بسم الله الرحمن الرحيم
حدثني أحد الجيران قال :
تَعلمْ يا عافاكَ الله أنيِّ قريحُ الفم مُنذ سنين، أمْتصُّ طعامِي مَصًّا أو أعصُرَهُ لِيَلِين. ولمَّا سَمِعْتُ بوُرُودِ قافِلةِ الأطبَّاء (1)، التي يسْتقدِمُهَا ذوُو المَرْحََمَة توَاتُرًا كلَّ شِتاء، أهْمَلتُ حَرْثِي ودَوابِّي وعِيَالِي، وقدْ عجَّلَ الوَجَعُ المُمِيتُ بترْحَالِي.
لنْ أطِيلَ فيمَا عَمََْ، وسَأكتفِي لكَ بمُفِيدِ القوْلِ وبالمُهم، فحـَالَ وُصُولي إلىَ "السبيطارْ" (2)، صُعقتُ لِعَدِيدِ منْ سَبقنِي ولطُول قائِمَةِ الإنتِظار. فقد امْتدَّتْ مَرَامِي الصُّفُوف، وتجَلىَّ علىَ وجُوهِ القوْم تقاطيبُهَا وعُقِدَتْ منهُمْ الأنـُوف، فمَا مِنْ مُجيبٍ عنْ سُؤال أوْ رَادٍّ للتـَّحَايَا، وفهمْتُ أنْ لا مَجَالَ للتزَلـُّفِ أوْ لحُسْن النـَّوَايَا، فتهَاديْتُ إلىَ آخِر الصَّف، أضْربُ كفـًّا بكف، أسَفـًا علىَ ضيَاع يَوْمِي ولشَدَّ مَا يُهْلِكنِي الأسَف.
نَجُــزَ ضُحَى ذاكَ اليوْم في فتـُور، ولمْ أشْهَدْ لظليِّ حرَاكا إلا مَا ندَرَ وتعَطلتْ حرَكة المُرُور، وزادَ تصَاعُدُ العَرَق ورَفثُ القوْل منْ ترَدِّي الأمُور، فحتىَّ منْ دلفَ إلىَ الطبيبِ فقد خرَجَ ذليلا مُكفهرًّا، يلعَنُ سََذاجَة جعَلتهُ يُصَدِّقُ أنَّ فِي أمْر القوَافِل الطبِّيةِ خيْرًا وبرًّا. لكنْ حَصَلَ أمَامَنا مَا لا عيْنٌ رأتْ ولا أذنٌ سَمِعَتْ، فقدْ حلَّ بالمَكان، رَكبٌ منَ الشُّبَّان، تأبَّطـُوا منَ الشَّـرِّ ما بَدا جَلِيًّا للعيَان. فانبَرُوا إلىَ الصُّفـُوفِ وعاثـُوا فيهَا شقـًّا، ونثرُوا على المُصْطفـِّينَ صَلفـًا وجبَرُوتـًا وفسْقـًا، ينتظِرُونَ منْ أحَدِنا أنْ يَأتِيَ جُرْأةً أو امْتِناعًا، فتذهَبَ بهيْبَتِهِ وتُبْلِغَهُ منَ التـَّأدِيبِ أنـْوَاعًا.
انتهَى شوْطُ المُناورَةِ الأولىَ بأمَان، واُفسِحَ لزعِيمِهمْ كيْ يتقدَّمَ في اطمِئنان، يرْنـُو الوُقوفَ بأوَّل الصَّفِّ وقدْ زانهُ مَا زَان. قُــرْطٌ بأسْفل الشِّفـَّةِ وآخرُ بالأنفِ تغَارُ لوَهْجهمَا الأُذنان، ورِدْفٌ شَعِـــرٌ اصْطفاهُ البنطـَالُ فتعَرَّى وبَان. وهَاكَ يا سَامِعِي ما صَارَ ومَا كان.
فقد كانَ بالمُقدِّمَةِ كهْلٌ ينتظِرُ دوْرَهُ كالبقيَّة، ما إنْ بَرِحَهُ الذهُولُ واسْتعَادَ الوَعْيَ والسَّجِيَّة، حتىَّ تقدَّمَ منْ ظالِمِنا فِي ثبَات، وطلبَ إليْهِ العَوْدَ واحْتِرَامَ الطابُور ثمَّ الاعْتذارَ عمَّا فات ... أرْسَلَ غريمُنا ضحْكة هُزْءٍ ضمَّنهَا بعْضَ آثامِهِ، وعجَّلَ باسْتدْعَاءِ أزْلامِهِ، يُعِيدُ علىَ مَسَامِعِهمْ مَا صَارَ ويسْتحِثهُمْ حُكمَ الدَّار، فتكالبُوا علىَ المسْكين تكالـُبَ التـَّتار، يسْتبيحُونَ هيْبَتهُ ويمْتهنـُونَ شيْبَتهُ، بينمَا نظرْنا نحْنُ، حرْقىَ، مَآلَ خيْبَتِهِ.
ولكنَّ صَاحِبَنا انتفضَ فِي همَّةٍ وخِفـَّةٍ، وسَحَبَ منْ عُقالِهِ عُلبَة "النـَّفـَّة" (3)، فتحَهَا ثمَّ أرْسَلَ بمُحْتواهَا فِي عُيُون غُرَمَائِهِ، وحَلفَ برَبِّ الكوْن وبسَمَائِهِ، أنْ يُقـْرِئَهُمْ درْسَ الأخْلاق مِنْ ألِفِهِ إلىَ يَائِهِ. فارْتدُّوا فزَعًا ووَلـُّوا نزْعًا، وثقـُلتْ عَصَاهُ عَلىَ أعْقابهمْ وعلى جُنـُوبهمْ، وأحْكمْنا نحْنُ الطـَّوْقَ لِمَنـْع هُرُوبهمْ.
ثمَّ عَمَدَ إلىَ كبيرهمْ الذي مَازَالَ يتفقـَّدُ عيْنيْهِ، فأثقلَ عليْهِ ضَرْبًا علىَ ردْفيْهِ، وكلمَا بدَرَ منهُ صَدًّا عاجَلهُ بلكزَةِ عَصَا بيْنَ فخِذيْهِ. ثمَّ مَدَّ يَدَهُ وقطفَ أقرَاطهُ، حتىَّ اختلطتْ دمَاؤُهُ ودُمُوعُهُ بأمْخاطِهِ، وصَاحَ بنا ينشُدُ ليَاذا، فمَا أقمْنا لمُناشدَتِهِ وزْنا ولمْ نمْهلـْهُ عِيَاذا، بلْ ترَكناهُ لمَصِيرهِ يلقىَ تأدِيبًا، وعُدْتُ إلىَ البيْتِ جَذلان ولوْ أنيِّ لمْ ألقَ لقرْحِي تطـْبيبًا.
شرح بعض المفردات :
(1) قافلة مكونة من أطباء متعددي الإختصاصات تجوب بعض الأماكن النائية والقرى لتقريب الخدمة للمواطن (عمل إنساني بالأساس)
(2) السبيطار : المستشفى أو المشفى بلهجة تونسية محلية
(3) النفـَّة : دقيق التبـغ يعالج ويوضع في علبة .. يدمنه البعض لكن الآن إلى زوال.
حدثني أحد الجيران قال :
تَعلمْ يا عافاكَ الله أنيِّ قريحُ الفم مُنذ سنين، أمْتصُّ طعامِي مَصًّا أو أعصُرَهُ لِيَلِين. ولمَّا سَمِعْتُ بوُرُودِ قافِلةِ الأطبَّاء (1)، التي يسْتقدِمُهَا ذوُو المَرْحََمَة توَاتُرًا كلَّ شِتاء، أهْمَلتُ حَرْثِي ودَوابِّي وعِيَالِي، وقدْ عجَّلَ الوَجَعُ المُمِيتُ بترْحَالِي.
لنْ أطِيلَ فيمَا عَمََْ، وسَأكتفِي لكَ بمُفِيدِ القوْلِ وبالمُهم، فحـَالَ وُصُولي إلىَ "السبيطارْ" (2)، صُعقتُ لِعَدِيدِ منْ سَبقنِي ولطُول قائِمَةِ الإنتِظار. فقد امْتدَّتْ مَرَامِي الصُّفُوف، وتجَلىَّ علىَ وجُوهِ القوْم تقاطيبُهَا وعُقِدَتْ منهُمْ الأنـُوف، فمَا مِنْ مُجيبٍ عنْ سُؤال أوْ رَادٍّ للتـَّحَايَا، وفهمْتُ أنْ لا مَجَالَ للتزَلـُّفِ أوْ لحُسْن النـَّوَايَا، فتهَاديْتُ إلىَ آخِر الصَّف، أضْربُ كفـًّا بكف، أسَفـًا علىَ ضيَاع يَوْمِي ولشَدَّ مَا يُهْلِكنِي الأسَف.
نَجُــزَ ضُحَى ذاكَ اليوْم في فتـُور، ولمْ أشْهَدْ لظليِّ حرَاكا إلا مَا ندَرَ وتعَطلتْ حرَكة المُرُور، وزادَ تصَاعُدُ العَرَق ورَفثُ القوْل منْ ترَدِّي الأمُور، فحتىَّ منْ دلفَ إلىَ الطبيبِ فقد خرَجَ ذليلا مُكفهرًّا، يلعَنُ سََذاجَة جعَلتهُ يُصَدِّقُ أنَّ فِي أمْر القوَافِل الطبِّيةِ خيْرًا وبرًّا. لكنْ حَصَلَ أمَامَنا مَا لا عيْنٌ رأتْ ولا أذنٌ سَمِعَتْ، فقدْ حلَّ بالمَكان، رَكبٌ منَ الشُّبَّان، تأبَّطـُوا منَ الشَّـرِّ ما بَدا جَلِيًّا للعيَان. فانبَرُوا إلىَ الصُّفـُوفِ وعاثـُوا فيهَا شقـًّا، ونثرُوا على المُصْطفـِّينَ صَلفـًا وجبَرُوتـًا وفسْقـًا، ينتظِرُونَ منْ أحَدِنا أنْ يَأتِيَ جُرْأةً أو امْتِناعًا، فتذهَبَ بهيْبَتِهِ وتُبْلِغَهُ منَ التـَّأدِيبِ أنـْوَاعًا.
انتهَى شوْطُ المُناورَةِ الأولىَ بأمَان، واُفسِحَ لزعِيمِهمْ كيْ يتقدَّمَ في اطمِئنان، يرْنـُو الوُقوفَ بأوَّل الصَّفِّ وقدْ زانهُ مَا زَان. قُــرْطٌ بأسْفل الشِّفـَّةِ وآخرُ بالأنفِ تغَارُ لوَهْجهمَا الأُذنان، ورِدْفٌ شَعِـــرٌ اصْطفاهُ البنطـَالُ فتعَرَّى وبَان. وهَاكَ يا سَامِعِي ما صَارَ ومَا كان.
فقد كانَ بالمُقدِّمَةِ كهْلٌ ينتظِرُ دوْرَهُ كالبقيَّة، ما إنْ بَرِحَهُ الذهُولُ واسْتعَادَ الوَعْيَ والسَّجِيَّة، حتىَّ تقدَّمَ منْ ظالِمِنا فِي ثبَات، وطلبَ إليْهِ العَوْدَ واحْتِرَامَ الطابُور ثمَّ الاعْتذارَ عمَّا فات ... أرْسَلَ غريمُنا ضحْكة هُزْءٍ ضمَّنهَا بعْضَ آثامِهِ، وعجَّلَ باسْتدْعَاءِ أزْلامِهِ، يُعِيدُ علىَ مَسَامِعِهمْ مَا صَارَ ويسْتحِثهُمْ حُكمَ الدَّار، فتكالبُوا علىَ المسْكين تكالـُبَ التـَّتار، يسْتبيحُونَ هيْبَتهُ ويمْتهنـُونَ شيْبَتهُ، بينمَا نظرْنا نحْنُ، حرْقىَ، مَآلَ خيْبَتِهِ.
ولكنَّ صَاحِبَنا انتفضَ فِي همَّةٍ وخِفـَّةٍ، وسَحَبَ منْ عُقالِهِ عُلبَة "النـَّفـَّة" (3)، فتحَهَا ثمَّ أرْسَلَ بمُحْتواهَا فِي عُيُون غُرَمَائِهِ، وحَلفَ برَبِّ الكوْن وبسَمَائِهِ، أنْ يُقـْرِئَهُمْ درْسَ الأخْلاق مِنْ ألِفِهِ إلىَ يَائِهِ. فارْتدُّوا فزَعًا ووَلـُّوا نزْعًا، وثقـُلتْ عَصَاهُ عَلىَ أعْقابهمْ وعلى جُنـُوبهمْ، وأحْكمْنا نحْنُ الطـَّوْقَ لِمَنـْع هُرُوبهمْ.
ثمَّ عَمَدَ إلىَ كبيرهمْ الذي مَازَالَ يتفقـَّدُ عيْنيْهِ، فأثقلَ عليْهِ ضَرْبًا علىَ ردْفيْهِ، وكلمَا بدَرَ منهُ صَدًّا عاجَلهُ بلكزَةِ عَصَا بيْنَ فخِذيْهِ. ثمَّ مَدَّ يَدَهُ وقطفَ أقرَاطهُ، حتىَّ اختلطتْ دمَاؤُهُ ودُمُوعُهُ بأمْخاطِهِ، وصَاحَ بنا ينشُدُ ليَاذا، فمَا أقمْنا لمُناشدَتِهِ وزْنا ولمْ نمْهلـْهُ عِيَاذا، بلْ ترَكناهُ لمَصِيرهِ يلقىَ تأدِيبًا، وعُدْتُ إلىَ البيْتِ جَذلان ولوْ أنيِّ لمْ ألقَ لقرْحِي تطـْبيبًا.
شرح بعض المفردات :
(1) قافلة مكونة من أطباء متعددي الإختصاصات تجوب بعض الأماكن النائية والقرى لتقريب الخدمة للمواطن (عمل إنساني بالأساس)
(2) السبيطار : المستشفى أو المشفى بلهجة تونسية محلية
(3) النفـَّة : دقيق التبـغ يعالج ويوضع في علبة .. يدمنه البعض لكن الآن إلى زوال.
تعليق