غياث الضاري ضيغم مفتاح
ممالا شك فيه أن عم "غياث الضاري ضيغم مفتاح " رجل يعيش على الفطرة ويتعامل مع الناس بسجية مفرطة في الطيبة ، ويتنقل من كشك السجائر الذي يمتلكه في حي جاردن سيتي إلى مسجد " الطيبون " القريب من ضريح سعد ليقيم الصلاة في موعدها بهمة ونشاط شاب في العشرين رغم أنه تجاوز الثمانين من عمره !! وإذا تصادف وكنت من سكان حي جاردن سيتي فأنت حتما تعرفه بل وربما تمر به وتلقي عليه السلام فيقوم واقفا ليرد التحية بأحسن منها ويدعوك بإلحاح إلى شرب كوب من الشاي فإذا جلست معه ستكتشف أنه يعرفك ويعرف أصلك وفصلك ونسبك ويذكر لك تاريخ إقامتك في هذا الحي بدءاً من المرحوم والدك وحتى موعد ميلاد إبنك وقد يحدثك الرجل عن قصور الأميرات اللائي كن يسكن في هذا الحي العريق وقصر أم الخديوي إسماعيل الوالدة باشا ثم يعرج بك إلى هوجة الشركات والبنوك التي تكأكأت على جاردن سيتي وسيطرت على عقاراته وشققه وقصوره وفيلاته إنتهاءً إلى السفارة الأمريكية التي أقلقت الحي وأطارت النوم من عينيه ثم يختم حواره معك بعبارة " وصلي على النبي " .. وحتما ستقوم من مجلسك دون أن تشرب الشاي ولكنك ستتمتم في سرك "لاشيء يخفى على عم غياث في هذا الحي العريق " .. إما إذا كنت تعرف أن عم غياث يمتلك بالإضافة إلى كشك السجائر عشرين عمارة من أفخر عمارات جاردن سيتي وقتها ستفغر فاك من الدهشة والذهول فمنظر الرجل لا يدل على أنه يمتلك من الدنيا قطميرا فما بالك بعشرين عمارة قيمة العمارة الواحدة وفقا لتقديرات السماسرة وأصحاب الشركات العقارية يتجاوز الخمسين مليونا من الجنيهات .. ولا يدري أحد كيف أمتلك عم غياث هذه الثروة الأسطورية وهو الرجل النوبي رقيق المظهر!! وإذا فُرض وألح عليه أحد في السؤال عن كيفية تملكه هذه العمارات أجاب عليه ببديهة سريعة : أصلي ياسيدنا عثرت على المصباح السحري وقال لي العفريت شبيك لبيك فقلت له إعطني ياعفركوش افندي عمارات جاردن سيتي فكانت هذه العمارات لي ولأولادي وصلي على النبي ، ثم يعقب إجابته بضحكة عفوية قصيرة حيث يتركك وقد رسم على وجهك بسمة المندهش الذي لم يحصل على إجابة ولم يفهم شيئا .. وقد أتاحت لي الظروف أن أتعرف على عم غياث عن قرب وقامت بيني وبينه صلات قوية ووثق الرجل في شخصي المتواضع حيث اكتشفت أن عم غياث على صلة قوية بمعظم رجال الدولةالكبار من وزراء سابقين وحاليين وكبار لواءات وزارة الداخلية وأصحاب السلطة العليا والمناصب السيادية بل ويتاح له أن يذهب إليهم جميعا ويدخل عليهم دون موعد سابق ببساطته وعفويته ويتحدث معهم بلكنته النوبية ويخرج من عندهم وقد حقق مايريد بعد أن يكون قد قدم المقابل وعندما كنت أجادله فيما قدمه كان يقول لي : يا أستاذ كل برغوث وعلى قد دمه والضرورات تبيح المحظورات وصلي على النبي .. وذات يوم زارني هذا الرجل العجيب في مكتبي حيث طلب مني أن أنقل ملكية جميع عقاراته إلى أولاده بالتساوي فيما بينهم وقال لي يا أستاذ لم يتبق من العمر إلا الختام ولا أريد أن يختلف الأبناء في الميراث وصلي
على النبي .. أومأت له بابتسامة ثم طالعت عقود الملكية التي تملك بها عقاراته العديدة فإذا مدون بها أنه اشتراها كلها من جهاز الحراسات في الفترة من بداية عام 1962 وحتى عام 1966 .. نظرت إليه وقد استبد بي العجب والشغف وسألته بفضول : اصدقني القول ياعم غياث .. أعرف أنك جئت من النوبة خالي الوفاض فكيف اشتريت كل هذه العقارات الفاخرة من جهاز الحراسات في تلك الفترة التي طغت فيها المفاهيم الإشتراكية .. صمت الرجل طويلا ثم قال : شوف يا أستاذ سأحكي لك الحكاية من طأطأ إلى السلام عليكم.. لقد كنت جنديا بسيطا في سلاح الهاجانة قبل الثورة ثم انتقلت إلى سلاح الإشارة حيث أصبحت عسكري المراسلة للصاغ علي رفيق واقتربت من الصاغ جدا وصرت تابعه الأمين وخزينة أسراره وعندما قامت الثورة كان الصاغ على رفيق من الضباط الأحرار وكان قد نقل سكنه إلى شقة واسعة في جاردن سيتي كنت أرابط على بابها دائما في انتظار تعليماته كالكلب الأمين وبعد سنوات قليلة أصبح هو الذراع الأيمن للمشير عبد الحكيم عامر .. وقتها كان جهاز الحراسات يصادر عمارات الأجانب واليهود والأسرة المالكة وباشاوات زمان وكان بعض الضباط الذين يسيطرون على جهاز الحراسات يطمعون في شراء تلك العمارات ولكنهم لا يستطيعون شراءها بأسمائهم خوفا من عبد الناصر فكانوا يشترونها بأسماء أقاربهم ويأخذون منهم ورقة ضد أما الصاغ علي رفيق فقد أشترى كل هذه العمارات بإسمي وأخذ مني طبعا ورقة الضد وعليها بصمتي وختمي واشترى لي كشك سجائر في جاردن سيتي وفوضني في تحصيل الإيجارات ، وكنت أذهب له بالإيراد شهريا وآخذ مايجود به عليّ وقد كان كريما غاية مايكون الكرم ، وبعد النكسة انتحر المشير عامر وهرب علي رفيق إلى لندن بعد أن أحرق كل أوراقه قبل الهروب ومنها ورقة الضد التي أخذها مني وأصبحت من وقتها المالك الوحيد الرسمي لعشرين عمارة في جاردن سيتي قيمتها تزيد كل يوم ويسكن فيها كبار القوم وصلي على النبي ...
ثروت الخرباوي
تعليق