مقهى الموت 2
في ذلك الليل الغارق في صمته، دخل رجل ببزة سوداء، تحضن جسده السمين وتلمّ شمل منكبيه المتباعدين، استقبله النادل بسرور، ثم قاده إلى الطاولة الملائمة للحزن العميق الذي بدا عليه، تلك التي تجلد الذاكرة بسوط يعيد فتح ما التأم من الجراح ..
وما هي إلا ثواني حتى انهار الرجل، ودوى صوت تفجر السدود في عينيه التي أجهشت في البكاء المرير.. وفجأة وبطريقة هيسترية علا النحيب من كل أرجاء المقهى، اهتزت الكراسي، اصطكت أنياب الفناجين ببعضها البعض، قطع السكر ذابت وتبخرت قبل أن تُستخدَم، وأخذت الطاولات تتمايل بجنون .. حاول "الأستاذ" أن يثبت في مكانه، ولكن صراخ طفلة قدم من الغرفة، أربكه وزعزعه أكثر، نظر إلى المعلّم فوجده يسدّ أذنيه بكفيه وبأنينه الجنونيّ ..
ظنّ "الأستاذ" أنّ زلازلا ضرب المقهى، إلى أن رأى النادل يسير ببرود وبخفة متجها نحو الزبون..
اقترب النادل منه مبتسما، همس في أذنه بلطف "سيدي من فضلك يمنع البكاء بصوت عالٍ هنا " وبلحظة خاطفة وضع يده على فم الرجل واغتال أنفاسه ...
سقط الرجل على وجه أحزانه، فعمّ الهدوء المكان من جديد ..
الطاولات عادت إلى مواقعها، والفناجين إلى صمتها الماكر، كما استفاقت النرجيلة من الإغماء الذي أصابها، لتتابع سهرتها مع "المعلّم" وكأنّ شيئا لم يكن ..
ولولا وجود الجثة لظنّ "الأستاذ" أن ما حدث كان كابوسا ليس إلا..أمسك قلبه الهلع، متتبعا بنظراته النادل أثناء جرّه الجثة نحو الغرفة مع الإبتسامة التي لا تفراق وجهه أبدا ...
خشي الأستاذ من أن يوقع خوفه به، فتمالك أعصابه، متظاهرا بالقوة، محاولا استيعاب ما جرى، فهذه أول مرة تحدث فيها جريمة من هذا النوع..
المقهى لا يغيّر طبيعة عمله، إلا في ظروف استثنائية، وللنادل صلاحيات أكبر من هذه بكثير، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على هدوء المقهى. كيف لا وثعابين الموت لا تقترب بوجود ضجيج!
وحدها ثعابين الأسرار المدفونة تهيج، وتقرر الخروج من وكرها لتحدث الزلازل البراكين ..!
غابت أيام، ولم تغب هذه الأحداث عن عن ذاكرة "الأستاذ" الذي أخذ يتبادر إلى ذهنه ألف سؤال يطرحه في سره كل ليلة:
"هل كان ذلك صراخ طفلة فعلا قدم من تلك الغرفة؟ وماذا يوجد في تلك الغرفة؟ أهي مقبرة للجثث؟ أم أنهم لا يدفنونها، ربما يستعين النادل بملامحها لينسج بها أقنعته!"
توقف قليلا عن التفكير، ثم قال في نفسه:
-أحيانا أشعر أن تلك الأرواح تتقمصه، فأراها في عينيه، وكأنه يحبسها في داخله، بل يحبسها في الطاولات والكراسي، ورماد التبغ أيضا .. اه تذكرت لقد أخبرني النادل الذي عمل هنا لفترة ثم اختفى، أنهم يحتاجون إلى الموت لإعداد فناجين القهوة والشاي .. ربما أكون قد أدمنت على نكهة الموت تلك حتى ما عدت قادرا على التغيب ولو ليوم واحد عن هذا المقهى اللعين! .. وربما .. "
ظلّ غارقا في التفكير، حتى أحسّ أن نسائم المقهى الشيطانية تتسلل من خلفه، لتغدر به في لحظة انعدام توازنه، فأفسد عليها خطتها، وعاد إلى وعيه ..
بل إن الأنثى التي دخلت المقهى، جاذبة العيون إليها، هي من ساعدته على ذلك ..
.
.
يتبع
15/10/2010
تعليق