بعد خمسة وعشرين عاما قررّت أن تستقيل من التعليم ...
كم تشعر بالخسارة .. والحسرة والأسى !
فالعمر يمضي والجمال يذوب .
أفنت شبابها في خدمة زوج وتربية ابنتين ، تزوجتا وأقامتا خارج البلاد . .. وما زالت تضمد آثار الديون التي اقترضتها لبناء المنزل وتعليم ابنتيها .
تشعر أنها نهبت حتى آخر بريق من أمل ..
لو يعود الزمان ! همست سلمى لنفسها . كثيرا من الأشياء ما كان ينبغي لها أن تحدث .. كزواجها من حسن .. كيف تزوجت حسن ؟ لا تدري .. وكيف قضت معه كل هذه الأعوام ؟
كان مدرسا حينما تزوجا .. ليس المدرس هو الحلم الأجمل ، لكنه قد يصبح كذلك إن كان من النوع المثابر المجتهد النشيط .. فكم من مدرس أصبح طبيبا أو مديرا أو مدرسا جامعيا أو حتى وزيرا ..
لكنها كانت تكتشف يوما بعد يوم أن حسن ليس كذلك .. بل هو أقرب إلى جدار آيل للسقوط ، لا بد أن ينهار دون دعمها ومساندتها . فراتب المدرس المحترم غير كاف .. والعمل الإضافي الذي يمارسه بعد الدوام أيضا لا يفي متطلبات الحياة .. ابنتاها تكبران والمصاريف تزيد .
بعد خمسة وعشرين عاما تقاعدت ، وتقاعد أيضا السيد حسن . لم يصبح طبيبا أو مهندسا أو وزيرا .. بل أصبح شيئا لا يطاق .. حتى وجوده في المنزل يخلق المشاكل ويشعل جنون سلمى .
قرر أخيرا أن يجد عملا يصرفه عن البيت .. فعمل بائع خضار متجول .
"يا إلهي ! لم يجد غير هذا العمل ! همست سلمى تحدث نفسها. بدأ حياته مدرسا ، وانتهى بائع خضار متجول . رباه ! كيف قضيت معه كل هذه السنين ؟
كأني كنت تحت تأثير مخدر ما ،، ثم بدأت أصحو على إيقاع الألم .. واتساع الجرح .كنت ضحية ، وشمعة تذوب بلا هدف ..
يسحقني الماضي . ماض لا أستطيع تغييره لكنه يغيرني كل يوم .. فأنا أصبحت عصبية المزاج ، متبرمة النفس ، ضيقة الخلق .. أشعر أنني على مشارف الجنون..
لا بد أن أغير حياتي .. لكن حياتي لن تتغير إذا لم أخلع حسن : بائع الخضار المتجول .. هذا الرجل الذي لم يقدم لي شيئا سوى التعاسة والشقاء .
ليس الخلاص من حسن مشكلة .. إنه كعهدي به رجل مهزوم ، لن يقاوم إصراري وتصميمي . "
حين عاد في المساء قابلته بصمت قاتل ..
قال حسن : ما بك يا سلمى ؟
صمتت قليلا ثم قالت : كنت اليوم عند جارتنا ليلى : تعرفها طبعا .. كان زوجها مقاولا صغيرا ... ثم أصبح ما شاء الله .
---- : يا سلمى .. هذه أرزاق من عند الله . دعك من الآخرين .
---- : لا يا سيدي .. كيف أدع الآخرين ؟
ليلى تغرق بالذهب . وبيتها يزخر بالأثاث الفاخر .. لم تعمل مثلي ، ولم تكافح ... وما زالت في مقتبل العمر وريعان الشباب ..
وأنا .. يا حسرة .
----- : احمدي ربك يا سلمى ، ولا تعترضي على مشيئة الله .
----- : إني أحمد الله دائما . لكن ما حل بي لم يكن مشيئة الله .. بل اختياري السيء حين قبلت بك زوجا . ومشيئتك أنت حين كنت تنحدر يوما بعد يوم .
حتى أصبحت بائع خضار متجول .
---- : لا حول ولا قوة إلا بالله .
---- : ثم إنك نهبتني .. نهبت شبابي ونقودي وحياتي .
---- : أسكتي يا بنت الحلال: أموالك ذهبت في تعليم البنات ، ومصاريف البيت ، وبناء المنزل الذي هو لك ، وموثق باسمك .
---- : وما علاقتي بمصاريف البيت ؟ أليست تلك مسئولية الرجل .
----- : لكني لم أرغمك على شيء . قد جرى كل شيء عن طيب خاطر ، فما بالك اليوم تفتحين نوافذ الماضي ؟
----- : لأني كنت الخاسرة الكبرى .. أما أنت ، فقد عشت حياة لم تحلم بها . .. امتلكت سلمى .. سلمى التي كانت حلم الجميع .. سلمى التي انتهى بها المطاف أن تكون زوجة بائع خضار متجول .
----- : وماذا تريدين الآن ؟
----- : الطلاق ..
----- : استغفر الله .. ماذا تقولين ؟
----- : قلت لك : الطلاق .. ألم تسمع ؟ كما أريد منك نفقة .. وأن تترك البيت .
----- : سألبي لك كل ما تشائين .. لكن انتظري عدة شهور .. حتى تتأكدي من رغبتك .
لم تمض عدة أسابيع ، حتى خضع السيد حسن لطلبات سلمى .. بالطلاق وترك البيت ، ودفع النفقة .
كانت تشعر بالزهو والإعجاب والترف حين تجد نفسها في منزل فسيح ، يطل على حديقة واسعة تتشابك أشجارها ، وتتعانق ورودها .
كانت تجلس على الشرفة : تعانق الأشجار بنظراتها التي التمعت بشعاع الأمل ودفء الحياة .. وكانت تراقب السيارات والعابرين ، فتشعر بكآبة غامضة لهدوء المكان .. وقلة السيارات والعابرين .. ثم تتذكر حسن .. كيف اختار هذا المكان الهاديء ، بعيدا عن نبض الحياة وعنفوانها ..
ثم لا تلبث أن تهمس لنفسها : لم يترك لي شيئا جميلا يذكرني به .
شعور بالوحدة ينخر آمالها ..
تقف أمام المرآة .. تستعرض وجهها وقوامها ..
ما زالت سلمى ذاتها رغم دورة الزمان ..أو هكذا يخيّل لها . . وما زال صدرها مفعما بهذا الوميض الذي يشعل الدفء في خلايا روحها .
تتمنى لو يعود الزمان ، لكنها تدرك أن الواقع لا يتغير بالتمني .
" ليس بالضرورة أن أعود طفلة ، لكني أستطيع أن أعيش ما تبقى من حياتي بطريقة مختلفة .. فأنا ما زلت جميلة ثرية .
سوف أتزوج .. شابا وسيما حتى لو كان عاطلا عن العمل ، أو رجلا محترما يحلم بالثروة والجاه .. أو شخصية مرموقة تليق بي .
سأخلع خمسة وعشرين عاما ، وأرتدي فستانا نضرا جميلا لعدة سنوات .. ثم لا يهمني أمر الحياة بعد ذلك ..
مضت الأيام والشهور ، لكن حلم سلمى لم يتحقق ..
وذات صباح بينما كانت تنظر في المرآة .. شعرت أن وجهها يحتاج ابتسامة دائمة عريضة كي تخفي بعض التغضنات والتجاعيد التي بدأت تزحف على وجهها .
ما عادت سلمى تنتظر أحدا .. تشعر أن الظروف تتحالف ضدها .. وأنها ستموت في هذا البيت بائسة وحيدة .
كانت ترتشف فنجان قهوة حين سمعت بائع خضار متجول يعبر الشارع ..
تذكرت حاجتها للخضار والفواكه ، فطلبت من البائع أن يتوقف ..
نظرت في وجهه البائس، وملامحه المتعبة .
قالت وهي تبتسم : مهنة شاقة . لكنها شريفة .
أجاب الرجل : تعودت عليها .. تصوري يا سيدتي : خمسة وعشرون عاما .
قالت سلمى : يا لك من رجل مكافح ؟ كيف كنت تعيل أسرة من هذه المهنة ؟
---- : لم يكن لي أولاد .. هي وفاء فقط : زوجتي وفاء .
كانت عاقرا ، ثم توفيت منذ عدة سنوات .
قالت سلمى : أنا أيضا كنت متزوجة .. لكن الجميع تركني .. ابنتاي تزوجتا ، وهما تقيمان الآن خارج البلد .. وزوجي تركني : تركني أكابد مشقة الحياة وحدي .. ومضى في حال سبيله .
قال البائع : الرجل الغبي فقط هو الذي يترك امرأة مثلك .
ليتك يا سيدتي توافقين !
قالت وقد تسربت من شفتيها ابتسامة ناعمة : أوافق ؟ على ماذا ؟
----- : على أن أكون خادمك يا سيدتي .
قالت المرأة : هل تعلم ؟ كان حلمي دائما أن أتزوج رجلا مثابرا صبورا مكافحا ..
----- : عفوا سيدتي فأنا بائع خضار متجول .. لا أليق بامرأة مثلك .
قالت : لا تقل ذلك ، فأنت حلمي وفتى أحلامي .
تلعثم الرجل وهو يقول : لكني لا أمتلك مهرا يليق بك ..
قالت : لا أريد ذهبا ولا نقودا ولا حتى فستانا ..
سوف نتزوج .. بذات الفستان : الفستان الذي احتفظت به منذ خمسة وعشرين عاما .
تعليق