[align=center]
[/align][align=right]
راعني منظر الزهور الذاّبلة، والأوراق الخضر المائتة على شرفة ذلك العجوز القابع بجوارنا ،فقد كان منذ أيام قلائل يمطر أصص النباتات بقطرات ماءٍ من بين أصابعه بعشقٍ واضح وفي وتبادلٍ ملفتٍ لأطوار الحياة وطاقاتها.
يعطيها من سنيّ عمره العتيق فتنمو، ويأخذ منها إشراقة وميعة الضياء فتشرق ملامحه فرحاً...
قلّبتُ في ذاكرتي تلك الأحداث التي مرّت سراعاً عبر شهرٍ فائتٍ، منذُ وطأ داره هذه، أيمكن لما جرى بيننا، ذاك الأثر الذي ألمسه الآن...؟
أتراني أوصلته للحال هذه عن قصد أو غير قصد؟ يا الهي أليس من حقّي أن أغضبَ؟ أن أعبّرَ عن استيائي..؟ فمنذ أن سكن إلى جوارنا وأنا أعاني الخوف والهواجس التي تؤرقني ليل نهار.. ماله ولابنتي؟ ماذا يريد منها؟ صرتُ أخاف نظراته لها.. نظراتٌ لا تشبع.. أكثر من الشغف.. صرت أخاف نداءاته المتكرّرة لها بسببٍ ومن غير سبب.
تارة يشاطرها.. هوايتها الطفولية، ويحدّثها بلا ملل، وتارة يأتي لها بالقطط المنزلية الأليفة التي تحبها، وتارة أخرى يهديها بعض الأشياء البسيطة التي ترغبها فتفتح شرائط العلب المعقودة، ببراءةٍ ودهشةٍ برعميّةٍ واضحة.
صرت أرتاب في كلّ شيءٍ.. خاصة عندما لمستُ فيها دفاعها عنه.. والتماس الأعذار له.. وبكاءها بحرقةٍ، لمّا تستعر النار في قلبي فأوبّخها وأنهرها بحزم وأمنعها عن مقابلته،كانت هي ذاتها لا تعلم سبباً لهذا البكاء، شيء ما يفوق طاقتها ، لا تحسن التعبير عنه.
لقد كان يحثّها على الدراسة والتفوّق، والنجاح، بكلّ الأساليب التي اختزنها عبر مراحل عمره العتيق، وهو التربويّ المتقاعد.. المشهود له بالكفاءة والخبرة أعطاها في البداية.. درس.. اثنان.. اشتدّ الصراع في نفسها البريئة كنت ألمح شرودها وبقايا الدموع النديّة في مآقيها.
حسمتُ الأمر، أعلنتُ رفضي لاستكمال هذه الدروس، ارتحتُ قليلاً بعد هذا القرار، أحسسْتُ أن قراراتنا هي جزء من كياننا، وعبرها نسير كالنسور الشامخة.
أيام قلائل تفصل ابنتي عن امتحان الشهادة الإعدادية..
أعلنت حالة الطوارئ في منزلي الهادئ، أفردت لها ركناً يفصلها عن جلبة المنزل، كنت في غمرة استعداداتي أرتّب ، أنظّف، مشوّشة الشعر، مبلّلة الثياب نزقة الردود (الجرس يُقرع... بحركة عفويّة سارعتْ ابنتي إلى فتح الباب، أجفلتْ في مكانها لم تستطعْ النّطق، وأنا أسألها عن القادم ،أبعدتها مستفسرةً بفضولٍ كبيرٍ، ذهلتُ.. إنه هو.. هذا الأشيب الذي دخل حياتنا فجأة، واقتحمها عنوةً، بتشبّثٍ غريبٍ، رغم كل قسوتي وردودي الجارحة التي لم أكن أخفيها.
برقتْ عيناي كاللّبؤة الشرسة التي تشدّ شبلها لأضلعها...
أحسستُ أن لي أظافر غير مرئيّة نشبتْ بين أصابعي، وأنّ لهاثي تسمعه أذني، مقروناً بخفقات قلبي ، وأن طنيناً في أذني استجمع كل أسراب النحل ودويّه.
صرختُ فيه لماذا أتيتَ؟ أما قلت لك ألا تأتِ.. وألا تحدّثها؟ لماذا أتيت؟ حملق بي مذعوراً من وراء نظّاراته السميكة، ارتعشتْ ذوائبه وهي تنضح عرقاً، سعدتُ لهذا الانكسار الذي لمحته في أنامله المرتجفة، وهو يدفع لي ببعض الكتب والمراجع كي تستعين بها ابنتي أثناء دراستها كما وعدها .
دفعت يدي بظاهر كفي قائلة:
ومن قال أننا نريد منك شيئاً خذها وارحل..؟؟؟
وتناثرت الأوراق على الأدراج وتمزّقت الأغلفة، واختلطت الأشياء كلها بالأشياء، لملم نفسه ورحل لم يكن يعنيني على أيّ هيئة رحل، ما يهمني ذاك السياج الآمن الذي يحمي ابنتي ، وهاقد عاد إليها ذاك الشعور الغريب الذي كان يتغلغل في حناياها ولا تجد له تفسيراً...
بكتْ...... وبكتْ.. حاولت أن أنسيها بسرعة ما حدث ،أوحيت لها أن القسوة أحياناً تريح الإنسان في كثير من المواقف ، عليه أن يستعملها كسلاح يبتر أنصاف الحلول التي يتذرع بها الضعفاء.
مرّ على الموقف أيام عشر.. لم ألحظه بها
عُدت للتساؤل الذي أوقدته عروق دمي.. هل أنا السبب؟.. هل ذاك السياج الآمن هو الذي أطفأ حضوره إلى شرفته..؟؟؟
ابنتي من ورائي كانت تلحظ ما يعتريني ، استدرتُ إليها أعتصرُ منها إجابات كانت تفرضها تساؤلاتي وحيرتي.
ماذا كان يريد منك سألتها؟
سرحتْ بفكرها بعيداً وعاد إليها ذلك الموج المتصارع في روحها بصوت متهدّجٍ قالت: لست أدري.. ولكني أذكر في إحدى اللحظات وأنا أقضم بعض قطع من الشوكولاتة التي أحبها وقد أتاني بها فشكرته،
أجابني باكياً ناديني بابا.. قولي شكراً يا أبي، حملقتُ به خائفة من دموعه المنسابة من محاجر متعبة يغطيها خصلات شعره الأشيب.. قلت له بصوت متقطّع كما أراد: شكراً يا أبي...
ازدادت دموعه تسارعاً وانحداراً فأمسك بمنديله مجهشاً بالبكاء.
لطمتُ نفسي.. ولماذا لم تقولي ذلك قبلاً؟ لماذا يا ابنتي؟ لقد قتلته بدموعه، وقتلتني بقسوتي.
أجابت: كنت خائفة منك ولم أقوَ على البوح بذلك ،لأن إعصاراً من اللّهيب كان يجتاحك عندما ترينه،آثرتُ الانسحاب من أجلك.
ارتديتُ عباءتي بلا تردّدٍ لم أعد أسمع باقي الكلمات منها، توجّهتُ إلى بيته الكئيب الوحيد...
التراب يعشعش على أدراجه، وصمتٌ طويل ران على جدرانه، بعد أن نقرتُ الباب بيدي، قطع السكون الموحش صوته المتعب وقد رافقه سعال كاسر بُحّ تردّده.
وعندما التقت عينانا..
انسابت سطورٌ وسطورٌ بلا أي كتابات بيننا، قال لي الكثير.. وقلت له الأكثر، أحسستُ لأول مرة في حياتي أنني أستحقُ المحاكمة في حقّ إنسان جرحته.. مزّقتُه.. ظلمتُه.. أبكيت ثلوج العمر في جسده النحيل.
منكسرٌ هو..صامتٌ .. كئيب.. حزين..، استدار نحو صالة المنزل تبعته في الخطو، كاد يُغشى عليّ وأنا أرى صورةً مؤطّرةً لفتاة حلوة الملامح ،ملائكية العينين، ذات ضفائر شقراء كابنتي، تتوسّط الحائط الرئيس في المنزل، بحيث تطالها عيناك في أي جهة كنت تقصدها. كان أرحم مني ،لم يدع الحيرة تأكلني عندما استفسرتْ قسماتي عنها..؟؟؟
نطق بشفتيه الجافتين: إنها ندى.. ابنتي الوحيدة التي اختطفها مني الموت إثر حادث أليم منذ أعوامٍ عديدة، بات طيفها هو الزائر الوحيد لمقلتي، افتقدتها، وتلاشيت عند فقدها، جرّبتُ كلّ الوصفات، كلّ النصائح، كلّ الصلوات.. ولم أنسها.. أبتْ أن تغادرني، جاورت أوردتي وشراييني، انشطر قلبي وتربّعت في حناياه، غيّرتُ مسكني بحثاً عن النسيان.
ساق لي القدر ابنتك وجدتُ ملامح ابنتي فيها، أسقطتُ عليها كلّ أشواقي وحرماني، وتلك المساحة الوارفة من عمري التي أصيبت بالقحط .
فجأة أورقت صحراء عمري عندما عرفتُ ابنتك...
أعادت لي نسائم الربيع، عدتُ إلى حدائقي التي هجرتها لسنين طوال. غرّدت الطيور في حقول عمري من جديدٍ، انظري إلى هذا التشابه الغريب في ملامحهما..، كأنّ الله عوضني عنها بابنتك..
نفس الجمال في الملامح والرّوح..
قلتُ لهُ: آسفة.. لقد استكشفْت في نفسي مساحات غباءٍ وطيشٍ وكبرٍ، وقسوةٍ لا مبرّر لها ،كان عليّ أن أعرف أن أحسّ.. أن ..
وقبل أن أكمل..هزّ أصابعه نافياً:لا تحمّلي نفسك أعذاراً لا مبرّر لها.. أنا أقدّر خوفك على ابنتك، وهذا حقّك، المشكلة عندي لا فيك أنتِ..
وقع خطى ابنتي قطع حوارنا، حاول أن يتفاداها من نظراته المليئة بالشوق والحنين، ارتبكتْ هي كالعادة.. قلت لها: تقدّمي- ألم تشتاقي لأبيك وأستاذك..
أتت على استحياءٍ نحوه.. خالني أني رأيت بعض السّواقي الجافّة تعود للجريان في وجهه المكدود، وأن ابتسامة هاربة منه قد عادت إليه، وأخمدتُ تلك الثورة الخرقاء في نفسي نحوه..
قلت له: يا أستاذنا الفاضل- ويا أبانا الجليل.. منذ هذه اللحظة.. ستكون أنت مرجعنا، ومرشدنا، هل تقبلنا؟ فتكون لنا الأب.. والأخ.. والموئل..؟ أحسسْت بنشوةٍ عارمةٍ من السّعادة تغمرني وابنتي، وتغمره.
تركته.. عائدة لشقتي، وأنا أرى الردّ الضاحك من خلال عينيه اللتين تتبعاني، وأروع لحظة عشتها عندما سمعت باب شرفته ينفتح بأزيزه المعتاد ،وقد أطلّ منه يحمل الماء، ويسقي الزرع، ويمطر قطرات الماء من خلال أصابعه المرتعشة على الأزهار..
كعادته عندما يكون في قمّة سعادته.. كلّ صباحٍ.
[/align]
دموع الشتاء
[/align][align=right]
راعني منظر الزهور الذاّبلة، والأوراق الخضر المائتة على شرفة ذلك العجوز القابع بجوارنا ،فقد كان منذ أيام قلائل يمطر أصص النباتات بقطرات ماءٍ من بين أصابعه بعشقٍ واضح وفي وتبادلٍ ملفتٍ لأطوار الحياة وطاقاتها.
يعطيها من سنيّ عمره العتيق فتنمو، ويأخذ منها إشراقة وميعة الضياء فتشرق ملامحه فرحاً...
قلّبتُ في ذاكرتي تلك الأحداث التي مرّت سراعاً عبر شهرٍ فائتٍ، منذُ وطأ داره هذه، أيمكن لما جرى بيننا، ذاك الأثر الذي ألمسه الآن...؟
أتراني أوصلته للحال هذه عن قصد أو غير قصد؟ يا الهي أليس من حقّي أن أغضبَ؟ أن أعبّرَ عن استيائي..؟ فمنذ أن سكن إلى جوارنا وأنا أعاني الخوف والهواجس التي تؤرقني ليل نهار.. ماله ولابنتي؟ ماذا يريد منها؟ صرتُ أخاف نظراته لها.. نظراتٌ لا تشبع.. أكثر من الشغف.. صرت أخاف نداءاته المتكرّرة لها بسببٍ ومن غير سبب.
تارة يشاطرها.. هوايتها الطفولية، ويحدّثها بلا ملل، وتارة يأتي لها بالقطط المنزلية الأليفة التي تحبها، وتارة أخرى يهديها بعض الأشياء البسيطة التي ترغبها فتفتح شرائط العلب المعقودة، ببراءةٍ ودهشةٍ برعميّةٍ واضحة.
صرت أرتاب في كلّ شيءٍ.. خاصة عندما لمستُ فيها دفاعها عنه.. والتماس الأعذار له.. وبكاءها بحرقةٍ، لمّا تستعر النار في قلبي فأوبّخها وأنهرها بحزم وأمنعها عن مقابلته،كانت هي ذاتها لا تعلم سبباً لهذا البكاء، شيء ما يفوق طاقتها ، لا تحسن التعبير عنه.
لقد كان يحثّها على الدراسة والتفوّق، والنجاح، بكلّ الأساليب التي اختزنها عبر مراحل عمره العتيق، وهو التربويّ المتقاعد.. المشهود له بالكفاءة والخبرة أعطاها في البداية.. درس.. اثنان.. اشتدّ الصراع في نفسها البريئة كنت ألمح شرودها وبقايا الدموع النديّة في مآقيها.
حسمتُ الأمر، أعلنتُ رفضي لاستكمال هذه الدروس، ارتحتُ قليلاً بعد هذا القرار، أحسسْتُ أن قراراتنا هي جزء من كياننا، وعبرها نسير كالنسور الشامخة.
أيام قلائل تفصل ابنتي عن امتحان الشهادة الإعدادية..
أعلنت حالة الطوارئ في منزلي الهادئ، أفردت لها ركناً يفصلها عن جلبة المنزل، كنت في غمرة استعداداتي أرتّب ، أنظّف، مشوّشة الشعر، مبلّلة الثياب نزقة الردود (الجرس يُقرع... بحركة عفويّة سارعتْ ابنتي إلى فتح الباب، أجفلتْ في مكانها لم تستطعْ النّطق، وأنا أسألها عن القادم ،أبعدتها مستفسرةً بفضولٍ كبيرٍ، ذهلتُ.. إنه هو.. هذا الأشيب الذي دخل حياتنا فجأة، واقتحمها عنوةً، بتشبّثٍ غريبٍ، رغم كل قسوتي وردودي الجارحة التي لم أكن أخفيها.
برقتْ عيناي كاللّبؤة الشرسة التي تشدّ شبلها لأضلعها...
أحسستُ أن لي أظافر غير مرئيّة نشبتْ بين أصابعي، وأنّ لهاثي تسمعه أذني، مقروناً بخفقات قلبي ، وأن طنيناً في أذني استجمع كل أسراب النحل ودويّه.
صرختُ فيه لماذا أتيتَ؟ أما قلت لك ألا تأتِ.. وألا تحدّثها؟ لماذا أتيت؟ حملق بي مذعوراً من وراء نظّاراته السميكة، ارتعشتْ ذوائبه وهي تنضح عرقاً، سعدتُ لهذا الانكسار الذي لمحته في أنامله المرتجفة، وهو يدفع لي ببعض الكتب والمراجع كي تستعين بها ابنتي أثناء دراستها كما وعدها .
دفعت يدي بظاهر كفي قائلة:
ومن قال أننا نريد منك شيئاً خذها وارحل..؟؟؟
وتناثرت الأوراق على الأدراج وتمزّقت الأغلفة، واختلطت الأشياء كلها بالأشياء، لملم نفسه ورحل لم يكن يعنيني على أيّ هيئة رحل، ما يهمني ذاك السياج الآمن الذي يحمي ابنتي ، وهاقد عاد إليها ذاك الشعور الغريب الذي كان يتغلغل في حناياها ولا تجد له تفسيراً...
بكتْ...... وبكتْ.. حاولت أن أنسيها بسرعة ما حدث ،أوحيت لها أن القسوة أحياناً تريح الإنسان في كثير من المواقف ، عليه أن يستعملها كسلاح يبتر أنصاف الحلول التي يتذرع بها الضعفاء.
مرّ على الموقف أيام عشر.. لم ألحظه بها
عُدت للتساؤل الذي أوقدته عروق دمي.. هل أنا السبب؟.. هل ذاك السياج الآمن هو الذي أطفأ حضوره إلى شرفته..؟؟؟
ابنتي من ورائي كانت تلحظ ما يعتريني ، استدرتُ إليها أعتصرُ منها إجابات كانت تفرضها تساؤلاتي وحيرتي.
ماذا كان يريد منك سألتها؟
سرحتْ بفكرها بعيداً وعاد إليها ذلك الموج المتصارع في روحها بصوت متهدّجٍ قالت: لست أدري.. ولكني أذكر في إحدى اللحظات وأنا أقضم بعض قطع من الشوكولاتة التي أحبها وقد أتاني بها فشكرته،
أجابني باكياً ناديني بابا.. قولي شكراً يا أبي، حملقتُ به خائفة من دموعه المنسابة من محاجر متعبة يغطيها خصلات شعره الأشيب.. قلت له بصوت متقطّع كما أراد: شكراً يا أبي...
ازدادت دموعه تسارعاً وانحداراً فأمسك بمنديله مجهشاً بالبكاء.
لطمتُ نفسي.. ولماذا لم تقولي ذلك قبلاً؟ لماذا يا ابنتي؟ لقد قتلته بدموعه، وقتلتني بقسوتي.
أجابت: كنت خائفة منك ولم أقوَ على البوح بذلك ،لأن إعصاراً من اللّهيب كان يجتاحك عندما ترينه،آثرتُ الانسحاب من أجلك.
ارتديتُ عباءتي بلا تردّدٍ لم أعد أسمع باقي الكلمات منها، توجّهتُ إلى بيته الكئيب الوحيد...
التراب يعشعش على أدراجه، وصمتٌ طويل ران على جدرانه، بعد أن نقرتُ الباب بيدي، قطع السكون الموحش صوته المتعب وقد رافقه سعال كاسر بُحّ تردّده.
وعندما التقت عينانا..
انسابت سطورٌ وسطورٌ بلا أي كتابات بيننا، قال لي الكثير.. وقلت له الأكثر، أحسستُ لأول مرة في حياتي أنني أستحقُ المحاكمة في حقّ إنسان جرحته.. مزّقتُه.. ظلمتُه.. أبكيت ثلوج العمر في جسده النحيل.
منكسرٌ هو..صامتٌ .. كئيب.. حزين..، استدار نحو صالة المنزل تبعته في الخطو، كاد يُغشى عليّ وأنا أرى صورةً مؤطّرةً لفتاة حلوة الملامح ،ملائكية العينين، ذات ضفائر شقراء كابنتي، تتوسّط الحائط الرئيس في المنزل، بحيث تطالها عيناك في أي جهة كنت تقصدها. كان أرحم مني ،لم يدع الحيرة تأكلني عندما استفسرتْ قسماتي عنها..؟؟؟
نطق بشفتيه الجافتين: إنها ندى.. ابنتي الوحيدة التي اختطفها مني الموت إثر حادث أليم منذ أعوامٍ عديدة، بات طيفها هو الزائر الوحيد لمقلتي، افتقدتها، وتلاشيت عند فقدها، جرّبتُ كلّ الوصفات، كلّ النصائح، كلّ الصلوات.. ولم أنسها.. أبتْ أن تغادرني، جاورت أوردتي وشراييني، انشطر قلبي وتربّعت في حناياه، غيّرتُ مسكني بحثاً عن النسيان.
ساق لي القدر ابنتك وجدتُ ملامح ابنتي فيها، أسقطتُ عليها كلّ أشواقي وحرماني، وتلك المساحة الوارفة من عمري التي أصيبت بالقحط .
فجأة أورقت صحراء عمري عندما عرفتُ ابنتك...
أعادت لي نسائم الربيع، عدتُ إلى حدائقي التي هجرتها لسنين طوال. غرّدت الطيور في حقول عمري من جديدٍ، انظري إلى هذا التشابه الغريب في ملامحهما..، كأنّ الله عوضني عنها بابنتك..
نفس الجمال في الملامح والرّوح..
قلتُ لهُ: آسفة.. لقد استكشفْت في نفسي مساحات غباءٍ وطيشٍ وكبرٍ، وقسوةٍ لا مبرّر لها ،كان عليّ أن أعرف أن أحسّ.. أن ..
وقبل أن أكمل..هزّ أصابعه نافياً:لا تحمّلي نفسك أعذاراً لا مبرّر لها.. أنا أقدّر خوفك على ابنتك، وهذا حقّك، المشكلة عندي لا فيك أنتِ..
وقع خطى ابنتي قطع حوارنا، حاول أن يتفاداها من نظراته المليئة بالشوق والحنين، ارتبكتْ هي كالعادة.. قلت لها: تقدّمي- ألم تشتاقي لأبيك وأستاذك..
أتت على استحياءٍ نحوه.. خالني أني رأيت بعض السّواقي الجافّة تعود للجريان في وجهه المكدود، وأن ابتسامة هاربة منه قد عادت إليه، وأخمدتُ تلك الثورة الخرقاء في نفسي نحوه..
قلت له: يا أستاذنا الفاضل- ويا أبانا الجليل.. منذ هذه اللحظة.. ستكون أنت مرجعنا، ومرشدنا، هل تقبلنا؟ فتكون لنا الأب.. والأخ.. والموئل..؟ أحسسْت بنشوةٍ عارمةٍ من السّعادة تغمرني وابنتي، وتغمره.
تركته.. عائدة لشقتي، وأنا أرى الردّ الضاحك من خلال عينيه اللتين تتبعاني، وأروع لحظة عشتها عندما سمعت باب شرفته ينفتح بأزيزه المعتاد ،وقد أطلّ منه يحمل الماء، ويسقي الزرع، ويمطر قطرات الماء من خلال أصابعه المرتعشة على الأزهار..
كعادته عندما يكون في قمّة سعادته.. كلّ صباحٍ.
[/align]
تعليق