لُؤلُؤة ضائعة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • صبري رسول
    أديب وكاتب
    • 25-05-2009
    • 647

    لُؤلُؤة ضائعة

    لُؤلُؤة ضائعة


    صبري رسول

    ارتمى على سريره منهاراً، أغمض عينيه بقوة ، ليوقف الزمن الهارب من ذاكرته، ويبعد ألواناً، رسمته غربتُه الداخلية بوحشية، ليس له حيلة في صنعها.

    الغربة، المرأة، والفشل، عناوين بارزة تهندس أحلامه، كلَّما حاول التخلص من أحدها، كان الآخر ينتظره فاغراً فمه.
    هربت من الفشل لأسجل نجاحاً لم يكن موجوداً، فإذا به يصبح سمة لي في أداء وظيفتي، فأفشل في الغربة كفشلي مع اللؤلؤة الضائعة، المرأة بكل ثقلها في القلب، تلاحقني، فيحرقني شوقها، وهي تذوب مع الخريف، كورقة تتماهى مع الريح.
    في ذات شتاءٍ، وبعد دقاتٍ متكررة، فتحت البابَ لأجد امرأةً من الثلج، واقفةً بملامحها الشبيهة بغيوم الثلج. هل نسيَ النّاس تمثالهم الثلجي؟ هل أصابها البرد؟ كانت قطرات الماء الذائبة تسيل منها. دعوتها إلى الدّخول ،فدخلت ، لكنها لم تتكلّم. سهرة صامتة كصمت شتائنا. هل سأصبح ضيفاً على صدرها الدافئ؟ امرأة رشيقة القوام، عيونها مكحّلة بالبرد، جسمها يضجّ أنوثةً ، شعرها من حزن الليل.

    كانت الرِّحلة غامضة، فتاهَ الاستبصارُ في عمق الفوضى. صدرُها عَالَمٌ بِكرٌ من الدَّهشة غير المكتشفة، عالَمٌ يتوق إلى سفرٍ لانهائيٍّ من التمرّد، أخذتني الرحلةٌ إلى متاهاتٍ شيّقةٍ، اكتشفتُ جزراً و وهاداً ما وطِئَها أحدٌ، توغّلتُ إلى حيثُ أخطأ آدم.

    على الشّرفة الشّرقية، كانت طقوسٌ مجوسية، تهندس قامة الرغبة الثائرة، ويشهد الثلج على التسجيلاتِ الجنونية والأشكال المرتسمة في قاع الفنجان، همساتها تراكمت في القاع، ثمَّ صبّت الجرعة في فمي. يشهد البردُ أنّ جنون الطّفولة مازال ينبض في جوانح خامدة. طفولتي علّمت أمي الحكمة والصَّبر، وعلّمت أزقة قريتي كيف تحنُّ لأرجل حافية، قاست مسافات البيادر بخطواتها الصغيرة. كمشةٌ واحدة من القمح الذّهبي كافية لترسمَ الخطواتُ الحافيةُ وجهَ الفرحِ على الأزقة كي تصلَ إلى بقالة قمرية، فتملأ الجيوبَ بالهدايا والألعاب.

    عرفت أنِّي كنت محظوظاً – ربما للمرة الأولى في حياتي، لأن البيادر أغدقت على جيوبي كثيراً، ولؤلؤتي أغدقت على شفتي حتى أصابهما الجنون، جنون القبلة والقهوة والكلام الملائكي, وسكن فينا الليل الكاوي، فاكتوينا حتى الثَّمالة المثلى. والآن أصبحت طريد الغربة والمرأة والفشل.

    عندما قضيت ساعاتٍ طويلة مع اللؤلؤة، أشعر بأنها لحظات سرقها مني جهلي بالزمن. وعندما يقضي المرء لحظاتٍ في دائرة أمنية انتظاراً لمعرفة سبب استدعائهم له، تطول كأنَّه معتقل من عهد فرعون وموسى. اللؤلؤة والأمن وجهان لزمنٍ يعيشه المرء التَّائه في تقلبات الدّهر المسجلة في ((روزنامة )) الكون.

    جاءتْ. قلت لنفسي وأنا أسمع هسيساً لمتغيرات انعكاس الضَّوء الخافت على الجدار المقابل. دخلت بفستانٍ يفصح عن تفاصيل الأنثى المختبئة عن العيون منذ الخطيئة الخالدة الأولى، داخل فستانها كان جسد الثَّلج و البحر يتمايل بهدوء مثير. أنوثة صارخة تخبئ فصول السنة في مياسة القدّ ، تفيض عبر شفافية اللون، اقتربتْ، هديلُ ابتسامتها نسيجٌ من الرّغبة في غليانها الهائج، في ظلال رموشها سفنٌ حائرة، أرساها الخوف، والقلق، والتَّوق إلى الوضوح. تقدمت نحوها، ينابيع من النَّحل تحكُّ جسمي، ثورة النَّحل تفجرت في داخلي، حملتها بين يدي، لمسها جمرة نارٍ، كانت هناك في أقصى المكان، تتَّقد جمرةً، تقذف آهاتٍ كتمتها أيامها عن الولادة. تفجَّرت ينابيع الرّوح والجسد، الينابيع الخالدة تولَد مرةً وتموت ألف مرة .

    السَّاعة الجداريَّة كانت تومِئُ برحيلِ اللَّيل، عندما طلبت مني قراءة القصيدة لها للمرة الثَّالثة، فوقفتُ أمامي بذاتِ الفستان، لامسَ صدرُها صدري، وعيونُها تخطفُ الكلماتِ من شفتي، وكلماتي تترجم جروحاتي إلى أغنية باسمها.

    اعتقلَتْنَا الغفوةُ، سقط كلٌّ منا طريح التَّعب، الغفوةُ سلطانٌ مسلَّطٌ على النّفوس القلِقة في بحثها عن لحظة التّجلي المختفية عن الإدراك الإنساني. أصبحْتُ متلاشياً في عمق الغفوة إلى الصَّباح الأبيض. اختفَتْ. بحثْتُ عنها في الأمكنة الواسعة والضَّيقة، لم أجد ما يُهدِّئ قلَقي. نظرتُ عبر النّافذة إلى الطَّبيعة التي أصبحتْ ندفاً من البياض البارد. لمحت على البلور، حروفاً ضبابية كتبتْهَا بسبابتِهَا قبل الرَّحيل: احرقْ أحزمةَ الخريف، لتحترقَ فوضاك معها، وابحثْ عن ربيعك الضَّائع في بريق الثَّلج. قلتُ: لكنني أعيشُ فصلاً واحداً منذ مئات السِّنين، كيف أجد فصل الألوان على ثوب الثلج؟

    الطّائف 2/3/2000



    التعديل الأخير تم بواسطة صبري رسول; الساعة 05-11-2010, 10:02.
  • مريم محمود العلي
    أديب وكاتب
    • 16-05-2007
    • 594

    #2
    الله
    حقا أبدعت وأجدت وأمتعت
    ********
    أستاذ صبري
    أغبطك من قلبي على هذا النص الرائع والمدهش حقا بكل المقاييس
    ويسرني أن أكون أول القارئين والمعلقين
    حفنة من الياسمين لك

    تعليق

    • سعاد عثمان علي
      نائب ملتقى التاريخ
      أديبة
      • 11-06-2009
      • 3756

      #3
      أستاذ صبري رسول
      أسعد الله مساؤك
      الطائف...مصيف المملكة الجميل
      بين الرياح الربيعية وبين ندف الثلج تُخالج الروح أنات الحنين
      الثلج أحياناً يريد أن يُجمد المشاعر
      لكن...لهيب الشوق يعيد إليها لهيبها
      لؤلؤة ضائعة ؛من أجمل ماكتب صبري رسول
      حيث ترجم العواطف ترجمة راقية ..غير واضحة وغير مخفية
      وأمنيات مازالت تحفر في النفس الأنين والشوق لما كان
      ولكن..هل احرقت أحزمة الخريف
      تحياتي أستاذ صبري
      وأجمل امنياتي ان تظل نفسيتك شفافة لتفيض
      علينا نسائم القرنفل والجوري
      سعادة
      ثلاث يعز الصبر عند حلولها
      ويذهل عنها عقل كل لبيب
      خروج إضطرارمن بلاد يحبها
      وفرقة اخوان وفقد حبيب

      زهيربن أبي سلمى​

      تعليق

      • صبري رسول
        أديب وكاتب
        • 25-05-2009
        • 647

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة مريم محمود العلي مشاهدة المشاركة
        الله
        حقا أبدعت وأجدت وأمتعت
        ********
        أستاذ صبري
        أغبطك من قلبي على هذا النص الرائع والمدهش حقا بكل المقاييس
        ويسرني أن أكون أول القارئين والمعلقين
        حفنة من الياسمين لك

        العزيزة مريم
        أشكرك على مرورك المضيء
        فحضورك أسعدني، واستمتاعك بالنص أفرحني أكثر
        كان هذا النّص منسياً بين أوراق قديمة
        فنشرته توثيقا له
        كوني بخير

        تعليق

        • سمية الألفي
          كتابة لا تُعيدني للحياة
          • 29-10-2009
          • 1948

          #5
          الأستاذ / صبري

          نص طغت عليه الشاعرية

          فبات الحرف فيه مطرزا بالجمال


          جوري لروحك


          تحياتي

          تعليق

          • صبري رسول
            أديب وكاتب
            • 25-05-2009
            • 647

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة سعاد عثمان علي مشاهدة المشاركة
            أستاذ صبري رسول
            أسعد الله مساؤك
            الطائف...مصيف المملكة الجميل
            بين الرياح الربيعية وبين ندف الثلج تُخالج الروح أنات الحنين
            الثلج أحياناً يريد أن يُجمد المشاعر
            لكن...لهيب الشوق يعيد إليها لهيبها
            لؤلؤة ضائعة ؛من أجمل ماكتب صبري رسول
            حيث ترجم العواطف ترجمة راقية ..غير واضحة وغير مخفية
            وأمنيات مازالت تحفر في النفس الأنين والشوق لما كان
            ولكن..هل احرقت أحزمة الخريف
            تحياتي أستاذ صبري
            وأجمل امنياتي ان تظل نفسيتك شفافة لتفيض
            علينا نسائم القرنفل والجوري
            سعادة
            العزيزة سعاد
            تحية لك
            قد يكون النّص جميلاً لكنّه ليس الأجمل.
            كما أنّ أي نصّ يستمدّ قوته من إعجاب القراء
            ربما جاء النّص كشخصٍ يسليني في غربتي السابقة
            فتصاحبنا
            وتسامرنا
            عندما استيقظت وجدتّ كل الأمر سراباً
            ووهماً
            كوني بخير

            تعليق

            • عائده محمد نادر
              عضو الملتقى
              • 18-10-2008
              • 12843

              #7
              الزميل القدير
              صبري رسول
              نص شفاف وفيه شجن رقيق
              ولا أدري لم أحسست بالشجن رقيقا
              ربما لأن سردك جاء بكل تلك الرقة والحزن
              ربما لأني مغمسة بالشجن رأيته كذلك
              لا أدري
              الذي أدريه أن النص تتغلغلني
              ودي الأكيد لك
              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

              تعليق

              • إيمان الدرع
                نائب ملتقى القصة
                • 09-02-2010
                • 3576

                #8
                الزّميل الغالي : والأديب المبدع صبري رسول ..
                نسجت النصّ بخيوطٍ كالحرير...
                فشفّ عن مشاعر غاية في الدّفء ، والتوحّد مع الذّات...
                في لحنٍ حزينٍ ..
                مع أطيب أمنياتي ...تحيّاتي ...

                تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

                تعليق

                • مجدي السماك
                  أديب وقاص
                  • 23-10-2007
                  • 600

                  #9
                  تحياتي

                  اخي المبدع صبري رسول..تحياتي
                  قصة جميلة..مميزة.ملفتة للانتباه. اسلوبها سلس وجميل.
                  مودتي
                  عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

                  تعليق

                  • صبري رسول
                    أديب وكاتب
                    • 25-05-2009
                    • 647

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة سمية الألفي مشاهدة المشاركة
                    الأستاذ / صبري


                    نص طغت عليه الشاعرية

                    فبات الحرف فيه مطرزا بالجمال


                    جوري لروحك



                    تحياتي

                    العزيزة سمية
                    تحية لك
                    أعتقد أنّ (شعْرَنة القصة) صارت مدرسة تفرض نفسها
                    بمعنى استخدام اللغة المكثفة والمعاني المختزلة
                    شكراً لحضورك الوردي
                    كوني بخير

                    تعليق

                    يعمل...
                    X