كتب مصطفى بونيف

قرية هادئة صغيرة ، يعتمد سكانها على الفلاحة ، والصناعات الفنية التقليدية ، كنسيج السجادات ، ونقش الأواني النحاسية .
تنام القرية كحسناء على سفح جبل عظيم ...وحتى تصل إلى الطريق الرئيسي الذي يؤذي إلى العاصمة عليك أن تقطع عشرات الأميال سيرا على الأقدام أو امتطاء دابة ..
هواء القرية عليل ، حتى أن بعض الناس يأتون خصيصا إليها ، للعلاج والراحة النفسية ، فالقرية لا زالت بريئة من دخان المصانع والسيارات .، والفلاحون هنا يعتمدون على وسائل الزراعة التقليدية ، من أجل ذلك فنبات هاته الأرض يأتي مباركا ، مليئا بالفائدة .
المحصول الأساسي ..هو عناقيد العنب ...، حتى أن هاته القرية يطلق عليها الناس اسم "العنباية" ..
وعلى مقربة من القرية ...هناك ضريح لشيخ طريقة ، في شكل قبة خضراء صغيرة ، يذهب إليها سكان القرية ، فيذبحون النذور ، ويتصدقون بالخبز المرقوق ، ومعجون التمر ، والسكر ، ولا تكاد تخلو القبة من العجائز اللاتي يجتمعن حولها ، ليرددن بعض قصائد مديح النبي صلى الله عليه وسلم ، وكرامات سيدنا علي ، .....بينما يصنع الأطفال من الأكياس كرة ، يتقاذفونها بالعصي ، هذه اللعبة يسمونها "التلومة" ..وكثيرا ما يحتفل سكان القرية بختان جماعي لأطفالهم في قبة الشيخ ، أو يعالجون مرضاهم هناك .
التعليم في هاته القرية قرآني أصيل ، فالمدارس بعيدة جدا عن القرية ، ولا يتحمل سكانها عناء التنقل إلى المدينة ..من أجل هذا كان إمام المسجد العتيق ، يعلم الأطفال القرآن الكريم ، ورسم الحروف ، والحساب ، وما أن يشتد عود الطفل فيصبح شابا حتى يتوجه إلى مزراع العنب ، ليشتغل فيها ، ويعود إلى البيت في آخر النهار بقفة محملة بصنوف الخضر والفواكه الطازجة.
وذات صباح...
القرية كلها هبت إلى المزراع ...يقال أن قافلة من السيارات الكبيرة والمصفحة قد حاصرتها ، فلا أحد يستطيع الدخول إلى مزرعته أو الخروج منها .
"أبو مريم " ..رجل من الفلاحين ، يحبه الجميع ، لما له من شخصية طيبة ، وواسعة الأفق ، رزقه الله بابنة جميلة ، يضرب بها المثل في الحسن والأناقة ، بلغت السابعة عشر من عمرها ، كان والدها يرفض تزويجها من شباب القرية الذين كانوا يتقدمون إليها منذ أن بلغت العاشرة من عمرها ، وقد بدأت تظهر عليها علائم الحسن والأنوثة . وكان يعزو سبب رفضه إلى أن ابنته هي الوحيدة التي تساعد أمها المريضة في البيت ، فوالدتها مصابة بشلل نصفي ، عجزت حتى القبة على علاجها ، رغم أنه كان يذبح كبشا في كل عاشوراء ، أمام بوابتها ، ويطوف سبع مرات حولها ، ويستجدي الشيخ شفاء زوجته المريضة .
نزل أبو مريم إلى المزارع مع بعض الفلاحين ، لينظروا قصة هاته السيارات السوداء التي تحاصر مزارعهم ...وفجأة فتح باب سيارة متوسطة لينزل منها رجل قصير القامة ، يلبس بدلة سوداء ، ونظارات سوداء ، ويدخن سيجارة كبيرة ، نفث الرجل الدخان في الهواء ، ثم صرخ في الفلاحين : " أنا صاحب هذا المكان ، ورثته عن جدي ، الوزير " أبو رعد" ..وقررت أن أزيل جزءا من المزارع هنا ، لبناء فندق سياحي ضخم ، فالقرية تحتل موقعا جميلا ، يجلب طالبي الراحة النفسية إليها.
تقدم "أبو مريم " من الرجل ، وصرخ : هذه أراضينا منذ الأزل ، ونحن نشتغل فيها منذ فجر التاريخ ، ولم نسمع أبدا بجدك الباشا "أبو رعد" ...يبدو أنك مخطئ.
ابتسم الرجل في هدوء ونفث سحابة أخرى من الدخان ، حتى تلاشت ، ثم قال في كبرياء :
هذه المزارع من أملاك جدي ، الذي أسقطته ثورة "حسني بيك" ، وأحمل معي حجة ملكية الأراضي ، المختومة منذ عهد السلطان عبد الحميد ..في العهد العثماني .
هرع جمع من الفلاحين إلى القبة ، يطلبون منها النجدة والغوث ، وسارع شيخ القرية إلى ذبح عجل على بوابتها ، وراح يطوف حولها ، يطلب العون ، والرضا ، والخلاص من هذا الرجل الغريب .
بينما وقف أبو مريم في مواجهة الموقف ، ويرفض كل ما يقوله الرجل ، في حين رفع رجاله الأسلحة ، وفكوا منها صمامات الأمان ...
كان الرجل يتكلم بحكمة ، ويظهر الأدب في كل حديثه ، ويطلب من أبي مريم الهدوء وتقبل الموقف ..في حين كان أبو مريم ، يرفع صوته ، "عناقيد العنب ، تعرفنا ، وتراب هاته الأرض ترابنا ، ولن نتحرك من هذا المكان ، إلا لو حملتمونا على نعوش ".
كان الرجل ..عبارة عن دكتاتور صغير ...يعرف أن قامته القصيرة لا تؤهله أن يصفع رجلا في مثل ضخامة أبي مريم . من أجل ذلك كان يتوخى الحكمة والهدوء في حديثه ، وكأنه يقول لأبي مريم " أصرخ حتى الصباح ، فالأراضي ...هي ملكي الخاص ".
لم يتمالك أبو مريم أعصابه ، فضرب الدكتاتور الصغير بفأسه ، حتى أرداه صريعا ، وسرعان ما سقط أبو مريم صريعا ، بعد أن أمطره حرس الديكتاتور الصغير بوابل من الرصاص ..ثم امتطوا سيارتهم وانطلقوا .
لم يأخذوا جثة الدكتاتور معهم ...
حمل بقية المزارعين جثة أبي مريم ....وساروا بها في جنازة مهيبة ...إلى القبة الخضراء .
صلوا عليه هناك ...ودفنوه بقربها ....بينما تركوا جثة الدكتاتور الصغير ..تنهشها ذئاب الجبل .
ومنذ ذلك اليوم لم يعد في القرية قبة واحدة ..بل قبتان ....قبة الشيخ ، وقبة سيدي "بو مريم ".
مصطفى بونيف

قرية هادئة صغيرة ، يعتمد سكانها على الفلاحة ، والصناعات الفنية التقليدية ، كنسيج السجادات ، ونقش الأواني النحاسية .
تنام القرية كحسناء على سفح جبل عظيم ...وحتى تصل إلى الطريق الرئيسي الذي يؤذي إلى العاصمة عليك أن تقطع عشرات الأميال سيرا على الأقدام أو امتطاء دابة ..
هواء القرية عليل ، حتى أن بعض الناس يأتون خصيصا إليها ، للعلاج والراحة النفسية ، فالقرية لا زالت بريئة من دخان المصانع والسيارات .، والفلاحون هنا يعتمدون على وسائل الزراعة التقليدية ، من أجل ذلك فنبات هاته الأرض يأتي مباركا ، مليئا بالفائدة .
المحصول الأساسي ..هو عناقيد العنب ...، حتى أن هاته القرية يطلق عليها الناس اسم "العنباية" ..
وعلى مقربة من القرية ...هناك ضريح لشيخ طريقة ، في شكل قبة خضراء صغيرة ، يذهب إليها سكان القرية ، فيذبحون النذور ، ويتصدقون بالخبز المرقوق ، ومعجون التمر ، والسكر ، ولا تكاد تخلو القبة من العجائز اللاتي يجتمعن حولها ، ليرددن بعض قصائد مديح النبي صلى الله عليه وسلم ، وكرامات سيدنا علي ، .....بينما يصنع الأطفال من الأكياس كرة ، يتقاذفونها بالعصي ، هذه اللعبة يسمونها "التلومة" ..وكثيرا ما يحتفل سكان القرية بختان جماعي لأطفالهم في قبة الشيخ ، أو يعالجون مرضاهم هناك .
التعليم في هاته القرية قرآني أصيل ، فالمدارس بعيدة جدا عن القرية ، ولا يتحمل سكانها عناء التنقل إلى المدينة ..من أجل هذا كان إمام المسجد العتيق ، يعلم الأطفال القرآن الكريم ، ورسم الحروف ، والحساب ، وما أن يشتد عود الطفل فيصبح شابا حتى يتوجه إلى مزراع العنب ، ليشتغل فيها ، ويعود إلى البيت في آخر النهار بقفة محملة بصنوف الخضر والفواكه الطازجة.
وذات صباح...
القرية كلها هبت إلى المزراع ...يقال أن قافلة من السيارات الكبيرة والمصفحة قد حاصرتها ، فلا أحد يستطيع الدخول إلى مزرعته أو الخروج منها .
"أبو مريم " ..رجل من الفلاحين ، يحبه الجميع ، لما له من شخصية طيبة ، وواسعة الأفق ، رزقه الله بابنة جميلة ، يضرب بها المثل في الحسن والأناقة ، بلغت السابعة عشر من عمرها ، كان والدها يرفض تزويجها من شباب القرية الذين كانوا يتقدمون إليها منذ أن بلغت العاشرة من عمرها ، وقد بدأت تظهر عليها علائم الحسن والأنوثة . وكان يعزو سبب رفضه إلى أن ابنته هي الوحيدة التي تساعد أمها المريضة في البيت ، فوالدتها مصابة بشلل نصفي ، عجزت حتى القبة على علاجها ، رغم أنه كان يذبح كبشا في كل عاشوراء ، أمام بوابتها ، ويطوف سبع مرات حولها ، ويستجدي الشيخ شفاء زوجته المريضة .
نزل أبو مريم إلى المزارع مع بعض الفلاحين ، لينظروا قصة هاته السيارات السوداء التي تحاصر مزارعهم ...وفجأة فتح باب سيارة متوسطة لينزل منها رجل قصير القامة ، يلبس بدلة سوداء ، ونظارات سوداء ، ويدخن سيجارة كبيرة ، نفث الرجل الدخان في الهواء ، ثم صرخ في الفلاحين : " أنا صاحب هذا المكان ، ورثته عن جدي ، الوزير " أبو رعد" ..وقررت أن أزيل جزءا من المزارع هنا ، لبناء فندق سياحي ضخم ، فالقرية تحتل موقعا جميلا ، يجلب طالبي الراحة النفسية إليها.
تقدم "أبو مريم " من الرجل ، وصرخ : هذه أراضينا منذ الأزل ، ونحن نشتغل فيها منذ فجر التاريخ ، ولم نسمع أبدا بجدك الباشا "أبو رعد" ...يبدو أنك مخطئ.
ابتسم الرجل في هدوء ونفث سحابة أخرى من الدخان ، حتى تلاشت ، ثم قال في كبرياء :
هذه المزارع من أملاك جدي ، الذي أسقطته ثورة "حسني بيك" ، وأحمل معي حجة ملكية الأراضي ، المختومة منذ عهد السلطان عبد الحميد ..في العهد العثماني .
هرع جمع من الفلاحين إلى القبة ، يطلبون منها النجدة والغوث ، وسارع شيخ القرية إلى ذبح عجل على بوابتها ، وراح يطوف حولها ، يطلب العون ، والرضا ، والخلاص من هذا الرجل الغريب .
بينما وقف أبو مريم في مواجهة الموقف ، ويرفض كل ما يقوله الرجل ، في حين رفع رجاله الأسلحة ، وفكوا منها صمامات الأمان ...
كان الرجل يتكلم بحكمة ، ويظهر الأدب في كل حديثه ، ويطلب من أبي مريم الهدوء وتقبل الموقف ..في حين كان أبو مريم ، يرفع صوته ، "عناقيد العنب ، تعرفنا ، وتراب هاته الأرض ترابنا ، ولن نتحرك من هذا المكان ، إلا لو حملتمونا على نعوش ".
كان الرجل ..عبارة عن دكتاتور صغير ...يعرف أن قامته القصيرة لا تؤهله أن يصفع رجلا في مثل ضخامة أبي مريم . من أجل ذلك كان يتوخى الحكمة والهدوء في حديثه ، وكأنه يقول لأبي مريم " أصرخ حتى الصباح ، فالأراضي ...هي ملكي الخاص ".
لم يتمالك أبو مريم أعصابه ، فضرب الدكتاتور الصغير بفأسه ، حتى أرداه صريعا ، وسرعان ما سقط أبو مريم صريعا ، بعد أن أمطره حرس الديكتاتور الصغير بوابل من الرصاص ..ثم امتطوا سيارتهم وانطلقوا .
لم يأخذوا جثة الدكتاتور معهم ...
حمل بقية المزارعين جثة أبي مريم ....وساروا بها في جنازة مهيبة ...إلى القبة الخضراء .
صلوا عليه هناك ...ودفنوه بقربها ....بينما تركوا جثة الدكتاتور الصغير ..تنهشها ذئاب الجبل .
ومنذ ذلك اليوم لم يعد في القرية قبة واحدة ..بل قبتان ....قبة الشيخ ، وقبة سيدي "بو مريم ".
مصطفى بونيف
تعليق