إلى يوسف أبو سالم...
... بالأمس كان الصيف يلملم قيظه على عجل ، و كنّا نراه يفرّ كعصفور مذعور أمام انسكاب الأصفر البني ّ ، فوق أشجار تزاحمت تحت الشرفة ، تسدّ الأفق ، و قد استبدلت حفيفها بحشرجات الخريف... فأقول : أنظر يا يوسف كيف ازرقّت السماء ، و أصبح الضوء نقيا كما حفنة ماء في كفّ صخرة بعد زخّة مطر.. أضحكُ و أقول : ...هي بشائر الخريف ، عمّا قليل سيروي الغمامُ العروقَ ، فأرحْ "نواعيرك" التي ظلت طيلة الصيف تدور ، تملأ سواقيك من أنهار"البوح" . فتقول : لا.. لا .. لن تقف ! و تفلسف لي منهمكا بالشرح : "النّاعورة" شيء آخر .. ليس كما تظنّ ، هي ذلك الحبل السّري الذي يربط الأشياء ببعضها ، النّجمة بالليل ، النسمة بورقة الشجر ، العصفور بجناحيه ، قطرة الماء بالعطش ، الغيمة بالساقية ، الدم بالوريد ، الزهرة بعطرها ، النبضة بالقصيد ، الروح بالجسد ، أناملها بالخيول ، الخيول بالصهيل ، الصهيل بقلبي ... تتنهّد و تقول و أنت تضع كفك حيث اعتادت الرماح أن تستريح : أرأيت يا حكيم ، هذه الناعورة حبل سُرّي يشُدّنا لأمٍ واحدة ، إختر إن شئت أمّا ، بين الشعر و الجمال... و تتحداني مبتسما: أتستطيع؟؟ أتستطيع؟؟
اليوم .. بعد قليل ستنتهي مواسم الجوز و الزيتون ، و هاهم يهمّون لسكب الزيت في "مشكاة الشمس" ، .... و سيفيض النور ، الأخضر الزيتوني سيلمع مبتلةً ريشاته بمواسم الأمطار التي قالوا أنها ستكون وافرة .. أسير في "حقولك " التي "هيجها" نقاءُ "البوح" ... وحيدا ... وحيدا حتى أنّني أسمع الريح تزمر في عظامي... فأين أنت ؟؟
أقسمت أقحواناتك التي نسيتها على شرفتي بالأمس و أنت تخرج على عجل ، أن لن تمرّ المواسم هذا العام من دونك ، و لن يكون زيتا لا للنجوم و لا لمشكاة الشمس ، و لا لقناديل العشاق .. فأين أنت؟؟
تجمعت أسراب الدوري فوق بيادرنا و أقسمت أنها لن "تُموسق " الحصاد من دونك ، و لن تنقر رؤوس أنامل الحبيبة ، و لن تتناقل أخبارها و لن "تذيع الخبر" ، و لن تستظلّ بالخزام ...أتذكر بيادرنا حيث كنّا نجمع السنابل ، و نعدّ حبات القمح حبّة حبة ، كي لا تخدعنا البيادرُ فتخبئ تحت شالها للطيور بعضا منه ؟؟ أتذكرها ؟؟ ما زالت كفّاي كالبيادر الممدودة أمام السماء ، و قلبي كالبيادر الخاوية من السنابل ، و دمي كالبيادر دون نقر الطيور ... فأين أنت ؟؟
في الغد سيكون يوم آخر ... و ستشرق الشمس كما العادة ، و ستدور في الكون الريح ، كما العادة أيضا ... فهل خلف الريح سنسمع وقع أقدامك آتية ... آتية ؟؟
لا تبتعد كثيرا ... فالليل ثقيل ... ثقيل ، و أعناق الأقحوان لم تعد قادرة على عبء هذا الحمل ... لا .. و لا قلبي بعد كلّ هذه السنين ... بعد أن "راشه" كلّ هذا الشيب..
حكيم
-------------------
ملاحظة: ما هو بالأحمر تصحيح لغوي تفضل به الأستاذ صادق منذر
تعليق