[align=justify]
تمام الحادية عشرة مساءً ، حينما توقف زياد أمام مغسلة الملابس ، اعتذر العامل المصري عن تأخره ، ووعد بان الملابس ستكون جاهزة خلال نصف ساعة ، أخذ يحدث نفسه :
- لايوجد وقت كافي ، لأذهب ثم أعود ..
بقي في مقعد السيارة ، وأخذ يتأمل واجهة المحلات التجارية ، صالون حلاقة ، سوبر ماركت ، صيدلية ، مستوصف تجاري .. مستوصف ! منذ عدة أيام وأنا أحس بدوار تتصاعد وتيرته ، لكنه بقي في حدود قدرتي على الاحتمال ، لم أذهب لأي طبيب ، فأنا أكرههم كره العمى ، ربما لأنهم يشعرونني دائماً بأنهم يعرفون مصلحتي أكثر مني ، لكن ، لماذا لا أشكو للطبيب المناوب هذا العارض ، بدلاً من الانتظار في السيارة .
دفع اجرة الكشف ، ودخل إلى الطبيب ، من شبه القارة الهندية ، في الخامسة والثلاثين من عمره ونظراته حادة ، شكى له ، وهو يقيس الضغط ، ثم سأله :
- كيف الضغط ؟
- نازل شويه ..
طلب الطبيب منه التمدد على السرير ، ثم وضع السماعة على أذنيه الصغيرتين ، وأخذ يحوم حول قلبه ، وتعابير وجهه ترسل إشارات متناقضة ، بدأت المخاوف تتسلل إلى داخل صاحبنا ، وهو يكرر :
- وش فيه ؟
والطبيب يردد كالببغاء :
- إن شاء الله مافي مشكلة .
أخيراً أنزل سماعته ووقف منتصباً ، وقال :
- إن شاء الله مافي مشكلة ، بس لازم تخطيط قلب .
كانت الظنون قد أحكمت طوقها حول زياد ، هذه نتيجة إهمالي في صحتي ، كان يجب أن أذهب للطبيب قبل أسبوعين ، حينما أحسست بالعارض أول مره ، نهض متوجهاً لغرفة التخطيط ، فعاوده ذلك الدوار اللعين ، وكاد يسقط ، فزادت ثقة الدكتور بنفسه ، وتضعضعت ثقته بنفسه .
نزع ملابسه ، وأخذ الطبيب والممرضة يتعاونان في زرع المجسات في أنحاء جسده وهو جثة هامدة ، لا يتحرك ، جهاز التخطيط يرسم إشارات غريبة ، ذكرته بإشارات الرادار ، وطبيبه يتلقاها بيده وينظر فيها باهتمام ، دقائق ، وإذا بطبيب آخر يحضر ، ويتبادلان حديثاً قصيراً لم يفهم منه شيئاً ، ثم التفت إليه قائلاً بارتباك ظاهر :
- ما فيه خوف ، إن شاء الله مافي مشكلة ، هذا قلب ممكن شويه مشكله ، الآن أعطيك حبتي أسبرين ، بس لازم تروح مستشفى كبير ..
أسقط في يد زياد ، أسبرين ! يعني الموضوع فيه جلطه ! لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، تهاوت معنوياته ، وبدا له بأنه لن يستطيع الوقوف ، تناول الدواء ، والطبيب ينظر اليه بشفقه ، ثم شجع نفسه ، واستجمع قواه ، ونهض بنشاط مصطنع ، فبرق له الأمل :
- ها أنا أقف ، الحمد لله ..
لكن الطبيب ، اقترب منه وقال بما معناه لن تستطيع قيادة السيارة لوحدك ولابد أن يأتي أحدهم ليأخذك ، فكانت جملته الأخيرة بمثابة الضربة القاضية ، فقد خارت قواه مرة أخرى ، وتمكن اليأس منه ، فاتصل بأخيه .
خرج بخطى ثقيلة ، فتلقاه العامل المصري عند باب السيارة ليريه أنه على الوعد ، في تلك اللحظة ، لم تكن الملابس تهمه ، حرص فقط على إبرا ذمته ، فدفع أجرته صامتاً ، في حين أخذ الأخ المصري ينظر اليه باستغراب ، تبدلت حاله خلال نصف ساعة .
بدأت رحلته إلى المستشفى الرئيسي ، وبدأت معالم الحي تودعه ويودعها ، وفي داخله دارت أحاديث كثيرة ، هذا الجامع ، وتلك مدرسة إبني ، وهذه حديقة الحي ، كأنني أرى تلك المعالم للمرة الأولى ، أخي صامت لا ينبس ببنت شفه ، فقد صدمه الخبر ، ووجه له الطبيب تحذيراً شديداّ من إرهاقي بالحديث ، مقصورة سيارتي بدت لي في غاية الجمال ، أضواؤها ، ومؤشراتها تفيض جمالاً وعذوبة ، أشجار النخيل الباسقة ، ما أجملها ، كنت أعتبرها كالرصيف الأسمنتي تماماً ، أما ألان فهي تنضح بالحياة ، تتماوج أطرافها مع الأنسام اللطيفة التي تداعبها .
طموحاتي الكبيرة التي كنت أسير نحوها ، هاهي الأقدار تحول بيني وبينها ، بعد سنوات من الجهد والعمل الشاق ، هل يعقل أن أصاب بهذه العاهة الخطيرة في هذا العمر ؟ أمن الممكن أن تنتهي حياتي العملية هذه النهاية الباردة ؟ وأنا الذي كنت أعتقد بأنني سأساهم في مجالي مساهمة فعالة تبقى نبراساً للأجيال ، كتاباتي ، مذكراتي ، مشاريعي الأدبية والتجارية ، كل ذلك سينتهي ، نعم سينتهي ، آه ياقلبي ، كم سقط بسقوطك من الطموحات !
أطفالي الجميلون ، من سيتلمس حاجاتهم ، ويوجههم في مسالك الحياة الوعرة ، وأمهم ، كيف سيكون مصيرها ؟ ياويحهم وويح أمهم ، أشعر بأنني أترك أفراد أسرتي الصغيرة يتزاحمون على ظهر قارب صغير متهالك في خضم بحر الحياة المتلاطم ، عذري أنني لم أتخل عنهم بإرادتي ، فقد نزعتهم الحياة من يدي ، أو نزعني الموت من بينهم ، يااااه .. ما أقسى هذه المشاعر ، وما أجمل حياتي قبل هذا العارض .
بعد فحص سريع ابتسم الاستشاري المناوب في المشفى المركزي ثم التفت اليه قائلاً :
- قلبك زي الفل يابني ..
قفز زياد وقبّل جبينه وهو يردد :
- الله يجزاك خير يادكتور ..
ثم أراد أن يقطع دابر الشكوك ويطمئن أكثر ، فتساءل بحذر :
- طيب .. ما سبب الدوار الذي ينتابني ؟
أجابه بثقة الطبيب الخبير :
- أظهرت التحاليل وجود فقر دم شديد ..
رد بفرح صبياني :
- فقر الدم لاشيء بالقياس الى غيره .
[/align]
تعليق