أبوجلدة والعرميط
حكايات من جعبة التاريخالفلسطيني
أبوجلدة والعرميط ياما كسروا برانيط
نقلها الداعي بالخير : صالح صلاح شبانة
نقلها الداعي بالخير : صالح صلاح شبانة
أبوجلدة والعرميط بطلان شعبيان فلسطينيّان، قاوماالإنكليز، ومع من التحقوا بهما من فلاّحي فلسطين، أوقعوا بقوّات الاحتلالالبريطانيّة الانتدابيّة خسائر فادحة.
لهما غنّت النسوة في الأعراس، وارتجلالمنشدون الشعبيون الأهازيج، وسرت سيرتهما في كّل فلسطين ، حتى باتا شخصيتين خارقتينبأعمال حدثت ، يبالغ بها أحياناً ، وهذا شأن كل شخصية خارقة تصبح أسطورة ...!!!
الانتداب البريطاني حاول تشويههما ،وصوّرهما كقاطعي طريق شقيين ، وألصق بهما أعمالاً لا تنسجم مع شهامتهما ، وأخلاقهماالتي ورثاها من أسرتيهما الفلاّحيتين ، ومن تدينهما الفطري ، ومن تأثرهما بدعوة الشيخعّز الدين القسّام الذي سمعاه يخطب في مسجد الاستقلال بحيفا.
فيزيائيّاًكانا شبيهي دون كيشوت وسانشو، فهما واحد نحيل قصير، وصاحبه الذي يمكن وصفه بتابعه ،ضخم وطويل و.. يثق بمعلمه وقائده ويسلّم له أمره.
وشبيهان بشخصيتيّ أبو كباري وأبو السرهد ، حيث كتب عنهما الكبير جدا المرحوم الدكتور نمر سرحان ، المؤسس الحقيقي للتراث الشعبي الفلسطيني ، وحارسه وسادنه ..!!!
كان اسم أبوجلدة مثار رعبلجنود الإنكليز ، وكبار جنرالاتهم ، وللتابعين محليّاً لهم عملاء كانوا ام خونة أم عصافير ، فالفعل واحد خيانة يستحق صاحبها الموت عليها ...!!!
فهو يضرب ويختفي ، ولايترك أثراً، ولذلك زرعت عيون لمتابعته ، فالعسس والمخبرون وجدوا في كل زمان ومكان ،وأجّروا أنفسهم للمحتلين ، والأعداء ، ولكّل من يدفع لهم.. هؤلاء كرههم هو وصاحبه ،وترصدوهم ، وسددوا لهم ضربات قاصمة ، لجعلهم عبراً يعتبر بها غيرهم من عديمي الضمائر ،ولمضاعفة ثقة الناس بهذين البطلين ، وما يمثلانه...!!!
وأنا صغير سمعت بقايا ذكرلهما ، ثمّ بهت حضورهما وشحب في الذاكرة الجمعية الفلسطينيّة ، فهما لم يكونا منأبناء العوائل الكبيرة ، ولم يتركا مذكراتهما ، ولم يكتب عنها سوى كلام عابر كبطلينشعبيين متواضعي الوعي والأهميّة...!!!!
من جديد أحياهما كاتب، وقاص، وصاحب تجربةعريضة هو: نجاتي صدقي ، في مذكراته التي استخرجها من عتمة النسيان الأستاذ الشاعرحنا أبوحنا ، وصدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة في بيروت عام2001.
فيالسجن التقاهما نجاتي صدقي ، فانظر كيف يصفهما بكلام قليل ، ينصفهما ، ويمسح عنسيرتهما بعض من لحق بها من تشويه متعمّد من حكّام فلسطين الإنكليز المتصهينين: عرفنا في السجن إلى رجلين أشغلا حكومة الانتداب مدة طويلة في حرب العصابات ، وهماأبو جلدة والعرميط ...!!!!
لقد ألّف هذان الفلاّحان عصابة لمحاربة الدولةالمنتدبة، مثل كثير من العصابات المنتشرة في البلاد ، والمؤلفة غالباً من الفلاحينالذين باتوا بلا أرض أو عمل ...!!!
لقد برز هذا الثائران إثر ثورة 1930، وألّفاعصابة اتخذت من الجبال مجالاً لأعمالها، واصطدمت مع القوات البريطانيّة في غيرمعركة ، وقد أراد زعيمها أبو جلدة ، وهو رجل نحيل الجسم، قصير القامة ، أن يبعد عنهوعن رجاله تهمة الشقاوة ، فارتدى لباساً عسكريّاً ، وقد زيّن كتفيه بسيفين وثلاثةنجوم ، وجّر سيفاً صقيلاً طويلا له يد مذهّبة ....!!!!
وماذا عن العرميط الصديقوالتابع المخلص الأمين لأبي جلدة ؟!
يصفه نجاتي صدقي كما عرفه في السجن: رجل قويالبنية ، شديد البأس ، عيّنه أبو جلدة نائباً له مطلق الصلاحيات ....!!!!
نصف صفحة منمذكرات نجاتي صدقي حفظت ذكر ومواصفات هذين البطلين الشعبيين الكبيرين ، لكن ...!!!!!
لكنالشاعر الكبير هارون هاشم رشيد، رأى أن يعيد هذين البطلين إلى الحياة بعد أن ماتاوشبعا موتاً في عمل أدبي ينصفهما ويصون ذكرهما للأجيال ، فألّف عنهما كتاباً عنوانه(أبو جلدة والعرميط ) وتحت العنوان بخّط ناعم: ياما كسّرا برانيط ، وبخّط عمودي نقرأكلماته من فوق لتحت: حكاية حقيقيّة من بطولات المقاومة الشعبيّة الفلسطينيّة ( صدرعن دار مجدلاوي في عمّان)
أمّا البرانيط فهي جمع برنيطة، وهي غطاء الرأسالذي كان يستعمله الجنود البريطانيون ، وتكسير البرانيط هو كناية عن تكسير الرؤوس ،وهذا العنوان هو مطلع أهزوجة شعبيّة فلسطينيّة سادت في الثلاثينات ، وتناقلتها أجيالالأجداد والآباء ، وبهتت أصداؤها ، وها هو ذا صاحب ( سنرجع يوماً إلى حيّفا) التي شدتبها الفنّانة الكبيرة فيروز ، يعيدها للذاكرة ، فكفاح عرب فلسطين لم ينقطع على مدىالقرن العشرين وهو مفتوح على عقود هذا القرن الحادي والعشرين ، حتى يعود الفلسطينيونإلى وطنهم ، وتعود فلسطين لأهلها الأوفياء الصابرين المتشبثين بحقّهم.
يصفكتابه بالحكاية هارون ، وينأى بنفسه عن وصف ما يكتبه بالرواية ، لأنه معني بتدوين نّصأدبي دون تصنيف محدد ، يحفظ فصلاً من فصول نضال الشعب الفسطيني ، ويعيد ذكرى نفر منأبطاله ، أولئك الذين لم يتيسر لهم كتابة تجاربهم ، وتقديم شهاداتهم ....!!!!
أبو جلدةالذي فرّ من خدمة الدولة العثمانيّة ، يبدو بالفطرة عاشقاً للحريّة ، وقمم الجبال ،ناقماً على الظلم . اسمه أحمد المحمود من قرية (طّمون) ، وهي من قرى نابلس .
اشتغل فيميناء حيفا عتّالاً، وهناك تعرّف بأوفى صحبه ، ومنهم اختار رجاله للثورة علىالانتداب البريطاني الذي ما أن هيمن على فلسطين حتى بدأت عمليات تسريب اليهود إلىفلسطين تتزايد باضطراد ، بالترافق مع تسريب الأرض لهم ، وتدمير حياة الفلاحينالفلسطينيين بالضرائب الباهظة.
تعرّف أبو جلدة بالرجل المتعلّم المثقّفسليمان العامري وتأثّر به ، واستمع لخطب الشيخ عز الدين القسّام في مسجد الاستقلال ،وعايش مأساة أهالي قرى مرج بن عامر والأرض التي باعها إقطاعيون من خارج فلسطين ،وطرد منها سكّانها ، فحقد على السماسرة ، وعلى الصهاينة ، وازداد كرهه للإنكليز أصلالبلاء في كّل ما يصيب أهالي فلسطين ، وبخّاصة الفلاحين ، ذلك لأننا لو بحثنا في أصل أي جريمة تحدث في العالم نجد أصابعا يهودية أو انجليزية تلعب هناك ...!!!!
لم ترحم عصابة ( أبوجلدة) الفلسطينيين الذين اثروا في العهد العثماني ، والذين أرهقوا الفلاّحين حتىعجزوا عن سداد ديونهم واضطرّوهم للتنازل عن أرضهم ...!!!
هؤلاء وضعهم أبو جلدة ورجالهفي صّف الإنكليز والصهاينة ، ووجهوا لهم ضربات قاسية في منطقة ( جنين) خّاصةً ،ووصلوا إلى ممتلكاتهم ، وإليهم شخصيّاً ، رغم حماية مستر طومسون رئيس شرطة جنينلهم ....!!
الشاعر الكبير هارون هاشم رشيد ذكّر في هذا العمل الأدبي الحكائي السلسوالممتع، القريب من القّص الشفوي، بالمعارك التي خاضتها عصابة ( أبو جلدة) ، ودهاءالرجل في التخطيط للكمائن المباغتة للقوات البريطانية.
الإنكليز أطلقوا اسم(طريق الحراميّة)، على طريق حيفا مرج بن عامر، الذي اختاره أبو جلدة لنشاطهورجاله ، مستغلاًّ منعة جبال المنطقة بكهوفها ومغاورها ، وباغت القوّات البريطانيةبالكمائن واستولى على بعض أسلحتها ...!!!
الحرامية هم أصحاب البلاد الذين يثورونلنيل حريّتهم ، وطرد محتليهم القادمين من وراء البحار ، الذين يمنحون المتسربيناليهود الذين تستجلبهم الحركة الصهيونيّة بالتواطؤ مع الانتداب البريطاني ليحتلّوابلاداً ليست لهم، كما أطلق أسيادهم اليهود اسم المخربين على الفدائيين الفلسطينيين....!!!!
هؤلاء حراميّة وعصاة وأشقياء ، و.. من يقاومون اليوم هممخربون وإرهابيون هذا هو منطق بريطانيا الاستعمارية والصيونية الشقية ، وأمريكا الإمبرياليّة ، وكلاهم سببمصائب فلسطين وشعبها.. لا بل والعالم بأجمعه ، فعليهم من الله ما يستحقون ، وهذا ما لا يجب أن يغيب عنا كعرب ، مع أننا لا نتعلم من أخطاءنا ...!!!
في مذكرات نجاتيصدقي ، يخبرنا أن ( العرميط) طلب من أمّه أن تحضر معها خنجراً في الزيارة القادمةلأنه سيضعه معه في قبره ، وسيذبح به الخائن الذي وشى به...!!!
وفي خاتمة الحكاية كمارواها الأستاذ هارون، مشهد شنق البطل أبوجلدة الذي تقدّم إلى حبل المشنقة غير هيّابولا وجل ...!!!!
وتكون آخر كلماته : بخاطركم يا شباب.. فلسطين أمانة فيأعناقكم..إيّاكم أن تفرطوا في حبّة رمل من أرض فلسطين ..!!!
وحتى لا يكونتفريط ، ولا تنسى الذاكرة ، كتب الشاعر هارون هاشم رشيد الحكاية ، بالضبط في هذا الوقتالذي تشتّد فيه المؤامرات على مقاومة عرب فلسطين ، وعلى حّق العودة إلىفلسطين ...!!!!
ملاحظة من الناقل : ذكر الكاتب والشاعر الأردني المهندس فتحي الخريشا في ترجمته لسيرة عمه العميد المتقاعد المرحوم حمد أبو دخينة ، وهي سيرة عطرة تملأ النفوس بهجة ، أن عمه المرحوم المحارب حمد أبو دخينة كما وصفه هو العرميط ، ولكن السياق والزمان وما ورد في هذا النص يتنافى مع ما ذكر الأستاذ الكاتب ، وان كنا نتمنى أن يكون أبو جلدة بطلا فلسطينيا ، والعرميط بطلا أردنيا لوحدة الهدف والمصير وكدروس لدعاة التفرقة .
كان لا بد من هذه الأشارة ريثما نعثر بمصادر أخرى ، وأسلي نفس ابن عمي محمد محيسن الذي منحه الشهيد ابو جهاد ذات زمان في بدايات الثورة لقب (أبو جلدة) وصار يتضايق منه ، أنه يحمل وسام فخر واعتزاز ويا ليت عندنا من أمثاله الصناديد الأبطال شهداء الحق والقضية ، لتتحرر فلسطين على أيديهم الشريفة ............!!!!!
منتديات سنجل الباسلة
الموقع الشخصي للكاتب والباحث صالح صلاح شبانة