الصورة النازفة
(مجرد طفل عراقي)
شعر عمر ابو غريبة
أتنظرُ وجهي أم هو الموتُ ينظرُ=يُطلُّ من العينينِ والدمُ يقطرُ
خبا فيهما تَوقٌ يلوِّحُ صاخباً=وغار بريقٌ للشقاوةِ مُضمِرُ
أنا ها هنا يا قرّةَ العينِ لا تخفْ=فكُفَّ صراخاً في فمٍ منك يفغرُ
تشبّثْ بأهدابي الغريقةِ إنني=أخاف عليك النأيَ عني وأحذرُ
لك الحضنُ مهدٌ والدموعُ مراضعٌ=وهيهات يدنو منك تُرْبٌ معفِّرُ
أدافعُ كفّاً للمنونِ تشدُّهُ=وأرجو حياةً والمنيّةُ تزجرُ
وأبكي لعلّ الموتَ يعطفُ حانياً=فيمعنُ جذباً للصبيِّ ويسخرُ
يغالبني فيك الردى وهو غالبٌ=ويقهر عزمي قاهرٌ بك يظفرُ
أحدّق في عينيك والدمعُ يقطرُ=وما ثَمَّ إلا قاتلٌ يتبخترُ
أراه بكفِّ الغدرِ يخفي وراءه=قنابلَ للأطفالِ ثُم يفجِّرُ
أيا أمِّ لا تبكي فدمعُكِ وقعُهُ=أشدُّ من الموتِ الذي فيَّ ينخرُ
أيا أمَّنا هذي يميني فكفكي=بها عبرةً تكوي جراحي وتعصرُ
ويا أمّ صفحاً لُطِّخ الثوبُ من دمي=وثوبُكِ يا أمي من الطهرِ أطهرُ
وكنتِ طلبتِ الخبزَ مني فعاقني=كمينٌ بدربي للمنيةِ يحفرُ
ترصّدني يا أمّ وحشٌ بعودتي=وزمجر من تحتي انفجارٌ مُدمِّرُ
فأقلعتُ يا أمي كطيرٍ محلِّقاً=وفي كفِّ حتفي حطّ جنحي المكسَّرُ
رغائفُ خبزي في الطريقِ تبعثرتْ=حَبَوتُ لها لكنّ حَولي مبعثَرُ
فلا تغضبي أماهُ طال تأخّري=فما كنتُ يوماً قبلَها أتأخرُ
وعفوَكِ يا أمي لقد متُّ باكراً=وددتُ لكي لا تحزني لو أُعمَّرُ
على اللوحِ مُسجىً غارقٌ في دمائه=كأن فراتاً تحته يتحدّرُ
هنا رافدٌ منه ومنيَ رافدٌ=على وجنتي ينسابُ دجلةُ آخَرُ
روافدُ للأحزانِ والدمِ تلتقي=وتلطمُ أمواجي الخليجَ وتهدرُ
وما بين نهريِّ الدماءِ وأدمعي=يزمزمُ طوفانٌ من القهر يزأرُ
عراقُ ألمْ يُتخمْ من القتلِ والِغٌ=وقد فاض بالأشلاءِ فمٌّ ومنخرُ
عراقي الذي منه العروقُ شواخِبٌ=ونهري الذي من دورةِ الدمِ أحمرُ
ألمْ تنطفئْ لابنِ الزنا منك شهوةٌ=فما زال يحتزُّ الرقابَ وينحرُ
ألمْ يتجشَّاْ من دمائك فاسقٌ=يعبُّ دمَ الأطفالِ رطلاً ويسكرُ
فيا معشرَ الأذنابِ عبّوا جيوبَكم=من النفلِ والأسلابِ والقَوْدِ وانفِروا
بكَم بعتمُ حزنَ الثكالى ودمعةً=سفحنَ تساوي كلَّ نفطٍ يُكرَّرُ
أمرتزقٌ من لحمِنا وصِغارِنا=ببخسِ دنانيرٍ على القتلِ تُؤجَرُ
خذوا نفطَكم عني إلى غيرِ رجعةٍ=ونحُّوا مُداكم عن دمي وتقهقروا
وعرشكم الهاري على جثتي وهى=فروموا بمالِ النفطِ شعباً لتشتروا
وَلدنا وأرضعنا دُمىً تقذفونها=بأقدامكم كي تستجمّوا وتسمروا
وما يُطرب الأوغادَ في لهوِهم سوى=ذبيحٍ من الأوداجِ والحلق يشخرُ
وصرخةِ رَوعٍ من صبيٍّ مفزَّعٍ= تغشّاهُ موتٌ بالفجاءةِ يجأرُ
فيا شِسعَ بسطارِ الغُزاةِ تطامنوا=صَغاراً وأنتم بالصَّغارةِ أجدرُ
وبيعوا دمائي ما استطعتم وقَوِّدوا=فهيهات أنْ يرقى العبيدُ ويكبروا
وأنى لكم أن تكبروا يا حثالةً=من الخزيِ في كاساتِه تتقعَّرُ
ويا ظلَّ محتلٍّ تطاول خلفَهُ=إذا اعتدلتْ شمسُ الظهيرةِ يقصرُ
دمُ ابني وآلاف الدماءِ روافدٌ=لدجلةَ تجتاح الغُثاءَ وتعبرُ
وصرختُه المكتومةُ الآنَ رَجعُها=يزلزلكم بالرعبِ فاللهُ أكبرُ.
تعليق