم .. نجحت في الامتحان ..و ازداد إيماني بالله ..و بنفسي..و عرفت أن النجاة في البقاء لا الهروب.. لأنه سلاح الجبناء.. ففي الصبر على ما أصابك أكثر من حل لآلامك.. و النسيان دواء كم يقول الشاعر .. مسائل مالها من حل و لكن ..إذا نسيت ففي النسيان حل
      .. توقع الجميع أن ترفض إجراء الجراحة بعدما حدث لصديقتها ؛ إلاأنها على عكس ذلك . بدت متحمسة , متفائلة ,هادئة , راضية, مطمئنة , باسمة دوماً . تلك الابتسامة الغامضة ؛ كابتسامة الموناليزا التى تجمع ما بين الأمل و اليأس , الفرح و الحزن, الثقة و الخوف. لم يكن أحدٌ يدرى ماذا يدور بخلدها . لأنها أبداً لم تشكو لأحدٍ يوماً ما بها , أو تحدثهم بحقيقة مرضها الذي بدأ معها منذصغرها. و قضت سنوات عمرها في رحلة العذاب و الألم , رحلة الكفاح و الصبر.
      و.. شاءت الأقدار أن يسافر في أحد المؤتمرات العلمية خارج البلاد؛ بعثة للتدرب على نوعية جديدة من الجراحات الخاصة بتغيير الصمامات . ذهب إليها ليودعها. و ربت على يدها. و شد على أناملها مطمئناً , ثم سألها في ود :
      -ماذا تريدين أن أحضر لك من الخارج..؟!
      فقالت له , و عيناها تشع فرحاً و سروراً طفولي:
      - أحضر لي معك حياة جديدة ..و أملاً لي .. و لغيري من أصحاب القلوب الموجوعة ..
      فضحك قائلاً:
      - سأحضر لك معي قلباً جديداً .. بدلا من ذلك القلب ذو الصمامات المتهالكة.
      ثم أهدت له مصحفاً كي يحفظه من الشرور. فودعها بابتسامةمطمئنة. و نصحها ألا تجهد نفسها لحين عودته. و إجراء عمليتها .
      ..مكث هناك قرابة الشهر .و عاد يحمل معه صمامين حديثي الاختراع . و قد ثبت نجاحهما بنسبة تفوق التسعين بالمائة .عاد تملؤه اللهفة , و الشوق إليها. فقد اكتشف في فترة غيابه مدى حبه لها , و تعلقه بها. شرد مفكرأ - على متن الطائرة - يتخيل لحظةلقائهما. نظر بكل الحب إلي تلك السلسلة التي تحمل قلباً أبيضاً من البلاتين أحضره كهدية إلى صاحبة القلب الأبيض.
      .. ذهب مسرعاً إلى المستشفى ـ من قبل أن ينته من فض أمتعته – و اتجه رأساً إلى سريرها. إلا أنه لميجدها..؟! فأسقط فى يده. وقف جزعاً تنتابه هواجس شتى . لكنه أخذ يطرد عنه وساوسه إلى أن قابل أحد زملائه. و سأله عنها. فنظر إليه ملياً, و ظل لبرهة صامتاً كالدهر . ثم أمسك بيده قائلاً:
      -تعال معي لأريك أياها.
      ظلا سائرين في ردهة طويلة مطرقى الرأس, صامتين صمت الموتى. انتابته مشاعر متضاربة . و خوف دفين. توقف زميله فجأة عند أحد الأبواب ؛ التي يعرفها جيداً , قد كتب عليه (متحف الأنسجة).
      .. دخلا حيث كان يرقد وافدٌ جديدٌ داخل صندوقٍ زجاجيٍ . سرت قشعريرة رهبة في جسده. نظر إلى ذلك القلب الأبيض. عرفه علي الفور. إنه قلبها لابد أن يكون كذلك..!! فهو يستشعر فيه روحها الوديعة . و عبق عطرها الآخاذ ؛ كما لو أنها تجالسه الآن.
      ..سقط متهالكاً على أقرب المقاعد إليه. فاضت عيناه بالدموع . و دفن رأسه بين كفيه ؛ كي يواري قطرات أبت إلا أن تسقط من بين أنامله بين يدي صاحبة هذا القلب الأبيض . نظر إلى زميله بعد فترة من الصمت المشوب بالذهول . و قد اغرورقت عيناه بالدموع متسائلاً.. فأجابه:
      - لقد ساءت حالتها في يوم من الأيام .. حتى أنها أدخلت إلي غرفة العناية المركزة..و ظلت بها لمدة أسبوعٍ.. و اضطروا إلى إجراء جراحة طارئة لها ..إلا أن قلبها الضعيف لم يحتمل..!!
      ثم استطرد في أسى قائلاً:
      - لقد تبرعت كتابياً بقلبها قبل إجراء العملية .. قائلة..إذا لم يكتب ليّ النجاه..فهاكم قلبي معكم مدى الحياة.
      نظر إلى ذلك القلب الأبيض , الألم يعتصر فؤاده , و يحرق مهجته , يفجر أوجاعاً لا نهائية في جسده ,و جراحاً لن تندمل أبداً في روحه , ثم انخرط في نحيب يدمي القلوب , لكنه في غمرة أحزانه شعر كما لو أن طيفها يحوم حوله , و يداً رقيقة , ناعمة . تملس على شعره , تمسح دموعه , و انساب صوتها متغلغلاً داخله .و مردداً كلماتها له . كوميض فجر يبدد عتمة الليل :
      -لقد أدركت أن الله قد أراد بنا أمراً..و أراد منا أمراً.. فما أراده بنا طواه عنا..و ما أراده منا أظهره لنا.. فما بالنا ننشغل بما أراده بنا ..عما أراده منا..لقد صارت الدنيا في يدي ..لا في قلبي..وسيلة و ليست غاية.. طريقا ًو ليس منتهى.. فعلينا أن نتعلم أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه في تلك الحياة.. وأن نتعلم من التمرد الرضا.. ومن العصيان الطاعة.. و أنه لا يصيرنا عظماء .. إلا الألم العظيم.
      فغمرته السكينه و الطمأنينة و عمر قلبه بالحب و الإيمان .و منذ ذلك الحين كرس حياته من أجل انقاذ المئات و المئات كحالتها. برع في تلك العمليات. و ذاع سيطه بين الأطباء و المرضى . و كان يشعر بالرضا ؛ برغم ذاك الحزن المر الذي يسكن بين حنايا قلبه . كلما شاهد نظرة امتنان , أو ابتسامة شكر على وجه أحد مرضاة ممن كتب لهم الشفاء على يديه. حينها كان يلمح وجهها الصبوح , و شبح ابتسامتها الهادئة, الواثقة , المطمئنة؛ يشع من وجوههم . كشمسٍ منيرةٍ , تشرق وسط سماء صافية.
      الزميل القدير
      د. أشرف محمد كمال
      لونت لك بالأزرق ما رأيته شرحا لمشروح
      وفيه تفصيل يجعل النص يصاب بالتهدل
      أرجوك زميلي لا تنزعج مني
      فإن أزعجتك ملاحظتي إرمها وراء ظهرك أو للبحر
      النص جميل وفيه شفافية ورقي في الأحاسيس
      والتكثيف سيعطي النص قوة ومتانة أكثر
      ودي ومحبتي لك
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      • د .أشرف محمد كمال
        قاص و شاعر
        • 03-01-2010
        • 1452

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة مؤيد البصري مشاهدة المشاركة
        تحيتي لك استاذ أشرف ولقلمك المبدع قصة رائعة رغم تسربلها بالحزن فبارك الله بك وحفظك أستاذ أشرف طيبي القلوب لايموتون لأنهم يخلدون بعقول الذين عاشروهم وتواصلوا معهم تقبل مروري منحنياً أمام كبريائك تحيتي وحبي لك ولقلمك
        أشكرك أخي الغالي على حضورك الكريم و كلماتك الرقيقة
        ففعلاً صدقت طيبي القلوب لا يموتون بل أحياء عند ربهم يرزقون
        دمت بود
        إذا لم يسعدك الحظ بقراءة الحكاوي بعد
        فتفضل(ي) هنا


        ولا تنسوا أن تخبرونا برأيكم

        تعليق

        يعمل...
        X