يوم واحد...حياة بأكملها
كان المطر ينثال على الأرض مُحدثا شهوة غامرة تملأ الشرفات و الطرقات و تتسرّب إلى الشقق الصغيرة المُتراصّة في ذبول و حياء. في ذلك اليوم لم يشأ "عاصم" أن يخرج من بيتِهِ..أحبّ أن يستمتع بعزلته و لو لِساعات معدودة بعد خروج الزوجة للعمل و الأبناء للدرس.
فكرَ ماذا يفعل؟ طالما أراد أن يتملص من ضغط العمل و يغيبَ دون أن يضطر إلى تقديم وثائق أو مبررات فليقتطعوا من مرتـّبِهِ ما يشاؤون فهو لا يكفي في كل الأحوال و لا شيء يساوي يوما تعيشـُهُ بكامل حُريَتِكَ و أن تختار بنفسك ذلك اليوم.
دلف بفضول إلى المطبخ ليصنع قهوة لنفسه و يستمتع بها صحبة المطر، إنه لا يُجيد صنع القهوة فلم يفعل ذلك يوما و لكنه سيجرب فهي لا تتطلب علما خارقا: "إنها لذيذة فعلا" (لم تكن مطبوخة جيدا) قال و هو يعبر الشقة مترنما: "كم أنت مُريح و كبير أيها البيت" (لم يكن كذلك فهو بالكاد غرفتان صغيرتان) لمعت في ذهنه صورة أمِّهِ التي لم يرها منذ سنة فدلق القهوة في فمِهِ و اُنطلق نحو الخارج، لم يكن يملك سيارة فاُستقل سيارة أجرة و ذهب إلى والدته و حين وصل بعد ساعتين عانقها بقوة: "كم اُشتقتُ إليك يا أمي". كانت تسأله عن زوجته و عن الأولاد لكنه لم يكن يريد أن يسمع شيئا، كان يريد فقط أن يتأمل وجهها و يلمسه بيديه و يعانقها أكثر فأكثر. كانت مندهشة:"ما بك يا عاصم؟" فأجابها هو :"لقد اُشتقت إليك يا أمي، أنت وحيدة في هذا البيت، ما كان عليّ أن أتركك بمفردك" فأجابت: "أعلم يا بني أن الشقة لا تكفيكم فكيف إذا ازددتم شخصا آخر".. لمح صورة والده المعلقة لكنه تجاهلها مُبعدا عينيه بسرعة.. كان يُمرر يديه على ثيابها و شعرها و وجهها: "أنا حقا مُشتاق إليك يا أمي". سألت أمه و كأنها تتذكر شيئا: "ألستَ تعمل يا بُنيّ؟"أجاب بابتسامة عصبية: "ليس مُهمّا، ليس مُهما..." أخذ يفحص كل مكونات البيت و يتذكر كل الأشياء التي شاركته طفولته و شبابَه و كان يمتعض من وجودها الأبدي في البيت، كم هي حميمة الآن..كانت الأم تتبَعُهُ باستغراب: أنت على غير عادتِك اليوم يا صغيري" فقال: "هل تستكثرين عليّ أن أهرب إليكِ و أغتسِل من كهولتي؟ إني أشعر بثقل لا يُحتمل فوق كتفيّ، أريد فقط أن أكون معكِ يا أمي" فتح باب غرفته و دخل فيما ذهبت أمه للمطبخ تُعدّ الكسكس الشهي، أكلتَهُ المُفضلة..
كان يتفحص كل شيء: فِراشَهُ و مَكتَبَهُ المتواضع و الستائر التي حالت ألوانُها بفعل الزمن و فتح النافذة فبَدَتْ له بيوت الجيران و تنهّد مُتمتما و هو يرمق البيت المُقابل: " يا شـُرفة الأكاذيب....كم حلمنا، كم صبرنا، كم عشقنا.. في النهاية لم تكن طريقنا واحدة.. المال و الأفكار لا يلتقيان" أغلق الشباك و أسند إليه ظهرَه فتذكر كيف ذهبا للمرة الوحيدة إلى مطعم مناسب فقالت و هي تنظر إلى الطاولة المقابلة التي يجلس عليها أحد الأثرياء الجدد و هو يعطي النادل هِبة: "أرأيتَ؟ الإحسانُ يجعل الناس عبيدا" ثم مسحت فمها بالمنديل ملقية إياه في اشمئزاز: "و أنا لا أريد أن أتزوج مشروع عبد".
جرحته تلك الكلمات كما لو كان يسمعُها للتوّ و أراد أن يتلافى اُضطرابَهُ ففتح خزانَتَه الصغيرة التي كانت تحوي أوراقا و رسائلَ قديمة هَمّ بتصفـّحِها لكنه قرر في حركة جريئة و دون كلام أن يجمعها في كيس بلاستيكي و يُحرقها. كانت الأوراق و الصور تحترق في البرميل القصديري فيما كان هو يصدر صوتا تملؤه النشوة ثم راودتهُ فكرة مجنونة فسحب الستائر و ألقاها في النار و فتح خزانة ثيابِهِ و ألقى مُحتوياتها في البرميل.. (كانت الأم قد ذهبت إلى الدكاكين المجاورة لتشتري ما ينقصها لتصنَعَ مأدُبة صغيرة لابنِها الذي لم تَرَهُ يوما بتلك العاطفة) كان يريد أن يُلغي كل شيء من حياتِهِ و يُقدّمَهُ للنار لتُفنِيَهُ و أخيرا لم يعُد في الغرفة شيء فبدَتْ له صورة أبيهِ التي طالما أخافتْهُ واضحة جَليّة فأخذها من دُرج قاعة الجلوس و ألقاها في البرميل الملتهب ثم فتش في جسمه و خلع خاتم الزواج و ألقاه أيضا.. كان يُريد أن يخلع كل شيء الماضي و الحاضر، كان يريد أن يتطهر و يشعر أنه كائن جديد. قال في نفسِهِ:"عائلتـُكَ...ليست سوى مجموعة من الغر باء بالنسبة لك. أيها المتوغل في ذاتك لا تُجامل أحدا... آلام الحشا هي الشيء الوحيد الذي يحدد درجة قرابة الآخرين.. القريب هو من يتسرب إلى أحشائك فإما أن يملأها سلاما و نشوة أو خوفا و ألمًا أما الباقون فلا وُجود لهم" في تلك اللحظة دخلت أمُهُ فهرولت إلى غُرفتِهِ متوقعة الأسوأ: "ماذا تفعل يا بنيّ؟" قال كالملدوغ: "لا شيء، أردت أن أتخلص من الأشياء التي لا أحتاجها" قالت بتوجس:"هل انت بخير؟" قال في شك:"نعم، نعم، أكيد، أنا بخير" قالت :"لم اعد أستطيع أن ألومَكَ فأنت كهل" قال بتردد:"نعم، أنا كهل، أنا كهل"
وضعت المائدة و طلبت إليه أن يجلس، كان يأكل بلا كلام و بلا شهية، كان يشعر كمن يمضغ الأوراق "ما بك يا ولدي؟" قالت. "لا شيء" قال. وقف فجأة و عانقها بقوة مودّعا لكنه لم يكن يُريد العودة إلى بيتِه. جال في قريته طويلا سيرا على الأقدام حتى اُهتدى إلى المقبرة، جلس على قبر لا يعرف صاحبَهُ و اُستمتع ببرودة الحجر تصعد إلى رأسِهِ فاُستلقى على ظهره و قال: "السكينة هي كل ما احتاجُهُ، نعم السكينة" نام حتى أغشى الليلُ و حين أفاق وجد أمه عند القبر باكية: "ماذا دهاك اليومَ يا ولدي؟" قال: "عليّ أن أعود إلى البيت"
في البيت دخل كالغريب فقدمت له زوجتُه دون كلام مذكرة أرسلها ربّ العمل تتمثل في مسؤوليته عن مقتل طفل في مركز الإدماج بسبب غيابه المفاجئ و غير المبرَر.. عندها عانق أولادَهُ بقوة و سلـّم نفسَهُ مُتسائلا إن كان يومٌ واحد جديرا بأن يُساوي حياة بكاملها..في السجن فيما كان المطر ينثال على الأرض مُحدثا اُنقباضا و خيبة غامرة تملأ صَدْرَهُ و تنتشر في الشرفات و الطرقات و تتسرب إلى الشقق الصغيرة المتراصة في ذبول و حياء.
كان المطر ينثال على الأرض مُحدثا شهوة غامرة تملأ الشرفات و الطرقات و تتسرّب إلى الشقق الصغيرة المُتراصّة في ذبول و حياء. في ذلك اليوم لم يشأ "عاصم" أن يخرج من بيتِهِ..أحبّ أن يستمتع بعزلته و لو لِساعات معدودة بعد خروج الزوجة للعمل و الأبناء للدرس.
فكرَ ماذا يفعل؟ طالما أراد أن يتملص من ضغط العمل و يغيبَ دون أن يضطر إلى تقديم وثائق أو مبررات فليقتطعوا من مرتـّبِهِ ما يشاؤون فهو لا يكفي في كل الأحوال و لا شيء يساوي يوما تعيشـُهُ بكامل حُريَتِكَ و أن تختار بنفسك ذلك اليوم.
دلف بفضول إلى المطبخ ليصنع قهوة لنفسه و يستمتع بها صحبة المطر، إنه لا يُجيد صنع القهوة فلم يفعل ذلك يوما و لكنه سيجرب فهي لا تتطلب علما خارقا: "إنها لذيذة فعلا" (لم تكن مطبوخة جيدا) قال و هو يعبر الشقة مترنما: "كم أنت مُريح و كبير أيها البيت" (لم يكن كذلك فهو بالكاد غرفتان صغيرتان) لمعت في ذهنه صورة أمِّهِ التي لم يرها منذ سنة فدلق القهوة في فمِهِ و اُنطلق نحو الخارج، لم يكن يملك سيارة فاُستقل سيارة أجرة و ذهب إلى والدته و حين وصل بعد ساعتين عانقها بقوة: "كم اُشتقتُ إليك يا أمي". كانت تسأله عن زوجته و عن الأولاد لكنه لم يكن يريد أن يسمع شيئا، كان يريد فقط أن يتأمل وجهها و يلمسه بيديه و يعانقها أكثر فأكثر. كانت مندهشة:"ما بك يا عاصم؟" فأجابها هو :"لقد اُشتقت إليك يا أمي، أنت وحيدة في هذا البيت، ما كان عليّ أن أتركك بمفردك" فأجابت: "أعلم يا بني أن الشقة لا تكفيكم فكيف إذا ازددتم شخصا آخر".. لمح صورة والده المعلقة لكنه تجاهلها مُبعدا عينيه بسرعة.. كان يُمرر يديه على ثيابها و شعرها و وجهها: "أنا حقا مُشتاق إليك يا أمي". سألت أمه و كأنها تتذكر شيئا: "ألستَ تعمل يا بُنيّ؟"أجاب بابتسامة عصبية: "ليس مُهمّا، ليس مُهما..." أخذ يفحص كل مكونات البيت و يتذكر كل الأشياء التي شاركته طفولته و شبابَه و كان يمتعض من وجودها الأبدي في البيت، كم هي حميمة الآن..كانت الأم تتبَعُهُ باستغراب: أنت على غير عادتِك اليوم يا صغيري" فقال: "هل تستكثرين عليّ أن أهرب إليكِ و أغتسِل من كهولتي؟ إني أشعر بثقل لا يُحتمل فوق كتفيّ، أريد فقط أن أكون معكِ يا أمي" فتح باب غرفته و دخل فيما ذهبت أمه للمطبخ تُعدّ الكسكس الشهي، أكلتَهُ المُفضلة..
كان يتفحص كل شيء: فِراشَهُ و مَكتَبَهُ المتواضع و الستائر التي حالت ألوانُها بفعل الزمن و فتح النافذة فبَدَتْ له بيوت الجيران و تنهّد مُتمتما و هو يرمق البيت المُقابل: " يا شـُرفة الأكاذيب....كم حلمنا، كم صبرنا، كم عشقنا.. في النهاية لم تكن طريقنا واحدة.. المال و الأفكار لا يلتقيان" أغلق الشباك و أسند إليه ظهرَه فتذكر كيف ذهبا للمرة الوحيدة إلى مطعم مناسب فقالت و هي تنظر إلى الطاولة المقابلة التي يجلس عليها أحد الأثرياء الجدد و هو يعطي النادل هِبة: "أرأيتَ؟ الإحسانُ يجعل الناس عبيدا" ثم مسحت فمها بالمنديل ملقية إياه في اشمئزاز: "و أنا لا أريد أن أتزوج مشروع عبد".
جرحته تلك الكلمات كما لو كان يسمعُها للتوّ و أراد أن يتلافى اُضطرابَهُ ففتح خزانَتَه الصغيرة التي كانت تحوي أوراقا و رسائلَ قديمة هَمّ بتصفـّحِها لكنه قرر في حركة جريئة و دون كلام أن يجمعها في كيس بلاستيكي و يُحرقها. كانت الأوراق و الصور تحترق في البرميل القصديري فيما كان هو يصدر صوتا تملؤه النشوة ثم راودتهُ فكرة مجنونة فسحب الستائر و ألقاها في النار و فتح خزانة ثيابِهِ و ألقى مُحتوياتها في البرميل.. (كانت الأم قد ذهبت إلى الدكاكين المجاورة لتشتري ما ينقصها لتصنَعَ مأدُبة صغيرة لابنِها الذي لم تَرَهُ يوما بتلك العاطفة) كان يريد أن يُلغي كل شيء من حياتِهِ و يُقدّمَهُ للنار لتُفنِيَهُ و أخيرا لم يعُد في الغرفة شيء فبدَتْ له صورة أبيهِ التي طالما أخافتْهُ واضحة جَليّة فأخذها من دُرج قاعة الجلوس و ألقاها في البرميل الملتهب ثم فتش في جسمه و خلع خاتم الزواج و ألقاه أيضا.. كان يُريد أن يخلع كل شيء الماضي و الحاضر، كان يريد أن يتطهر و يشعر أنه كائن جديد. قال في نفسِهِ:"عائلتـُكَ...ليست سوى مجموعة من الغر باء بالنسبة لك. أيها المتوغل في ذاتك لا تُجامل أحدا... آلام الحشا هي الشيء الوحيد الذي يحدد درجة قرابة الآخرين.. القريب هو من يتسرب إلى أحشائك فإما أن يملأها سلاما و نشوة أو خوفا و ألمًا أما الباقون فلا وُجود لهم" في تلك اللحظة دخلت أمُهُ فهرولت إلى غُرفتِهِ متوقعة الأسوأ: "ماذا تفعل يا بنيّ؟" قال كالملدوغ: "لا شيء، أردت أن أتخلص من الأشياء التي لا أحتاجها" قالت بتوجس:"هل انت بخير؟" قال في شك:"نعم، نعم، أكيد، أنا بخير" قالت :"لم اعد أستطيع أن ألومَكَ فأنت كهل" قال بتردد:"نعم، أنا كهل، أنا كهل"
وضعت المائدة و طلبت إليه أن يجلس، كان يأكل بلا كلام و بلا شهية، كان يشعر كمن يمضغ الأوراق "ما بك يا ولدي؟" قالت. "لا شيء" قال. وقف فجأة و عانقها بقوة مودّعا لكنه لم يكن يُريد العودة إلى بيتِه. جال في قريته طويلا سيرا على الأقدام حتى اُهتدى إلى المقبرة، جلس على قبر لا يعرف صاحبَهُ و اُستمتع ببرودة الحجر تصعد إلى رأسِهِ فاُستلقى على ظهره و قال: "السكينة هي كل ما احتاجُهُ، نعم السكينة" نام حتى أغشى الليلُ و حين أفاق وجد أمه عند القبر باكية: "ماذا دهاك اليومَ يا ولدي؟" قال: "عليّ أن أعود إلى البيت"
في البيت دخل كالغريب فقدمت له زوجتُه دون كلام مذكرة أرسلها ربّ العمل تتمثل في مسؤوليته عن مقتل طفل في مركز الإدماج بسبب غيابه المفاجئ و غير المبرَر.. عندها عانق أولادَهُ بقوة و سلـّم نفسَهُ مُتسائلا إن كان يومٌ واحد جديرا بأن يُساوي حياة بكاملها..في السجن فيما كان المطر ينثال على الأرض مُحدثا اُنقباضا و خيبة غامرة تملأ صَدْرَهُ و تنتشر في الشرفات و الطرقات و تتسرب إلى الشقق الصغيرة المتراصة في ذبول و حياء.
تعليق