مساحات شاغرة
كم يرعبني هذا الطفل اللماح عندما يشير بإصبعه الصغير إلى برج الكبريت القابع فوق رأسي. أخاف أن يسألني في يومٍ من الأيام..
كيف، وأين، ومتى سأشعل ثقابه؟.
توددّتُ إليه، حتى لا يرمي سؤاله الفظ كل صباحٍ في وجهي، وأنا نفسي لا أدري كيف أغسل وجهي بماء الوجه، ولا وجه لديَّ.
وضعته في حضني، وحكيتُ له كيف التقيتُ بأمه، وكيف تزوجتها، وتركتُ له مساحة وافية ليشغل خياله الواسع، ويتخيل كيف أنجبته..
عكس اتجاه حركة سباق السيارات سرتُ مترجلاً..
السيارة التي لها تصميم غريب الشكل تطلق بوقها، وتقترب مني. لم أعرها انتباهاً. أعرفُ تماماً بأني لستُ ضرورياً للعالم، والعالم ليس ضرورياً لي..
مائة متر تفصلني عن مقدمتها. تدافع الناس في الرصيف ليشاهدوا حادثاً، أو قل اغتيال رجل تائه على الهواء مباشرة. تخيلتُ كيف يكون وقع الحادث عندما يرتطم جسدي الضئيل بهيكل السيارة لدى السائق، وعلى السادة المتفرجين أيضاً..
فيزيائياً تساءلتُ:
من هو الذي يستمتع أكثر بالزمن الحقيقي لوقوع الحادثة، الذي بداخل السيارة؟، أم من هو على الرصيف؟.
فكرتُ أن أضع نقطة وقف نهائية لتأملاتي الأخيرة، وأن تكون كلمة (العالم) هي آخر ما أنطق به قبل أن يمزقني الحديد الياباني..
ظللتُ أردد بصوت منخفض هذا المقطع "لستُ ضرورياً للعالم"..
صوت احتكاك عجلات السيارة بالأرض المسفلتة انتشلني من البئر التى كنت أستمتع في قاعها. رأيتها عبر زجاج كالفراغ. وضعية جسدي الآن تعجبني، إنها لوحة تشكيلية رائعة، إن كان هناك أحد في الرصيف لديه اهتمام بهذا الفن. صدري ملتصق في وجهها الذي يفصلني عنه الزجاج، عيناي تنظران إلى أسفل، حذاؤها الأنيق يضغط بقوة على مكابح سيارتها الفارهة. أخرجتْ رأسها، نزعتْ نظارتها السوداء، فرأيتُ البئر التى كنت أعيش فيها داخل عينيها. مسّت كتفي كنسمة صباحية تدغدغ المسام. قررتُ في الحال أن أقضي معها شهراً كاملاً في المنطقة الصناعية..
لا يفتخر ابني بهذه القصة كثيراً، جذبت في البداية انتباهه، ولكن سرعان ما صارت مثيرة للضجر..
قبل الحادثة كنت أعتقد أن أحياء قاع المدينة يشتهون موتى السطح، وأن أحياء السطح يحسدون موتى القاع على موتهم النظيف. على ضوء هذه الإضاءة قررتُ أن أضيف لقصة زواجي من أمه، وكيف كنا نحضر لإنجابه، أبعاداً أخرى حتى لا يملها، وبتعابير لم يسمعها من قبل، عله يتعاطف معي من جهة، ومن جهة أخرى عسى أن يشكل في ضميره حفنة ضمير، ويكف عن إرسال إشاراته المرعبة..
كان كل الذي يعجبه في قصتي مع أمه، إنها كانت تبحث له عن اسم ليس له مثيل من قبل، حتى قبل أن يولد، وأن يكون الأول من نوعه في محيطها، وفي محيط الآخرين، وعلى أقل تقدير يكون نادراً، وحينما أعياها البحث، توكلت على القادر، وسمته (نادر)..
قلتُ له:
كانت أمك امرأة ليست ككل النساء، لا تعرف كيف تمتص ندى العشب حين تشعر بالعطش. دمية حسناء، لا تعرف من الفصول إلا الربيع، ولا ترى في الشمس إلا حبلاً يخنق عنق الروتين المدلل..
انتفض (نادر) بعيداً عن حضني، وذكرني بكلمات هشة بأن أمه عندما رأتني ملتصقاً كالعنكبوت في زجاج سيارتها، قرأت في عيني: " انتبه توجد أنيميا هنا ".. وبعد الشهر الذي قضيته معها في المنطقة الصناعية، وقبل أن أزرع ابني في بطنها، أمسكت بيدي كمراهق، وقادتني إلى صيدلية ليست ببعيدة عن الورشة. اعتقدتُ في البداية بأنها ستطلب لي فاتحاً للشهية، ولكنها دسّت في يد الصيدلي حفنة جنيهات، وتناولت قارورة كاملة من مصفف الشعر، وأخرى لتجعيده، دون أن تكف لحظة عن سماع (تامر حسني)..
جذبتُ (نادر) بعدما ذكرني بهذا الجزئية من ساعده الغض، وربطتُ لسانه، وأسندتُ عنقه في صدري، وقررتُ أن يحفظ ابني قصتي مع أمه وفق ما أرويه، وليس لديه الحق في أن يقارن بين روايتي للقصة، وروايتها هي، التي لا تخلو من تضليل..
تزوجتها يا ابني لأني كنت واثقاً من مهاراتي، وعليه أدخلتها القفص الذهبي، والذي حتماً سأحوله إلى مدرسة، وسأعيد معها قراءة كل الكتب، من (نكت الهميان في نكت العميان)، إلى (عين وأنف وصوت)..
صحيح أن الأيام التي قضيناها في المنطقة الصناعية حسبناها ضمن الشهر الذي يتذوق فيه المتزوجون حديثاً طعم العسل، ولكن من أجل البيارق التي كانت تسكن عينيها، وليس من أجل زجاج سيارتها المظلل سأ...
ومرة أخرى يتمرد (نادر)، يقاطعني، يقترب مني ويلتصق أكثر، ينتزع ثقاباً من برج الكبريت الواثق من وجوده فوق رأسي، ولا يراه غيره. يضع عود الثقاب بين أسنانه، ويذكرني بأني بعدما خرجت بصحبة أمه من الصيدلية، وما أن وصلنا إلى الورشة، حتى تسللتُ وعدتُ إليها وحدي. رفعت في وجه الصيدلي خاتماً يلتف حول إصبع كالصندل المحروق. ابتسم الصيدلي في داخله بخبث، وناولني شريطاً كاملاً من أقراص الفروسية السحرية، تعويضاً لي على المهر الذي سقط من جيبي سهواً..
سيطرتُ على موجة الغضب التي انتابتني، فتحتُ فمه، وأخرجتُ الثقاب ورميته بعيداً. واصلتُ في روايتي كيفما أريد، وعدتُ به إلى جملة البيارق التي كانت تسكن عينيها، ومن أجلها سأثقب جيبي بقدر ما يستوعب عقلها من دروس، حتى لو امتد الشهر لستين يوماً بالتمام والكمال..
في الثامن من مارس أهديتها باقة ورد وردية اللون. طارت من الفرح، وعندما قرأت خطي الجميل على البطاقة، ركّتْ كما الفراشة على الأرض، وطارت بيدها الأخرى وصفعتني!..
هل تصدق ذلك يا (نادر)؟!..
أمك صفعتني مقابل الورد !. إياك أن تتزوج امرأة لا تعرف أن لديها عيداً..
" للمرأة المعطاءة في كل تجلياتها "
هذا ما كتبته لها في عيد المرأة، ولكن الصفعة التي تلقاها خدي الأيسر، جعلتني أفكر في عيد الحب. في هذا العيد العالمي، سألتني وهي تعد كوباً من الحليب الساخن..
- إلى أيّ مدى تحبني يا (صخر)..؟
- بالطبع كحبي ل (روزا لوكسمبورغ)..
- ومن هي (روزا) هذه...؟
- إنها باقة ورد يا حبيبتي..
لم تقفز من الفرح هذه المرة يا ابني، وهي تدلق كوب الحليب الساخن فوق صدري..
نظرتُ إلى (نادر) الجالس في حضني بلا حركة، لا انفعالات في عينيه ولا أرى تضامناً. تحسستُ أزرار القميص، وعرضتُ له صدري. نظر سريعاً للآثار التي تركها الحليب الساخن المسكوب، هزَّ رأسه بعلامات النفي..
لن يكذبني ابني، أنا واثق من ذلك، كثقتي في تفاصيل الذي حدث بيني وبين أمه. لستُ أدري هل هو الملل من قصتي مع أمه أم أنه الظمأ ؟. رفسني بقدميه، رفعتُ عنه الحصار، نزل واتجه صوب الثلاجة، لم يستطع فتحها، قمتُ بالمهمة بدلاً عنه، تناولتُ كوباً نظيفاً، أفرغتُ فيه قليلاً من الماء، تجرع الماء وكأنه صائم في اليوم قبل الأخير من شهر رمضان. عدنا سوياً، جلسنا كما كنا نجلس قبل هذا الفاصل. حاولتُ أن أتذكر أين كانت آخر جملة في القصة وقفتُ عندها..
لم يدعني أفكر جيداً، أشار بأن أمه في مثل هذ الأعياد تحب أن تتناول الغداء في مطعم فاخر، وإني وباعتباري زوجها الذي التقطته من سطح الزجاج، وأمام المارة والواقفين على الرصيف، حالما أدخل بها المطعم، وقبل أن تبتسم للنادل، أشرع في تأمل قائمة الطعام، أقرأها بعين نصف مفتوحة، أرسم في وجهي علامات كثيرة متداخلة، وفجأة أهبُّ واقفاً، وكأني سأذيع بياناً هاماً للشعب، أصرح فيه بذات الكلمات التي أرددها في كل مرة أرتاد فيها مطعماً برفقتها، وأتكلم بصوت عال ليسمعني صاحب المطعم. أمسك يدها بعنف ونخرج، وليس في لساني غير.." أن لجميع مطاعمنا قائمة واحدة، نقرأها ساعة الافطار، ونتأملها ساعة الغداء، ونمزقها ساعة العشاء، وفي نهاية الأمر نكتفي بفول البقالات "..
تركتُ (روزا) جانباً، أوضحتُ له وأنا أصطنع ضحكة كبيرة، بأن للفول تداعيات رومانسية كما للورد تماماً، وقلتُ له أيضاً أن عليه الانتظار قليلاً، بعدما أفلحتُ في جذب انتباهه للقصة، ليراني كيف فكرتُ كثيراً في عيد الأم، تلك الأم التي أضع في يدها كل شهرٍ معاشي الشهري كاملاً، حتى أصطاد سانحة كي أطير فيها من الفرحِ عندما ترضى أمي عني، وتقرضني عشر جنيهات..
أهديتُ لتلك التي كانت كنسق البيارق، أساور من الذهب الأصلي، زجّت معصمها في الأساور، وجلست طول اليوم تتجول بخيالها الشاحب في غرف المؤامرات المعتمة..
إمتد بنا يا ابني شهر المنطقة الصناعية لتسعين يوماً، ولم نجتز بعد الصفحة الأولى من (نكت الهميان في نكت العميان). قررنا أن نؤجل قراءة (عين وأنف وصوت) هذا العام، حتى تستطيع يا (نادر) الوصول إلى اليابسة بسلام، لتستمتع معنا برحيق (عائدة م نادر)..
للإخفاق مخالب ومسميات عديدة، وللخروج منه مسمى واحد. هل تعرف يا ابني أن الضعف عاهة إنسانية قديمة ومستديمة، والطموح، والفضول، والرغبة، أخوات (لكان)..، فمن منا لا يود الاقتران بهنَّ جميعاً؟. هل تصدق إذا قلت لك بأني لا أدري أين يكمن الخلل ؟ خلل الواقع، أم خلل الذات؟. الأمر لا يحتمل المناصفة، أو القسمة، كبر المقام، أو تضخم البسط، ولك أن تفتخر بأبيك من الآن وصاعداً، لأن لا مجال لديه في أن يعيش حياتين..، الأولى تتمدد على حواف الشمس، وتتوسد أشعتها، والثانية يخنقها الكتمان، ولا تبرق إلا في الظلام.
... ... ...
أريدُ امرأة يا (نادر)..
أنثى تحتويني وتحتويك..
كما ترى ليس لديّ فراش، لا غطاء، لا وطاء، لا خبز، ولا ماء. فمنذ أن قام موظف الأختام القابع في صالة القدوم، وفعل فعلته على جواز المرور، وأنهى مهمته، وأنا أحلم برفقة ناعمة لا تخذل أبداً. أمك خذلتني قبل أن نصل إلى منتصف الطريق، اختلفنا، والاختلاف ظاهرة كونية، تركتني، وتركتها، ولا أريدك أن تتركني أنت أيضاً.
لماذا كل هذا الصمت يا ابني..؟
لا تخف، ستحب المرأة التي سوف تدخل هذا البيت من أجلك. أعرف امرأة ستبني معك أقفاصاً من الأحلام الطائرة، وكلما تسجن عصفوراً جديداً في القفص، يعلو صوتها فوق صوت المغني وتردد..(يا طير يا طائر). ستخطو نحوها بخطى ثابتة كتبت عليك، ومن كتبت عليه خطى مشاها، فقط كُن لطيفاً معها. اجتز مستنقع الماضي بمهارة، وازرع في القلب حديقة، وسترى شلالات الدموع في عينيها يا ابني، ولا تقل لي بأن ليس لدينا شلالات يا أبي !، إذن سترى أنهاراً من الدموع في عينيها. لا ترفسني بقدميك أدرك أن أنهارنا موسمية، والموسمية لن تؤثر في مجرى العاطفة، صدقني أنا أكثر خبرة منك، وغداً وباعتبار ما يكون سأفتخر بك، وحتماً ستكون بارعاً في (البلاي ستيشن)، وشاعراً كبيراً يتحدث بلغات جيله، وملماً بكل حروف الغياب..
لا أعلم إذا كان سمع جملتي الأخيرة أم لا. حملته برفق ووضعته على السرير، وتركته نائماً. اتصلتُ هاتفياً بالمرأة التي أريدها أن تكون أماً بديلة له. اتهمتني (سلوى) بأني جبان، ولا أستحق حبها، فكيف لا أستطيع أن أقنع طفلاً بزواجي من واحدة أخرى غير أمه، وأن سياسة الأمر الواقع هي السائدة اليوم، وعلي أن أبحث عن امرأة أخرى، إن لم أحسم الأمر خلال ثلاث ساعات من الآن..
اغتسلتُ بماء فاتر، أشعلتُ لفافة تبغ، لم أكملها، غفوتُ قليلاً، صحوتُ على صراخ (نادر)، ركضتُ جهة غرفته، تمددتُ بجانبه، عاد إليه الهدوء. راجعتُ بذهن صاف كلمات (سلوى)، سألت نفسي:
لماذا تريدني أن أبحث عن واحدة أخرى ؟
ولماذا هذه المهلة ؟، لسنا في حرب !
ولم لا أبحث بالفعل عن امرأة مغايرة تماماً ؟
امرأة لديها مخبز للرغيف المستدير. نعم..
لماذا لا أكون واقعياً أكثر من الواقع نفسه ؟
مخبز نتركه (لنادر) وحده، فلتقتات هي كغالبية بنات جنسها من كريمات البوتاسيوم، وإن أرادت فلتدهن بشرتها ببروميد الكريمات، فقط كل ما أريده أن تسمع (نادر) جيداً، وتكون حاضرة متى رفع حاجبه مستفسراً كعادته..
(سلوى) ليست بامرأة حقيقية في واقع حقيقي. الواقع مرير، فلنبحث إذن عن امرأة لم تر (حنظلة) في حياتها، ولم تسمع (بالشيخ إمام)، وكل أحلامها مربوطة في طرف خيط رفيع مجدوع في واحدة من مدن الملح، لتسد فراغات النوم الاضافي بأثر رجعي. امرأة تحب أن ترتشف قهوتها في "مقهى الموت"، ولا رغبة لديها في "رجل برائحة سرير"، لا علاقة لها (بعبد الرحمن منيف)، ولا (بمتعب الهذال)، وكل همها أن تذرف "دموع الشتاء" في قلب الربيع، وتمتص الملح من الملح، وتحيط عنقها كلما وصلنا إلى منتصف البحر الأحمر بجنازير من الذهب، ولا تسأله.."مين يشتريك يا بحر؟" رغم أنف الأزمة الاقتصادية العالمية..
نعم سأكون جزءا لا يتجزأ من سياق الراهن، وحتماً سأجدها جالسة في انتظاري فوق هضاب من الحطب. لن نحترق معاً مادام مبردات (الفريون) أصبحت تشتغل بسرعة أربع وعشرين ساعة لكل خمسة أصابع. ما أسهل أن تجد امرأة لا تشتهي وليمة من أعشاب البحر، وهاجسها اليتيم حالما تصل إلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر، أن تختصر جميع نساء الأرض في ثوبها الزاهي. امرأة لا تستطيع أن تصرف نظرها عن الأشعة المنبثقة من (كنتاكي، وهارديز، وماكدولنز)، حتى لو نصبتُ أمام عينيها جميع لافتات (أحمد مطر). سأبحث جاداً قبل انتهاء مهلة (سلوى) عن امرأة تصعد مع الغناء الهابط، وتهبط مع الغناء الصاعد، ولا تصل إلى حبل الغسيل المعلق في السطح، إلا عبر السلم الكهربائي..
... ... ...
دلقت جام غضبي على (ماري انطوانيت)، فهي التي كانت سبباً في طلاقي المباشر من (أم نادر)، وسأخبر ابني حالما يستيقظ من نومه عن السبب الحقيقي الذي أبعده عن حضن أمه. (فلماري) سذاجة بطعم الفاكهة، الكل يدرك ذلك عدا زوجتي، لكن من أين لها هذا العنق الجميل ؟.
تذكرتُ أن (ماري) تسللت إلى حيث (أم نادر) كانت قابعة تحسب الدقائق التي وعد بها الميكانيكي النائم تحت هيكل سيارتها التي صدمتني بها في ذلك السباق العنيف. تسللت (ماري) جهة المرأة التي قادت في يوم ماطر كتيبة كاملة من حرس حدود العاطفة، وغزت بها فيافي الوجدان. التصقتْ بها وانتهزت حالة الهيام التي ازدهت بها المنطقة الصناعية، واستدانت منها عنقها الجميل على أن تعيده لها يوم السبت، ومنذ تلك اللحظة اتخذت (أم نادر) من يوم السبت عطلة رسمية خالية من الجمال. لم تعد مسلحة بعنقها..
لم أنتبه لعنقها المسروق لحظة إنجابها لابني. توهط (نادر) الصغير في حِجري، وبأنامل لدنة ومصقولة ببهاء أبيه، رمى في فمي قضمة بسكويت، وبضع كرات ملساء من العاطفة الجياشة. لم يلتصق بأمه هذه المرة كما فعل في يومه الأول، تشبث بعنقي، وركل بطني بقدمه الأنيق، وكأنه يدشن أولى كلماته..ب..ب با..بابا..ب..با..
أمه التي استقبلت قنطاراً من الحب المرسل إليها عبر نظراتي أومأت لي بعلامات الاحتفال المتراكمة في الأدراج. الدرج الذي على يسار السرير المتهالك، لم يدع لي الفأر الذي يسكنه فرصة كي أفتحه. حملتُ (نادر) برفق ووضعته في حضنها، قفزتُ كلاعب ماهر في كرة اليد، انتشلتُ من سطح الدولاب علامة احتفال كبيرة، وهرولتُ جهة السوق. أنفقت راتبي كاملاً في مستلزمات (نادر)، إلا إنني لم أدرِ كيف أحمل الكيس السابع، وأخرج به سالماً من السوق. اليد التي رفعته من على الأرض وتتجه به صوب ذراعي أعرفها. لم أستلم منها الكيس السابع، وضعتها جميعها على الأرض، موضعتُ عدساتي الطبية جيداً، ألصقتُ بصري في عنقها، ذات العنق الذي أعرفه ، إنه عنق زوجتي..
كيف وصل العنق (لماري) التي تقف الآن أمامي لتمد لي يد العون..؟
كيف لرأسي أن يتدلى دون أمر مني؟.
النظارة التي سقطت من وجهي واحتضنتها أغراض (نادر) لم أنتبه لها. العنق نفسه شامخ بذات السمو والبريق..
أين ذهب ضعف بصري؟
وكيف يجعلني الطبيب أبتاع شيئاً لا أحتاجه؟
شعرتُ بأن لساني يتحرك بلا بوصلة، وأن أذني تلتقط كلماتها كما التقطت من قبل كلمات (أم نادر). تركتُ أغراضي في مكانها، وركضتُ دون أن أعير أبواق السيارات اهتماماً، دفعتُ الباب. رأيتها منكفئة ترضع (نادر) من حليبها، رفعتُ وجهها كالمجنون، الوجه "منحشر" بين الكتفين. اكتشفتُ أن لا عنق لها..
أشهر الحكم النائم في داخلي دون أن يكف لحظة عن الشخير بطاقة شديدة الاحمرار في وجهها. انتزعتُ منها ابني (نادر) وتركتُ لها المنطقة بأسرها، ولا أحد يستطيع أن يلاحقني..
خمس سنوات منذ افترقنا. ماذا لو عاد لها عنقها، كيف أعرف ذلك؟، يجب أن أعرف، سأتنكر، أزجُّ جسدي في جلباب رجل دين هارب من مقصلة العدالة، وأقترب من منزلها، علها تخرج وأراها، وخير البر عاجله، سأتحرك الآن..
تقلبتُ كثيراً على الفراش، حاولتُ أنْ أمسَّ الأرض برجلي، لا أجد الأرض، سبحت بيدي في الفراغ، اصطدمتُ بوجه بشري، خفتُ أن أكون قد أذيتُ (نادر). وكأني أسمع صياح أنثي، شخص ما يهزني بعنف..
أين يدي؟
أين الأرض؟
ماء بارد ينثال في وجهي. نهضتُ كالمجنون. أضاء أحدهم النور!.
(أم نادر) بكامل هيئتها تقف أمامي، تقتربُ مني وتضربني، تعلن عن تمردها، وإنها لم تعد تحتمل كوابيسي كل ليلة. ضربتني مرة أخرى على كتفي، وكأنني سمعتها تقول:
لماذا لا تحلم أحلاماً جميلة كبقية مخلوقات الله ؟.
لماذا ؟.
...........................
هامش:
مقهى الموت......................بسمة الصيادي
رجل برائحة سرير...............ميساء العباس
دموع الشتاء.........................إيمان الدرع
مين يشتريك يا بحر...............آسيا رحاحليه
............................
إعجاباً بهذه النصوص.
تعليق