أرجو أن يكون ذلك على الفور!!
بعد وفاة والده ، تحملت أمه أوزار تربيته والعناية به ، وحتى تتمكن الأم من مواجهة الظروف المعيشية وتستطيع أن تعلم إبنها مثل بقية الصبية في الحي قررت أن تعمل ، فبدأت في شراء المستلزمات النسائية وبدأت تقصد المنازل تلو المنازل حتى عرفت بين نساء الحي والأحياء المجاورة بحيازتها وبيعها لتلك المستلزمات ، وبعد ذلك أصبحت النساء هن من يقصدن أم سليم لشراء ما يحتجن من احتياجاتهن ، وهكذا استطاعت أم سليم أن توفر لها ولابنها ما يضمن لهما لقمة العيش ويمكن سليم من مواصلة تعليمه 0
بدأت السنون تتلاحق على سليم وهو يختمها بشهادات عالية الإمتياز والتفوق ، وكان عبد الإله – ابن الجيران – ولداً طيب القلب ومحافظاً لفروض الصلاة في الجامع ، ولكن عيبه الوحيد أنه كان ثرثار الحديث عندما يقابل أحداً ، ومهذاراً في الكلام بدون سبب ، فهو يحب نقل الأخبار والأحاديث بين الناس في الحي ، وفي الحقيقة أنه كان معجباً بسليم يحبه ويتودد في التقرب إليه إلا أن الأخير لم يترك له سبيلاً للتقرب منه :
- إنني أجد صعوبةً في فهم بعض دروس النحو ، هلا تتكرم علي يا سليم وتشرحها لي 0
- أود ذلك ، ولكنني منشغل في كتابة بحث عن الخليل بن أحمد 0
وبعد إلحاح طويل من عبد الإله ، استجاب سليم أو الأستاذ سليم كما يحلو لعبد الإله أن يسميه لأنه لا يرى فرقاً بينه وبين أستاذ المدرسة !!
- ولكنني أشترط عليك شرطاً يا عبد الإله 0
- وما هو يا أستاذ سليم ؟
- أن تبقي فمك مغلقاً طيلة الدرس ولا تفتحه ، فلا أحب أن تنقل إلي أخبار أهل الحي 0
- حسناً ، حسناً أعدك بذلك ، ولكن متى آتيك ؟
- بعد صلاة المغرب 0
- حسناً سأوافيك في منزلك 0
وبعد انتهاء الدرس بدأ عبد الإله يرسل سيالات من عبارات الشكر والثناء ثم استأذن في الإنصراف ، ولكنه وقبل أن يغادر المنزل لمح سليماً وهو يهرول تجاه والدته العجوز ، ويرتمي في حجرها وهي تهزه ببطء وتغني له أغاني الطفولة وتترنم له بصوتها الشاحب أهازيج البراءة ، وسليم صامت في خشوع ومتبتل مع إنشادها في خضوع 0
خرج عبد الإله من بيت سليم وهو مندهش مما رأى ، فهذا المنظر كان قد رآه أيام كان طفلاً ياتي مع والدته إلى بيت أم سليم ، ولكن سليماً الآن قد كبر وهو في المرحلة الثانوية !!!
بدأ عبد الإله – وكعادته – يحكي ما رآه من أمر سليم ووالدته على كل من يقابله في الشارع أو في المدرسة ، ولم يصن لسانه الطويل على الرغم من الجميل الذي قدمه له سليم بشرحه للمشكل عليه من النحو 0
أنهى سليم دراسته الثانوية بامتياز وكانت درجته العلمية تؤهله إلى أن يلتحق بالكليات العلمية كالطب أو الصيدلة أو الهندسة ، ولكن ميوله الذاتية ورغباته التي تشكلت عنده في المرحلة الثانوية كانت تتجه نحو اللغة العربية وآدابها ، فقد كان مبدعاً في كتاباته ويستشف مستقبله المهني من خلالها ، ومن غير تردد التحق بكلية الآداب – قسم اللغة العربية 0
أنهى سليم دراسته الجامعية وقد أدهش أساتذته فيها من مهاراته اللغوية وشاعريته المتدفقة وخياله الواسع ، فقد كانت له قدرة عجيبة على رسم المقالة ، وذوق رفيع في اختيار القصائد المنمقة ، كما أنه ساحر في إلقائه للشعر وقرضه إياه لدرجة أن بحثه في التخرج كان بمثابة رسالة في الماجستير أو الدكتوراه مما حدا بالجامعة إلى طباعته ونشره على نفقتها ، ومن ثم فقد منحته الشهادة الجامعية مع مرتبة الشرف الأولى 0
قدم سليم شهادته وأوراقه إلى مكتب التوظيف ، وبعد ما يقارب الشهر نشرت الجرائد المحلية نتائج التوظيف ، وهرع سليم إلى اقتناء إحدى هذه الصحف وكادت الصدمة تذهب بلبه وفؤاده عندما قرأ تعيينه في منطقة نائية عن مدينته بينما زملاؤه في دفعته وهم أقل منه بكثير – الدرجة العلمية – قد تم تعيينهم في الأحياء المجاورة لمساكنهم !!
ذهب سليم إلى مكتب التوظيف وحاول أن يستفسر عن السبب ولكن دون جدوى ، فقد كان الرد قاطعاً أن هذه النتائج نهائية ولا تقبل المراجعة ، فعاد سليم إلى منزله ونفسه تملؤه غيظة وحسرة على هذا التعيين الغريب ، وأخبر والدته بالأمر ، وظل طوال يومه وليله وهو في هم كاد يخرج أنفاسه من جسده حتى سمع المؤذن وهو يصدح بصوته الجميل معلناً عن فريضة الفجر ، فهب متوضأً وأسرع خطاه إلى المسجد ، وبعد أن فرغ من صلاته دعاه إمام المسجد – الشيخ رزق – بعد أن لمح علامات الأسى والكبت قد طبعا على محياه وسأله عن السبب ، فأخبره خبره ، فقال الشيخ رزق :
- إن هذه الواسطة هي التي ضيعت الأمة 0
دندنت هذه الكلمة ( الواسطة ) في مسمع سليم ، فلم يك قد سمعها من ذي قبل ، وقال :
- الواسطة ، وماهي هذه الواسطة ؟
- الواسطة هي أن يستخدم الإنسان علاقاته الإجتماعية أو منصبه أو ماله في أخذ شيء ليس له ، فمثلاً : آباء زملائك لديهم علاقات اجتماعية سعوا من خلالها إلى توظيف أبنائهم في نفس المدينة وبالتالي أخذوا مكانك ،،، والله المستعان 0
فكر سليم برهة ، ثم قال :
- أليس هذا حرام ؟!!
أغمض الشيخ رزق عينيه قليلاً ، ثم قال :
- نعم ، إنه حرام لأنه يعطي الفرد ما ليس له ويضيع الحقوق بين الناس 0
امتعض وجه سليم ، ثم قال وبكل حسرة :
- لم هذا الظلم ؟ لم ؟!!
- لا تجزع يا بني ، سيعوضك الله خيراً0
توجه سليم إلى منزله ووجد أمه على مصلاها تدعو له ، فجلس بجوارها صامتاً ، رأته أمه وهو في هذه الحالة الصعبة فرثت له ، وقالت :
- لا تقلق يا بني ، إن الله لن يضيعنا ، سنذهب حيث تم تعيينك وسنبقى هناك لمدة عام ، ثم قدم أوراقك مرة أخرى إلى الوزارة في طلب النقل والعودة إلى مدينتنا 0
- هل هذا ما ترينه أماه ؟
- نعم 0
- إذن فلنتكل على الله 0
انتقل الأستاذ سليم إلى هذه البلدة النائية ، وشرع يفكر في حلم راوده منذ صغره وهو إنشاء مكتبة ضخمة خاصة به تضم جميع المراجع والمصادر الثقافية ، فبدأ وبلا تحسب في شراء هذا الكتب حتى ضيع فيها رواتبه الذي يقبضها نهاية كل شهر ، وبعد مضي العام الدراسي وانتهائه قدم أوراقه إلى مكتب التوظيف طالباً نقله وإعادته إلى مدينته الأم ، وكتب خطاباً بليغاً إلى الوزارة شكا فيه الظلم الذي تعرض له ، وفي لحظة غضب وبدون تعقل ذيل خطابه بعبارة " أرجو أن يكون ذلك على الفور "0
ومضت السنون والأعوام حتى بلغت الثلاثون عاماً وما زال الأستاذ سليم معلماً في ذات المدرسة ، وخلال هذه السنون توفيت والدته العجوز بعد أن اشتد عليها المرض وأضناها الكبر ، فحزن عليها حزناً عظيماً وبكاها بكاءً مراً ، وكان خلال هذه المدة يقضي يومه وسط نظام صارم ودقيق جداً وكأنه آلة لا إنسان ، فيبدأ يومه بصلاة الفجر ثم يخرج للمشي ما يقارب الساعة ، ثم يعود إلى بيته ويجهز إفطاره البسيط ، ثم يترجل على قدميه إلى المدرسة ، ويقضي يومه المهني فيها بكل أمانة وبمنتهى البذل والعطاء ، ثم يرجع إلى بيته ويقضي بقية يومه غارقاً بين صفحات الكتب والقراطيس 0
لم يكن يجمع الأستاذ وزملائه المعلمين سوى مهنة التدريس وكانوا يحترمونه ويقدرونه لأنه كان يتمتع بصفات رائعة من حيث ابتسامته الدافئة ، ومساعدته للطلبة الفقراء ، واشتراكه في كل اللجان الخيرية ، وحبه للخير و إقامته لدروس إضافية بدون مقابل ، كل هذه السمات الطيبة مكنته مكانة سامية في نفوس زملائه المعلمين ، إلا أنهم كانوا يتجنبون التحدث معه لأنه لم يكن اجتماعياً سمحاً ، فقد كان حازماً جاداً لا يطيق النكتة أو المزاح ، كما أنه هادئاً صامتاً لا يحب الحوار والنقاش ، فكانوا يرونه وحيداً في جيئته وذهابه وإقامته 0
لم يتزوج الأستاذ سليم ، ولم يتجرأ أحد من زملائه أن يسأله عن السبب ، بل إنهم رأوا أن يتركوه على حاله لأنهم رأوه منسجماً مع حياة الوحدة التي يعيشها ، كما أن لا مانع يمنعه من الزواج إذا رغبه ، أو لعل سبباً محرجاً يمنعه منه فلا داعي لإحراجه 0
وفي يوم من الأيام زار المدرسة وفد من وزارة التعليم يرافقه وفد تربوي من وزارة التعليم الفرنسية ضمن برنامج حكومي مشترك بين البلدين ، وخلال النقاش الذي تم بين الطرفين ، توجه مدير البعثة الفرنسية بسؤال إلى المعلمين عن مدى معرفتهم باللغة الفرنسية وإلمامهم بأدبها ، فصمتوا جميعاً عدا الأستاذ سليم الذي بدأ يرطن بلغتهم وبطريقة مكسرة جعل الوفد يتضاحكون خفةً فيما بينهم ، وعندما انتهى الأستاذ سليم من كلمته الترحيبية ، شكره مدير البعثة ، وسأله :
- أين تعلمت الفرنسية ؟
فأجاب الأستاذ سليم بالفرنسية :
- لقد تعلمتها وحدي في صباي وبدون معلم أو معهد لغات ، ولذا لا تتعجبوا من نطقي لبعض الكلمات الفرنسية لأنني لم أجد من يصحح لي النطق ، كما أنني تعلمت الألمانية والإيطالية ودرست آدابها وفنونها بنفس الطريقة 0
- وهل يعجبك الأدب الفرنسي ؟
- نعم ، وأنا أفضله على جميع الآداب الأوروبية 0
وهنا بدأت أسارير البهجة والإنبساط تشرق على وجوه البعثة ، فخاطبه أحد أعضاء الوفد قائلاً :
لمن تقرأ من الفرنسيين ؟
- لقد قرأت جميع أعمال الأديب الكبير " فيكتور هيجو " كما أنني أحب أن أقرأ لـ " لافنسو لا مارتين " و " آرثر رامبو " و " بول فيرلين " و" أناتول فرانس " و " اندريه جيد " وأحب مناهج النقد الأدبي التي ابتدعها الفرنسيون في القرن الثامن عشر على أيدي " سانت بوف " و " هيبولت تين " والأثر الذي أحدثته هذه المناهج في تطور النقد العالمي حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم 0
وفي نهاية اللقاء أثنى الوفد الفرنسي على هذه الأستاذ النادرة الذي لم يجدوا له مثيلاً خلال بعثتهم التي شملت العديد من الأقطار العربية ، وتعجبوا أن تخرج الصحراء مثل هذه الأعجوبة العصامية ، وأمر رئيس الوفد بمنحه شهادة تقدير وثناء من وزارة التربية والتعليم الفرنسية عرفاناً منها له 0
وفي السنة الثلاثون التي يدرس فيها الأستاذ سليم في مدرسته القابعة في هذه القرية التي لم تعد نائية ، كانت الأمور قد تغيرت عما كانت عليه عندما قدم الأستاذ إليها لأول مرة ، فهذة القرية قد تحولت إلى ما يشبه المدينة من حيث شبكة منظمة من الخدمات الحكومية والمرفقات العامة ومؤسسات الخدمة الإجتماعية والخيرية ، وكانت دفعة هؤلاء التلاميذ هي الدفعة الثلاثون التي يدرسها الأستاذ سليم في هذه السنة تختلف جذرياً عن الدفع السابقة من حيث أنهم متميزون في تحصيلهم العلمي وفي نفوسهم شعلة من الشغف الهائل تجاه المعرفة والثقافة 0
كانت هذه الدفعة أبناءً لتلاميذ سابقين للأستاذ ، وقد سمعوا من آبائهم حكايته العجيبة ، فأحبوا أن يكتشفوا أسراره ويخوضوا خفايا نفسه ، فأحبوه وأحبهم ، أحبوه لأنهم رأوا عجيباً لم يروه من قبل ، فقد أذهلتهم سيرته المفعمة بالإخلاص في العمل ، والنزاهة في الأداء ، كما أنه سحرهم بمدى حبه لمهنته ووفائه لها ، وأدهشهم من انضباطه الصارم في احترامه للوقت ، وعشقوا دروسه التي تنساب سحراً خلاباً يجذب ألبابهم تجاهه ، أما هو فأحبهم لأنه رأى فيهم شبابه وبدايته ، ولمح فيهم الأمل الذي كان يحلم أن يراه في تلاميذه منذ ثلاثين عاماً !!!
وبالرغم من صغر سنهم إلا أنهم وعوا قدره الحقيقي ومكانته الثقافية والأدبية التي ضيعتها رياح العمر وبددتها السنون ، وكانوا حريصين أشد ما يكون الحرص على استشفاف فلسفته في الحياة ورؤاه تجاه الظروف والأحداث التي يمرون بها ، وكانوا يكثرون عليه من الأسئلة العلمية والثقافية والفكرية والتي كان الأستاذ يجيب عليها بكل سلاسة ووضوح 0
وبعد انتهاء النصف الأول من السنة الدراسية جاء قرار من الوزارة إلى مدير المدرسة يفيده بأن الوزارة وافقت على نقل الأستاذ سليم إلى بلدته الأم ، وفي نهاية هذه الموافقة كتب عليها عبارة " نرجو أن يكون ذلك على الفور"!! تلقى الأستاذ سليم هذه الموافقة بشيء من التهكم والسخرية ، فأي موافقة تتم بعد ثلاثين عاماً من طلبها !! أما طلابه فقد انصدموا من هذا القرار بل إنهم اعترضوا وتوجهوا إلى مدير المدرسة وطلبوا منه أن يخاطب الوزارة بالعدول عن هذا النقل أو حتى تأجيله حتى نهاية العام الدراسي ولكن المدير اعتذر بقوله :
- كما تعلمون إن خطابات الوزارة التي تذيل بعبارة " نرجو أن يكون ذلك على الفور " لا يحق لنا مناقشتها معهم 0
جلس الأستاذ سليم مع هذه النخبة كما يحلو له أن يسميهم ، وألقى عليهم وبأسلوبه الشيق المعتاد درسه الأخير ، وبعد أن انتهى منه جاءت اللحظة الحاسمة ، وهي لحظة الوداع فلم يستطع الأستاذ أن يحبس أنفاسه ويمنع دموعه فبكى على فراقه لأحب الناس إليه ، أما تلاميذه فتوافدوا عليه يودعونه واحداً تلو الآخر ، وفي نهاية الوداع وعند تأهب الأستاذ لركوب السيارة التي ستقله إلى بلدته الأم ، طلب التلاميذ من أستاذهم نصيحته الأخيرة ، فقال لهم :
- ألا تتخذوني قدوةً لكم 0
وهنا ضج التلاميذ بأصواتهم استنكاراًَ لهذه النصيحة التي لم يكونوا يتوقعونه من أستاذهم الذي طالما كانوا يتوقون أن يكونوا مثله 0
قال لهم الأستاذ :
- اسمعوا يا أبنائي وعوا ما سأقوله لكم ، إن الحياة جميلة لأن الله هو الذي خلقها ، وحتى تسعدوا فيها عيشوها كما هي ، ولأنني لم أعشها كما هي فذلك لأنني لم أرها على جمالها الحقيقي ، فعلى سبيل المثال : أنا قد حرمت نفسي من الزواج وبالتالي من الأسرة وبالتالي من الأطفال ، وكل من الزواج والأسرة والأطفال جمال بحد ذاته ، لقد عشت حياتي بدون والد أو أشقاء أو أخوات أو أصدقاء ، وتوهمت أن الكتب ستغنيني عن هذا كله ، فما أغنتني عنهم الآن ؟ لقد حرمت نفسي من التمتع بنعمة جمال الحياة 0
لكن تليمذه سعد قاطعه قائلاً :
- أوليست الكتب والمعرفة جمالاً ؟
ابتسم الأستاذ من كلام سعد ، وقال :
- نعم إنها جمال ، ولكنها جمال جزئي ، صحيح أن المعرفة من أسمى آيات الجمال ولكنها تظل جزءاً منه ، ولأنها أسرتني طيلة حياتي فقد حرمتني من أن أر بقية الجمال !!
ثم سكت قليلاً ، وقال بتوجع :
- يا أبنائي ، لقد أعطيت الكتب حياتي ، فماذا أعطتني الآن ؟ هل أعطتني صحة أستطيع أن أواكب بها عملي الآن ، أن منحتني مالأً أستطيع أن أدخره لبقية عمري ، يا أبنائي ، ما أستطيع أن أختزله لكم في نصيحة أن أقول لكم :
جميلة هي الكتب ولكن الأجمل هي الحياة ، فعيشوا حياتكم بكل معانيها واجعلوا المعرفة والثقافة جزءاً منها ، ولا تضيعوا أنفسكم وتمنحوها الجزء الأكبر من حياتكم فتضيعوا كما ضعت أنا 0
عاد الأستاذ سليم إلى بلدته الأم بعد هذه السنون الطوال ، عاد إلى بيته القديم الذي ولد ونشأ وتربى فيه ، عاد فرأى فراش أمه كما هو فأجهده البكاء حتى غشي عليه ، لم يستطع أن يقاوم ، فذكرياته القديمة مع أمه قد امتزجت مع لحظاته الأخيرة بين تلاميذه فأصابته بحالة من التوتر والقلق النفسي ، لقد تلخبط كيان الأستاذ حتى أمسى عليلاً تكاد نفسه تتفطر عليه ، ولم يستطع المقاومة ولم تقتدر روحه أن تتماسك فاستسلم للمرض وخضع له مما حدا بالوزارة إلى فصله والإستغناء عن خدماته 0
سمع عبد الإله أن جاره القديم قد عاد إلى منزله ، فبدت عليه علامات العجب والتعجب ، وبدأ يخاطب نفسه :
- ما الذي جاء بجارنا القديم بعد كل هذه السنون ؟!!
ثم تأهب للذهاب إلى جاره القديم وإلقاء السلام عليه ، وفي طريقه إليه بدأ يضحك مع نفسه ويقول :
هل سيشترط عليَ أن أبقي فمي مغلقاً ؟!!
وعندما وصل إلى باب المنزل قرع الباب فلم يجبه أحد ، واستمر في القرع حتى هبت الريح فحركت الباب قليلاً ، أدرك عبد الإله حينها أن الباب مفتوحاً فحركه قليلاً ودخل ، وهو يقول :
- يا أهل البيت ، هل يوجد أحد هنا ؟
سمع صوتاً خفيفاً ينساب من الغرفة الداخلية ، فأعاد عبد الإله القول :
- يا أهل البيت ، هل يوجد أحد هنا ؟
فلم يجبه أحد أيضاً ، فاستمر عبدالإله بالتحرك رويداً تجاه الباب ، وبرفق شديد دفع الباب ، فما الذي رأى ؟
رأى جاره القديم مستلقياً على ظهره ، وقد عقد الوسائد تحت رأسه وجعلها كحجر أمه ، وهو يترنم بتلك الأناشيد القديمة والأهازيج الطفولية التي كانت الأم تنشدها قديماً له ، نعم إنها نفس الأناشيد ونفس اللحن وحتى الصوت الشحيب يكاد يكون ذاته ، خرج عبد الإله وعيناه مغرورتان بالدموع ، فلم يكن يحب أن ير جاره القديم وزميل دراسته وهو في هذه الحالة الصعبة ، وهو يكاد يفقد عقله إن لم يكن قد فقده ، فخرج وهو يبكي ويجهش به لأنه تذكر والدة سليم وهي تهز ابنها البالغ في حجرها وتغني له ، فبرح عبد الإله المكان وهو يقول : هذه المرة سأبقي فمي مغلقاً ولن أبوح – يا صديقي العزيز – بما رأيت 0