رصيف القيامة لياسين عدنان هندسة الحطام

الكتاب: رصيف القيامة
الكاتب: ياسين عدنان
الناشر: دار المدى
الشاعر عدنان ياسين يأتي الى الشعر بدوره أيضا، من خسارة فادحة. هكذا الخسارات الماثلة في أعمارنا تحيلنا شعراء، فليست بعد بخسارة هذه التي تستنطق الشعر. في <<رصيف القيامة>> المجموعة الشعرية الجديدة لياسين عدنان، الصادرة عن <<دار المدى>>، يأتي الشاعر بإضافة على ما نعرفه من الكتابات الشعرية الجيّدة، ويخوض سبيله الشعري في قصائد خاطفة وفاتنة، جذرها وحدة وخوف ورعب بشريين.
نقرأ ياسين عدنان في ما يحققه من شعر عبر مونولوغ شعري يكاد يُدرك كل القصائد ما عدا استثناءات بسيطة: <<بحيرة العميان>> <<صيادون بقمصان الحداد>> <<حديقة المهملات>> <<زهرة عبّاد اليأس>> <<في الطريق الى عام ألفين>> و<<رصيف القيامة>>. نحبّ منه قصائد أكثر من سواها، بيد أن الشاعر لا يترك لك أن تحب <<حديقة المهملات>> و<<بحيرة العميان>> الى درجة تمييزها عن سواها، فهو موجود بنشيجه الطويل، الدسم والمكثف والأنيق في قصائده كافة، ما يجزم بأنه نجح باصطياد ذائقتك الى كتابه بالكامل.
من الشعور القاتم وكابوسية الحياة: /أنا المتعب أبدا/ حمّال حطب الندم/، يكتب عدنان ياسين بنبرة رسولية احتجاجية، لا تسعى الى تغيير العالم أو تفسيره، بل تتهاوى في بؤسه مكللة بالغربة والشعر، في اختيارات جمالية مكتسبة من كتابات الرواد في تأثيرات تبدّت فلسفية وتأملية حداثوية.
عزلة
قصائد ياسين عدنان في <<رصيف القيامة>> هي مزيج متجانس من عزلة بشرية تعصف بها أحداث عاطفية حادة ومؤلمة، الى مواقف ساخرة من مظاهر بعينها، بما فيها الكتابة والشعر. إن ما يحدث في قصائد عدنان، يحدث في الخفاء وكأنه إعمال الروح في ما ينتابها، وفي محاولتها المضنية لخلق نوع من الألفة بينها وبين العالم الذي تستوطنه. كتابته هي نوع من الإفلات الشعري من عبء ما يتناوب على روحه من استلاب يومي، في محاولة الشاعر لملمة بعض الدفء من فكّي الوقت الذي سطا على العمر. من <<زهرة عبّاد اليأس>> يقول الشاعر:
<<لكنني لست محايداً مثلك
أيها العالم
إنني مهموم فقط
?
أيتها السنوات العجولة
التي مضت
كقطارات مجنونة لا تلوي..
وتركت معاطفي الأولى
تشخر في دولاب العمر
هل تذكرين تلك السحاقية 1990؟
لقد فتحت شبابيكي
على الأصص الحزينة وبقايا النساء
على الرياح الفاجرة وغريب المصادفات
الخبيثة بددّتني
وها مواعيدي تتكبّد الخيبات
في ألبوم ميت
خارج رخاوتها. (ص25)
يكتب ياسين عدنان من جرح وخلل في القلب والعيش، مستخدما لغة نظيفة متحررة من تبعات الإطالة، رغم سرديتها في العمق. وهي سردية تنتمي الى لغة المشافهة الشعرية في كلامها عن الحياة وأشخاصها. عدنان في بوحه الذاتي الخاص، يعرف كيف يرتقي به الى الإنساني العام من خلال انتقائه الذكي لمواضيعه وصوره، بصوت رهيف وخافت تحميه لغة بصرية قوامها الصور والمشاهد المتعاقبة: <<أما زلت تنزّين كرذاذ مخذول/ وتصمتين كقيلولة/ وكمساء ناعس/ تتثاءبين؟/ دعي الأجراس تسقط/ من رنينك/ لأسمع نداءك المزعوم عميقا/ واعترفي بالأجنحة/ بحشائش عزلتك/ وبأسرار الفلكيين/. (ص8)
ثمة تداخل بين <<الأنا>> الشعرية وبين عوالمها في <<رصيف القيامة>> لياسين عدنان. الحطام الذي يشكّل عالم <<رصيف القيامة>> لا يحجب متعة الاسترسال في قراءتها حتى السطر الأخير، من حركة البناء الشعري المضبوطة التي تُرخي نوعا من الرضى في الدخول الليّن الى عوالمها.
عدم التداخل، ومن ثم قوة الربط التي تشدّ السطور الى بؤرة مركزية، يبدو خالياً من التزيينية جميلا ومشفوعاً بإغراءات الصور السحرية، وبشوق لكشف مغالق كلام سرّي وذاتي.
الاستسلام للجمالية اللافتة في <<رصيف القيامة>> نابع من قدرة الشاعر على منح دلالات القصائد طابع الانبثاق الطوعي والصدود الطبيعي عن واقعها. عدنان يضبط بحرفة خواتيم قصائده وتقطيعاتها فيأتي إيقاعها مزدوجا في جوانّيته وشكله. والشاعر الى اعتماده اللغة البسيطة والمباشرة يمنح أحيانا بعض سطور قصائده ترميزية تتراوح بين تدوين الأماكن، وبين التنقّل في الزمان بأبعاده الثلاثة.
نكاد نقول في السيرة الذاتية الشعرية في <<رصيف القيامة>>. بيد أنها سيرة ألوان ورؤى وعلاقة بالمدن وناسها، وارتسامهم في ذاكرة الشاعر. وفي اللعبة الفنية للمجموعة، يبدو الشاعر مرجعية قصائده، ويبدو قوله الشعري، حقيقة رغم الوجع والتعب.

الكتاب: رصيف القيامة
الكاتب: ياسين عدنان
الناشر: دار المدى
الشاعر عدنان ياسين يأتي الى الشعر بدوره أيضا، من خسارة فادحة. هكذا الخسارات الماثلة في أعمارنا تحيلنا شعراء، فليست بعد بخسارة هذه التي تستنطق الشعر. في <<رصيف القيامة>> المجموعة الشعرية الجديدة لياسين عدنان، الصادرة عن <<دار المدى>>، يأتي الشاعر بإضافة على ما نعرفه من الكتابات الشعرية الجيّدة، ويخوض سبيله الشعري في قصائد خاطفة وفاتنة، جذرها وحدة وخوف ورعب بشريين.
نقرأ ياسين عدنان في ما يحققه من شعر عبر مونولوغ شعري يكاد يُدرك كل القصائد ما عدا استثناءات بسيطة: <<بحيرة العميان>> <<صيادون بقمصان الحداد>> <<حديقة المهملات>> <<زهرة عبّاد اليأس>> <<في الطريق الى عام ألفين>> و<<رصيف القيامة>>. نحبّ منه قصائد أكثر من سواها، بيد أن الشاعر لا يترك لك أن تحب <<حديقة المهملات>> و<<بحيرة العميان>> الى درجة تمييزها عن سواها، فهو موجود بنشيجه الطويل، الدسم والمكثف والأنيق في قصائده كافة، ما يجزم بأنه نجح باصطياد ذائقتك الى كتابه بالكامل.
من الشعور القاتم وكابوسية الحياة: /أنا المتعب أبدا/ حمّال حطب الندم/، يكتب عدنان ياسين بنبرة رسولية احتجاجية، لا تسعى الى تغيير العالم أو تفسيره، بل تتهاوى في بؤسه مكللة بالغربة والشعر، في اختيارات جمالية مكتسبة من كتابات الرواد في تأثيرات تبدّت فلسفية وتأملية حداثوية.
عزلة
قصائد ياسين عدنان في <<رصيف القيامة>> هي مزيج متجانس من عزلة بشرية تعصف بها أحداث عاطفية حادة ومؤلمة، الى مواقف ساخرة من مظاهر بعينها، بما فيها الكتابة والشعر. إن ما يحدث في قصائد عدنان، يحدث في الخفاء وكأنه إعمال الروح في ما ينتابها، وفي محاولتها المضنية لخلق نوع من الألفة بينها وبين العالم الذي تستوطنه. كتابته هي نوع من الإفلات الشعري من عبء ما يتناوب على روحه من استلاب يومي، في محاولة الشاعر لملمة بعض الدفء من فكّي الوقت الذي سطا على العمر. من <<زهرة عبّاد اليأس>> يقول الشاعر:
<<لكنني لست محايداً مثلك
أيها العالم
إنني مهموم فقط
?
أيتها السنوات العجولة
التي مضت
كقطارات مجنونة لا تلوي..
وتركت معاطفي الأولى
تشخر في دولاب العمر
هل تذكرين تلك السحاقية 1990؟
لقد فتحت شبابيكي
على الأصص الحزينة وبقايا النساء
على الرياح الفاجرة وغريب المصادفات
الخبيثة بددّتني
وها مواعيدي تتكبّد الخيبات
في ألبوم ميت
خارج رخاوتها. (ص25)
يكتب ياسين عدنان من جرح وخلل في القلب والعيش، مستخدما لغة نظيفة متحررة من تبعات الإطالة، رغم سرديتها في العمق. وهي سردية تنتمي الى لغة المشافهة الشعرية في كلامها عن الحياة وأشخاصها. عدنان في بوحه الذاتي الخاص، يعرف كيف يرتقي به الى الإنساني العام من خلال انتقائه الذكي لمواضيعه وصوره، بصوت رهيف وخافت تحميه لغة بصرية قوامها الصور والمشاهد المتعاقبة: <<أما زلت تنزّين كرذاذ مخذول/ وتصمتين كقيلولة/ وكمساء ناعس/ تتثاءبين؟/ دعي الأجراس تسقط/ من رنينك/ لأسمع نداءك المزعوم عميقا/ واعترفي بالأجنحة/ بحشائش عزلتك/ وبأسرار الفلكيين/. (ص8)
ثمة تداخل بين <<الأنا>> الشعرية وبين عوالمها في <<رصيف القيامة>> لياسين عدنان. الحطام الذي يشكّل عالم <<رصيف القيامة>> لا يحجب متعة الاسترسال في قراءتها حتى السطر الأخير، من حركة البناء الشعري المضبوطة التي تُرخي نوعا من الرضى في الدخول الليّن الى عوالمها.
عدم التداخل، ومن ثم قوة الربط التي تشدّ السطور الى بؤرة مركزية، يبدو خالياً من التزيينية جميلا ومشفوعاً بإغراءات الصور السحرية، وبشوق لكشف مغالق كلام سرّي وذاتي.
الاستسلام للجمالية اللافتة في <<رصيف القيامة>> نابع من قدرة الشاعر على منح دلالات القصائد طابع الانبثاق الطوعي والصدود الطبيعي عن واقعها. عدنان يضبط بحرفة خواتيم قصائده وتقطيعاتها فيأتي إيقاعها مزدوجا في جوانّيته وشكله. والشاعر الى اعتماده اللغة البسيطة والمباشرة يمنح أحيانا بعض سطور قصائده ترميزية تتراوح بين تدوين الأماكن، وبين التنقّل في الزمان بأبعاده الثلاثة.
نكاد نقول في السيرة الذاتية الشعرية في <<رصيف القيامة>>. بيد أنها سيرة ألوان ورؤى وعلاقة بالمدن وناسها، وارتسامهم في ذاكرة الشاعر. وفي اللعبة الفنية للمجموعة، يبدو الشاعر مرجعية قصائده، ويبدو قوله الشعري، حقيقة رغم الوجع والتعب.
عناية جابر - السفير - 22.12.2003
تعليق