صرح جدّي
ها نحن أخيرا نقف أمامه يا أمّي..فماذا بعد؟..لابدّ أنّ شريطا كاملا من الصّور عاد إليك حين طالعتك هيأته و هيبته القديمة ،و إلاّ لما شهقت و هتفت زهوا و نشوة كأنّ يابسة لاحت لصيّاد تائه : ( إنّه هو ..إنّه هو حقّا..إنّه ذاك الشّيخ الجالس أمام الدكّان..لقد وصلنا..النّعت كان صحيحا هذه المرّة..سترى كم سيفاجأ..و الله هو..) و تلألأ الدّمع في عينيك و ارتبكت خطاك و دعوتني أن نسرع أكثر..نعم، لا بأس،و لكن سليه أوّلا إن كان لا يزال يذكر جدّي؛والدك،المناضل المنسيّ المرحوم..ألسنا مبعوثين من طرفه ؟ ألسنا في النّهاية أثيرا يحمل بين ثناياه رسالة إخلاص تكبرني بسنين عديدة من رجل لا يملك لتقريب البعيد سوى كلمات مشفّرة يستأمنها الرّيح و ينتظر الجواب..رجل لا يرضخ لأساليبنا الحديثة ،ما تعوّد إلاّ أن يحمّل الرّكب أخباره مشافهة من وكره في الجبل حيث الثوّار إلى بقيّة المجاهدين..واثقا تمام الثّقة أنّه راسخ في قلوب الجميع ..و أنّ أحدا لن تسوّل له نفسه أن يجبن أو يُمانع ..أليست هذه هي خلاصة الرّواية ؟..ثلاث ساعات و أنا أستمع لحكاياتك عنه يا أمّي ،و عن صديق أنساه شوقه لملاقاته و شغفه به أن يتلفّظ بالشّهادة و هو يموت ،ألهذا الحدّ كان يُحبّه؟،ثمّ ، لِمَ لمْ أنتبه قبل الآن إلى أنّ حديثك مريح و مؤنس للغاية؟لِمَ لمْ يخطر لي أنّي اعتصرت كلّ حليبك في فمي،و لم أرتشف ذاكرتك المثخنة بالخرافة و أساطير الرّجولة ؟
الظّهيرة مستعرة و كلانا مُتعب..أكان عليك أن ترافقيني؟ تعلمين أنّي من جيل لا يعترف بالفنادق التي تفتح غرفها و ترتّبها و تهيم بنا طاعة و خدمة ،و تُخرس من أجلنا صرير أسرّتها ،لمجّرد نفحة من حنين ،أو لفح ذاكرة ،أو هزالا يرثيه بريد لعقته الأختام و لم يقرأه أحد من الدّاخل.. فهلاّ سمحت لنا بزيارة سيدي محفوظ ما دمنا على مقربة من مقامه؟. سيكون بالدّاخل متّسع من الظلّ لنا و لكلّ النّازحين، سنشرب حتّى نرتوي، صدّقيني ،و سننفض عنّا حقائبنا القديمة لحين ،و نستند قليلا على جدرانه النديّة،حتّى المساء ،و سنصلّي فوق سجّاد عتيق كالذي في بيتنا،و سندعو لجدّي بالرّحمة و المغفرة.. سيكون هذا أجدى له و لنا ،ثمّ بعد ذلك ننطلق باحثين عن بيت للأجرة يكون رخيصا ،و لا يهمّ إن كان مجهّزا فلست بحاجة سوى لمكتب صغير و حاشية و وسادة.تبيتين معي الّليلة و في الغد أرافقك إلى محطّة الحافلات .ناءت أمّي بالرّسالة فلم ترض أن تسايرني و أصرّت على أن نواصل البحث ..كان همّها الوحيد هو أن نعثر على سي عبد القادر ،المدرّس الذي أرسلوه من العاصمة إلى قريتنا من أربعة عقود خلت،هكذا دون عنوان أو من يُرشدنا و يرحم بداوتنا،دليلنا فقط اسم و وصيّة و بقيّة باقية من قوم يحتفظون بعد بخارطة للمدينة تصنّف العائلات حسب عراقة تاريخها..كانت على ثقة بأنّه لا يزال على قيد الحياة ،فجدّي في نظرها آدم الذي خرج كلّ النّاس من صلبه ،السّابق في كلّ شيء حتّى في الموت،آدم الذي سيظلّ معلّقا بين الصّروح التي شيّدها ذات حياة فلا هي تزول و لا هو يفنى ..و لكنّي لم أكن لأتصوّر أبدا أنّي سأصبح طرفا ثابتا في أمثولة آمن بها و ردّدها حتّى آخر يوم في حياته ملحمة في حجم عقيدة ،و لم يكفّ يوما عن دقّها في ضلوعنا مسمارا خشنا لا يزال حتّى السّاعة يُدميني..حكاية بات الجميع يعرفها مذ لقّنها للرّيح و النّمل ؛قصّة الرّجل الذي أراد أن يُثبت لولده غير المُصدّق بأنّه لن يجد وقت الشدّة سوى صديق والده،فقرّر أن يمتحن ذلك أمام عينيه،لعلّه يقتنع و يُغادر عناده،فطلب منه أن يذهب إلى جميع أصدقائه و يطلب منهم مساعدته في إخفاء جثّة رجل تورّط في قتله و لم يعد يجد مخرجا،و لا سبيلا للنجاة من القصاص لو عثروا عليها و اكتشفوا أمره.فتنكّروا له و اتّفقوا على خذلانه و طردوه واحدا بعد الآخر و أوصدوا الباب دونه متوعّدين بإفشاء سرّه إن هو كرّر المجيء،و الحقيقة أنّه كان يحمل على راحلته كيسا ضخما بداخله كبش مذبوح يقطر دما..و لمّا ذهب لصديق والده و بمجرّد أن ذكر له اسمه رحّب به و خرج معه لدفن الجثّة،دون سؤال،و أرسل معه اثنين من رجاله و زادا يكفيه ثلاثة أيّام حتّى إذا بلغوا به برّ الأمان عادوا أدراجهم..
كان جدّي لا يملّ تكرارها لأبنائه كأنّه بذلك يُجلس سي عبد القادر بجانبه و يُحيطه بذراعه مُتباهيا بصديقه المُتعلّم ،المتأنّق،هديّة السّماء له و للقرية كي ينوّر عقولهم و يُعطّر بالمعرفة شعابها المهمّشة و يرفع الجهل عن صبيتها.
و وجدتني أتقمّص دون أن أشعر دور الفتى المُكذّب الذي ما لبث أن رجّته خيانة أصدقائه، في الوقت الذي انبهر فيه بمتانة العلاقة التي تربط والده بصديقه،و لكنّي تقمّصته بعناد أكبر و ازدراء أشدّ عنفا،و ألفيتني أوسوس لأمّي و أستدرجها لخيانة الوصيّة و نسيانها "..فليتّصل أحدكم بسي عبد القادر و يسأله عن أحواله و يُخبره بموتي،و لتقصدوه كلّما ضاق بكم الحال..)"..أعترف أنّي قسوت عليها و لأكفّر عن إثمي استسلمت للدّور و لعبته جيّدا ،مؤجّلا عقوقي حتّى تحكم الخرافة بيني و بينها ،و لكنّي ركبت التّاكسي عوضا عن النّاقة،و في حقائبي كانت تنام خرافة تقف عند الإشارة الحمراء و لا يُسمح لها بمواصلة المسير حتّى تتحوّل إلى الّلون الأخضر.. كنت طالبا نحيل الجسم يبحث عمّن يُرشده إلى غرفة تُؤويه،يمشي متعثّرا في ملاءة أمّه،لا سائحا هائما يستنجد بمن يواري سوءاته..لذلك كنت غاضبا.
هاهو الجبل الذي آواه جدّي و أحسن ضيافته لسنين و لم يغفل عن حراسته يوما واحدا و كان يزداد به فخرا كلّما تبنّى اندفاع شبابه و عرّض نفسه للخطر و هو يُخفي مقالاته المُشاكسة المُحرّضة ضدّ المُستعمر.ألم يكن هذا هو الجبل الذي سخّر جدّي كلّ ما يملكه من أجل صونه و الحنوّ عليه؟ألم يكن هذا هو الصّرح الذي بناه لنفسه و أمركم بتبجيله و خدمة أبنائه و زوجته بنت الحضر ناعمة اليدين ،و وفّر عليهم جلب الماء ،و حلب البقر ،و مخالطة الصّوف خارج الأغطية ،و الغبار و الشّوك و الدوابّ خارج القِدر ،و جعل لهم معكم نصيبا في كلّ ثمره؟لم أراك إذن و قد دبّ الوهن فجأة في ساقيك فصارت بالكاد تحملك،أهي الرّسالة؟ دقائق فقط و تتخلّصين منها و ترشّين ببركتها ماء الورد على قبر والدك..فصبرا جميلا أمّي.
اقتربنا من قبس جدّي..سلّمنا عليه،لم يتعرّف على أمّي..ذكّرته فتذكّر..لكنّ سحنة الهدوء لم تتغيّر على وجهه و مال برأسه يتفرّس في ملامحها و قال بجفاف و نبرة قاحلة : - هل مات؟
صُعقنا و بدا لنا كأنّه يسوق لنا للتوّ خبر موته.
ابتلعت أمّي خيبتها و أجابت:
- ..نعم مات..مات و لا حديث على لسانه سواك..لقد أحبّكم كثيرا سيّدي..
و بكسل تمتم تعويذة تخلّص قارسة كرهت لحنها و بدا لي كأنّه يُراجع قائمة مُشتريات: كلنّّّّا لها؛هم السّابقون و نحن الاّحقون..الّلهمّ لا اعتراض على حكمك..
اضطربت أمّي و انزلقت العبارات من فوق لسانها..و جفّت شفتاها فراحت تبلّلها و لمّا يأمر لنا بشربة ماء أو كرسيّ لها على الأقلّ ..و شردت للحظة ..كدت أنطق و أقول له رفقا بجدّي أيّها السّمج الرّكيك لو لا أنّي وعدت أمّي بالصّمت و مراقبته و هو يطير بنا فرحا و دهشة..أصلا لم أكن مهيّأ كفاية كي أحتوي ملحمة عِشرة بهذا الحجم،بالإضافة إلى أنّي كنت عدما زمن تألّفت.
هيّا أمّي أجّجي كومة الرّماد هذه،أيقظيه لعلّه يترحّم على روح والدك على الأقلّ.
- سي عبد القادر ،لقد كانت إرادة أبي أن نسأل عن أحوالك و نطمئنّ عليك ،و نلجأ إليك كلّما احتجنا مساعدة..و..
- تفضّلي هل من خدمة ؟
- ما أخبارك أوّلا ؟كيف هي صحّتك؟و أين الأولاد؟
- الحمد لله على كلّ حال،كما ترين هذا دكّان فتحته لأتسلّى به بقيّة حياتي،و ذاك بيتي؛الأولاد كلّهم تزوّجوا ما عدا خالد..أظنّك تذكرين خالد،ابني البكر..
أجابت أمّي بحماس،كما لو أنّه أتاح لها فرصة لنكذّب آذاننا،و راحت تسلخ الصّقيع على لقائهما الأسطوريّ.
- ..كيف أنسى يا سي عبد القادر؟..أمعقول ؟.. أنسى ابن أبي..في طريقنا إليك حدّثت ابني عنكم فردا ،فردا (و أمسكت بيدي كطفل صغير)و تابعت : و كيف أنّنا كنّا نلقّب خالد بـ"ابن أبي"..يا حسرة.. كنت لا تراه إلاّ مندسّا مع أبي في برنسه،بالكاد تومض عيناه من فتحة الصّدر..كان مُتعلّقا به أكثر منّا..
باغتها ،مُقاطعا إيّاها ،يُشعرها بأنّه ملّ حديثها:
- لم تقولي لي،أيّ ريح ساقتك؟ماذا تفعلين هنا في العاصمة؟
- في الحقيقة جئنا نبحث عن بيت للإيجار..بيت متواضع صغير،دون أيّة شروط..و لا أخفيك فكّرت أن يكون حبّذا قريبا منك عسى أن يظلّ ولدي دائما تحت نظرك و حمايتك .. و..ربّما لجأ إليك إن هو احتاج شيئا ما..
كاد العطش يفتك بنا و لم يقدّم لنا كوب ماء واحد.كان جالسا و كنّا قبالته واقفين كالغرباء .
- لا تتعبي نفسك..أنصحك بالبحث في منطقة أخرى ..فليست هنا بيوت شاغرة في هذا الحيّ في الوقت الحالي..
و أشاح بوجهه و صمت.
بحثت أمّي بين حنايا وجهه عن ذرّة وفاء،و لكن عبثا،فانسحبت:
- شكرا إذن سي عبد القادر،المهمّ أنّ تكون أنت بخير..أطال الله عمرك..
قال و التّذمّر باد حقيقة في نبرة صوته:
- من أين الخير ؟ بصري بدأ يغادرني جرّاء السكّري..فمن أين الخير هاه ‼؟
- سي عبد القادر..منذ متى و كيف؟..اعذرني فأخبارك انقطعت عنّا منذ رحيلك من القرية..و..
- سامح الله من كان السّبب؛..والدك الموقّر هو الذي تسبّب لي فيه و قضى عليّ تماما،جرّاء الزّبدة و العسل الذي ما انفكّ يحشوني بهما .
كان جادّا في غضبه حتّى أنّ أمّي استأذنت على الفور و مضينا دون تحيّة..كانت غاضبة جدّا و الوحشة بادية في قسماتها ..لم يلحق بنا صوته كما توقّعتُ و لم أشأ أن أزيد من ضيمها بسخريتي،لأنّي اكتشفت يومها أنّها مخلوق رائع،و يجب أن يعيش طويلا ،و لكي يعيش يجب أن أحافظ عليه و أحجب عنه كلّ ما يسوؤه..على الأقلّ من جهتي.
و فكّرت أنّك لن تعرف حقيقة ما كنت فيه إلاّ إذا بدأت ذرّاته تتساقط أمام عينيك تباعا..
كيف غفلت عنك طيلة هذه السّنين يا أمّي؟ما الذي شغلني عنك؟ سامحيني..عند عودتي سألازمك ،سأجلس تحت قدميك،أحضن ركبتيك،و أستسلم لحكاياتك حتّى أغفو و أنام..
عشيّتها دخلت أوّل قاعة حلاقة اعترضت سبيلنا،كان صاحبها كهلا ،مليح الوجه ،سألته إن كان هناك في حيّه بيت للإيجار.أقفل المحلّ و خرج يبحث معنا لدى معارفه،و أبى إلاّ أن نتناول العشاء مع عائلته و ألحّ في الدّعوة رغم كلّ المبرّرات التي تفنّنت في سردها،و أصرّ أيضا على أن نبيت تلك الّليلة معهم،و ربّما طالت إقامتنا في انتظار أن تنظّف أختاه البيت جيّدا.
في اليوم التّالي رافقت أمّي إلى المحطّة أودّعها:
- قفي أمّي على قبر جدّي و بلّغيه بأنّ الفتى الذي أرسلتَه لتُثبت له حكمة ما،قد فقه أخرى و بأنّ صاحبه الحميم يقول له لا شكر و لا واجب...لا.. لا ..بل قولي له بأنّ صاحبك سي عبد القادر حزين عليك كما لم يحزن صديق على فراق صديقه من قبل،و قولي له أيضا بأنّه لم يكفّ يوما على التّرحّم عليك و بأنّ الأمور سارت كما يرغب..و بأنّه أكرمنا و قدّم لنا المأكل و المشرب و المسكن شهرا كاملا،و لا بأس أن تقولي له بأنّ سمكة و عنقود عنب كانا مرسومين في قاع إحدى الصّحون قد تحوّلا بسرّ كراماتك إلى حقيقة..أعرف أنّه يحبّ هذا الحديث..
لا تقلقي أمّي لن ينتبه إلى زورنا و سوف لن يشكّ في مدى صدقك،فغالبا ما ينطلي كذبنا الأبيض على الأكفان البيض..
محمد فطّومي
تعليق