تغيرت الفصول فجأة، وانقلبت ملامح المساء إلى أخرى متوحشة مكشرّة عن أنيابها، وربما كانت تحمل صورته الجديدة.. هكذا هيّأت له الزلازل التي ضربته، تشققت أرضه الثابتة التي كان يمشي عليها، تهدم كل ما بناه، وها هي أيدي تنبثق من تلك الشقوق، تحاول سحبه نحو أعماق مجهولة ...! حاول البحث عن وعيه بين الأنقاض، ساعدته تلك المفاتيح التي دستها "السيدة" في جيبه، وجعلته يستعيد قليلا إحساسه بما حوله، ولكنه مع ذلك شعر أنه في مكان غريب عنه، كأنه لم يزر المقهى قبلا، لأول مرة يلمح تلك الشجرة العارية من الأوراق...
لأول مرة ينتبه أن النسائم تحمل لونا أصفرا شاحبا .. وأنّ التل الذي يحتضن المقهى ما هو إلا واحة ليلية وسط صحراء .. ! حتى النجوم لم تكن مصابيحها سوى شعلة غضب يرقص الليل حولها، مؤديا طقوسه الغريبة والتي لا تنذر بالخير !
بدا المكان فجأة كأنه قبيلة همجية، من أكلة البشر، بل أحسّ أن الكراسي ما هي إلا مصاصي دماء، جعلت أوردته قاحلة، وحاولت أن تنقل إليه العدوى ..! هل كان الأمر كذلك فعلا؟ أم أنّ خوفه صوّر له هذه الأشياء ..؟!
هو نفسه لم يعد يمتلك الإجابة لأي شيء، شعر أنّه منوم مغناطيسيا، ينساب نحو تلك الشقوق دون إرادة ..ويكاد يسلم نفسه إليها!
لم يفكر بالهروب، فكل أبواب المساء أغلقت فجأة، وذاكرته الوفية تركته وحيدا في ذلك المأزق ..! بل كان يدري في قرارة نفسه -جاهلا السبب- أن لا مكان يحتويه أو يشدّه غير هذا المكان ..!
باغته صوت أصدائه كمخالب تمزّق النفس : "يا للسخرية .. سقط عنك قناع الشجاعة إذا ..! "
فتذكر اللعبة والتحدي ..وأنّ مرآة حياته تنتظره لتهزأ به طوال العمر ... قال في سرّه :
كنت أتباه بقدرتي على النجاة .. أتلذذ باللعب بأعصابهم .. وبتحديهم .. لكن ليس لدرجة أن يصل الأمر إلى هذا الحدّ ..؟!
ومع ذلك لن أتراجع، لقد تغيّر موقعي في اللعبة لكنني سأواصل ما بدأت به، سأفك خيوط أسرار هذه المقهى عن بعضها، حتى يتفتت جسد عبائته السوداء .. فتصبح مجرد نسيج أعيد حياكته على طريقتي، أو أرمي كراته لقطط المسافات، فتبعثرها أكثر ..!
كانت جثة النادل تنتظره في محطة الموت تلك .. اقترب منها شيئا فشيئا .. تناول طرف ثياب زميله السابق باشمئزاز، وحاول جرّه، انتابته قشعريرة قوية، وكي يتخلص منها ومن العيون التي تحدق به، انتشل الجثة دفعة واحدة، فألقاها على ظهره مع بعض أشيائه وملامحه القديمة، دون أن يفهم سرّ هذه القوة التي اجتاحته .. فتح باب الغرفة المظلمة، رمى النادل أرضا ..ثمّ استفاق على نفسه، ليجد الظلام يحيطه وأصوات وضحكات ...!
فجأة انبثق نور أمامه، فرض هيبته على المكان، وجنود الصمت .. اقترب من مصدر النور، فإذا هي صورة طفلة معلّقة على الجدار .. أذهلته ملامحها .. صرخ:
إنها هي ..تشبهها .. أيعقل!
مدّ يدهّ نحوها ليتحسسها، فإذا بشيء يمسكه من يده ..كاد الخوف يقتله، فهرع مسرعا خارج الغرفة ..
وقف قليلا مع نفسه، تنفسّ بعض الهواء والعقلانية .. ثم لعن الذعر الذي أوفد إليه تلك الظنون والتهيآت .. وبعد أن تبددت تلك السحب، عاد الذهول ليمطر في ذهنه من جديد : "لماذا أنا بالذات؟ لم أقحموني في لعبة أنا عدّوها الأول؟
اعتلت ثغره ابتسامة غريبة، أخرج من ثناياها مظلة، وقفت في وجه ذلك المطر:
إنّ عالما من الأسرار أراد فتح نوافذه، فليوصد الخوف بابه إذا .. المغامرة بدأت .. والحرب تحولت قواعدها العسكرية إلى الداخل .. سأكشف كل الخبايا .. سأستولي على كل شيء .. وأقهرهما بكلتيّ يديّ .. "
هذه الأفكار الثورية أعادت له توازنه نوعا ما، وإن بقي القتل فصل لم يقربه قلمه قبلا، إلا أن الحبر إن فاض .. لا أحد يسيطر على سيوله .. والزبون الذي حضر كأن أحدا ناداه، هو مطلع رواية قتل جاذب .. سيزيل حواجز القلم .. لتولد بعد ذلك فصول ... وفصول ..!
.
.
رجل في الأربعين من عمره تقريبا .. شعره رماديّ كنظراته البائسة .. اختار له النادل(140) الطاولة رقم (3) لأنه رقم الحظّ السيء عنده ..
ما إن استقرّ الرجل في مكانه حتى بدأ يتمتم بغرابة، تقاطع كلامه الشهقات ..
-أتشمّ رائحة هذا العطر على قميصي ؟؟ إنه عطر زوجتي ..لكنك لست الغريب الوحيد الذي اشتمّه، بل كثيرين غيرك .. لأنها خائنة .. خائنة ..
هنا ومضت عينا النادل، تركه بصمت متجها نحو المطبخ، ودون أن يشعر ألقى في فنجانه المزيد من عطر زوجته المسموم ..
ثم عاد وقدّمه له قائلا: "أشعر بك يا عزيزي .. لذلك سأريحك من هذه المصيبة ...
أجابه الرجل بنظرة متوسلة دامعة: هل حقا تستطيع ذلك ..كيف؟
-فقط إشرب هذه القهوة ..
من الرشفة الأولى بدأت تمرّ أمام الرجل، صورا لفراشه الأبيض الملوث برجل آخر، يتوسد حضن زوجته، ينال من رجولته عبر الإستيلاء عليها، شعرها .. شفتيها ..قلبها .. يتحداه بملامحه الضبابية، يسخر منه .. بينما هي غارقة في نشوتها ..وخيانتها ..
ففاح عطرها المسموم ولفّ الزوج المغدور، حتى كاد يعصره، لم يتمالك الرجل أعصابه، هدد وندد .. أشهر سلاحه بوجههما، طعنه طعنتين وطعنها ألف طعنة .. ضحك بجنون .. بهستيريا .. جمع دماءهما في الفنجان، وشرب نخب انتصاره دفعة واحدة، فكان نفخه في بوق عظمته يصدر أنفاسا لا ألحانا .. فسقط على الأرض .. لاحقا تلك الملعقة !!
تحلقوا بشيء من الذهول حول جثته، التي كادت عينا النادل تحرقها بنيرانها المستعرة ..
قالت السيدة: أراك قد بدأت العمل بنشاط وحيوية ..لقد فجرت المجرم فيك بطريقة تثير الدهشة ..
-قتلتُه .. نعم قتله .. لكن شفقة به ..لقد كان يحتاج الموت بشدّة .. لقد كان يحتاج الراحة ..
أما المعلم فأخذه الشرود بعيدا، غاب في ملامح الجثة التي جعلته يبوح بكلام مفاجئ :
-نعم هذه أول مرة نرأف بزبون عندنا ..
هنا فقط أحسّت السيدة أنها "أنثى" وسط رجلين يضمران في أصابعهما المرتعشة مخالبا ..!
.
.
.
9/11/2010
يتبع
تعليق