ما الذي يتحكم في أفعال الإنسان وأفكاره،الشعور أم اللاشعور؟وهل فرضية اللاشعور فرضية ضرورية ومشروعة؟.
عاش التفكير الفلسفي لمدة قرون عديدة يختزل الإنسان في بعده الواعي،و اعتبر الوعي من منظور الفلاسفة العقلانيين وسيلة لإنتاج المعرفة اليقينية واكتشاف الحقيقة،ولهذا فقد تم اعتباره بأنه ملكة تمكن الإنسان من فهم العالم والسيطرة عليه وتحويله لصالحه.غير أن مفهوم الوعي أعيد النظر فيه وخضع لقراءات مغايرة لعمله،قراءات تؤسس تأويلا جديدا للمعنى وتشكك في الإنتاجات والمعاني المباشرة للوعي.هذه القراءات توضحت معالمها مع كل من ماركس ونيتشة وفرويد.فالوعي في نظر هؤلاء ليس شفافا وواضحا ولا يمثل سوى السطح،فكثيرا ما يكون مزيفا يحجب الحقيقة عنا،وإنتاجات الوعي هي مؤشرات على حقائق أخرى خفية،تعمل في الخفاء.
وإذا كانت المجالات الفلسفية التي حاولت تبيان حدود الوعي،كالحد الإجتماعي مع ماركس،والحد الغريزي مع نيتشة،فإنها لم تستطع إقرار اللاوعي كمكون من مكونات الحياة النفسية للإنسان.لذلك فإن اكتشاف اللاشعور مع فرويد أدى إلى رجة الوعي الفلسفي على حد تعبير بول ريكور.
بدأ سيغموند فرويد حياته طبيبا نفسيا يعالج الأمراض العصبية،وكان الرأي الشائع آنذاك،أن الإضطرابات النفسية التي تحدث في سلوك بعض الأفراد،سببها آفات تصيب الجهاز الفيزيولوجي أو العصبي.وعن طريق التنويم المغناطيسي اكتشف -فرويد- أن مرضاه يبوحون ببعض الحكايات الشخصية وببعض الأسرار التي لا يقدمونها أثناء استجوابهم في حالة الصحو واليقظة.ونظرا لأهمية ما كان يسمع، افترض أن هناك مجموعة من الرغبات والميول التي تزخر بها حياتنا النفسية،منها ما يكتب له التحقق والإرتواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة،ومنها ما يصادف عوائق وحواجز تحول دون التحقق والإرتواء .أين تذهب،هل تموت وتفنى؟.
كلا،إنها تكبت في منطقة غنية هي اللاشعور،أي ذلك الجزء من بنيتي النفسية الذي أحبس فيه رغبات وميولات أعتبر أن تحريرها قد يسيء إلى الكيان الذي أريد أن أرى فيه نفسي ويراني فيه الناس.محتويات اللاشعور المكبوتة تعرف بالحركة والغليان،لأنها تنزع إلى التحقق وترغب في الظهور في ساحة الشعور لتروي ظمأها في اللذة.إنها تريد الإفصاح عن ذاتها في هذا الجزء من حياتي الذي أبذل جهدا شاقا لجعله مطابقا للواقع الإجتماعي والعقلي الذي أحيا فيه مع الآخرين أي الشعور. اللاشعور يتألف من ميول كبتت خلال العصور،وأخرى كبتت خلال عهد الطفولة.و هو الذي يتسبب في الإنحرافات المرضية وفي ظهور سلوكات غير عادية في الأفراد والجماعات،إنه يشكل الموروث،أي أثر الماضي المنقوش على الذاكرة .
قدم فرويد فرضية اللاشعور لأنه لاحظ بأن هناك الكثير من الأفكار والأفعال الإنسانية،لا يمكن تفسيرها إلا انطلاقا من اللاشعور،لأنها صادرة عنه ،وهذا ما يجعلها ضرورية ومشروعة،خصوصا وقد أبانت عن نجاحها في الممارسة الطبية.
التحليل النفسي هو في الأصل نبش في الأصول،بحث عن الأوليات التي خلفت آثارا منقوشة في أعماق النفس،ويتم الحفاظ على تلك الآثار مهما كانت،حيث أن استمرار الرفض يعني استمرار المرفوض.إن فرويد لا يعترف إلا بواقع لا شعوري يعطيه أهمية عن باقي المكونات الأخرى،كل ذلك من أجل فهم السلوك البشري وتأويله.وتبعا لمنطق فرويد فالحياة النفسية يمكن تشبيهها بكثلة جليدية تطفو على سطح الماء، ما يختفي منها أكبر بكثير مما يبدو،وما الشعور إلا ذلك الجزء الضئيل من حياتنا النفسية الذي يلامس الواقع،ولكي نستطيع فهم واقعنا النفسي فهما سليما لابد من أن نتأمل ذلك الجزء الأكبر وهو اللاشعور.
لكن ما السبيل لفهم مكونات اللاشعور، وهي غامضة ،مبهمة،وبعيدة عن نور الشعور؟
هنا تظهر براعة التحليل النفسي،فلو قمنا بتشبيه الوعي برقيب أو حارس يقف متأهبا و بالمرصاد لكل رغبة أو ميل غير مشروع مما تزخر به منطقة اللاشعور( بما فيها من خبايا ونوازع الهو أي ذلك البعد الغريزي الطبيعي في الشخصية)،ولو شبهنا الرغبات أو الميول بسجناء يكتوون بنار الشوق الشديد إلى التحرر والإنعتاق،لعرفنا لغة المحلل النفسي وطريقته.
الرغبات المكبوتة تتحين الفرص لتظهر وتطفو على السطح،وقد تتحايل على الحارس بطرق شتى،إنها تتنكر وترتدي أقنعة مختلفة لتتصيد كل غفلة أو تراخ يظهر على الحارس الرقيب،لتفلت من أسره.المحلل هنا هو رجل الشرطة الخبير بأقنعة المجرمين وأزيائهم يعرفهم من سيماهم.
ومن الحالات التي يمكن من خلالها للمحلل النفسي ضبط محتويات اللاشعور،نجد التداعي الحر،والهفوات،أي تلك الأفعال النفسية التي تنأى عن مقاصدنا الواعية لتتجه إلى غايات غير مقصودة،وغير واعية،مثل فلتات اللسان وزلات القلم،والأفعال الطائشة..وهي كلها تخون وتفضح في الغالب أسرار الشخص الأكتر حميمية.ويحدثنا فرويد عن فلتة رئيس البرلمان النمساوي الذي فتح الجلسة بقوله:انتهت الجلسة،عوض فتحت الجلسة.وهذا كلام يفصح عن النية المكبوتة التي استطاعت أن تفلت وتطفو على السطح عن طريق اختلال الخطاب العادي،الذي كان بالإمكان أن يكون كما يلي:أنا متعب وليست لدي أي رغبة في ترؤس الجلسة!..أيضا تشكل النكتة مجالا خصبا لاصطياد محتويات اللاوعي،فعن طريقها تجد الرغبات المكبوتة متنفسها المشروع...
حققت نظرية اللاشعور نجاحا مهما، إذ اعتبرت فتحا جديدا في مجالات العلوم الإنسانية،نظرا لما قدمته من جديد يتميز بالعمق في فهم السلوك البشري،ومن الناحية العملية ساهمت في علاج الكثير من الإضطرابات النفسية.غير أنها لاقت انتقادات كثيرة،فهذا كارل ياسبرز يرفض أن يكون اللاشعور أساس بنية الشخص،لأن اللاشعور وجد لدراسة سلوك المنحرفين أو المرضى ولا يجوز تعميمه.كما أن سارتر لا يراه إلا خداعا وكذبا يتعارض مع حرية الإنسان ومسؤوليته.وحسب آلان(اسمه الحقيقي إميل شارتي،فيلسوف فرنسي) من بين أكبر الأخطاء لنظرية اللاشعور عند تفسيرها للسلوك الإنساني هو اعتبارها اللاشعورأنا آخر له كيان وسلطة على الذات،أي أن له أحكامه المسبقة،وأهواؤه وحيله،ملاك شرير،أو ناصح شيطاني.في حين أن ما ينبغي فهمه –كرد على ذلك-هو أنه لا توجد فينا أفكار سوى ما تمنحنا إياه الذات الفاعلة،أي الشخص المتكلم.
تعليق