ليلٌ ....ووعدٌ
أبعدتهْ بكلّ ما أوتيتْ من ألمٍ عن جسدها الرّقيقِ ، تملّصتْ منه كمن يزيح سلسلة جبالٍ عن كاهله هامسة :
ابعدْ ابراهيم أرجوك..
تجاهل استغاثتها المسائيّة التي حفرتْ قلبه بالأسى منذ شهورٍ مضتْ ...علّها تهدأ ،وتنام بدعةٍ حيث تسكن وتقيم .
أغمضتْ عينيها للحظات ...حاولتْ أن تتناسى سياط قهرٍ أدمتْ جسدها ، قفزتْ إلى روحها تعرّجات في الذّاكرة ،
ومضتْ ثمّ اشتدّتْ ....واشتدّتْ حتى أطبقتْ على رقبتها ...أحسّتْ بالاختناق..
شمّتْ رائحة شهوانيّة نتنة ، وتراقص أمامها خراب قنّ فوق السّطوح ، وريش دجاجٍ يتطاير ، والتماع نصلٍ يكاد يحفر خاصرتها ، ويد تضغط كالزّناد بقوّة على فمها ، وجسدٍ كالثّعبان قويّ العضلات يبتلع براءتها ، ونزف صوتٍ يتّجه للدّاخل نحو حشايا ترتجف ولا تقوى على الإفصاح.
إنّها تراها الآن بوضوحٍ ، بثوبها الأسودِ الطّويلِ ، وهي تحلب ببلاهةٍ الأبقار في البيت الطّينيّ العتيق ، تشاطرها الخوار ، وتحمل رائحتها إلى مائدة الفطور .
ترى بوضوحٍ قرطها الذّهبيّ المتناغم مع عقدٍ ثمينٍ ورثته عن أمّها ، وغطاء رأسٍ ينزاح عن شعرٍ أشعثَ زادتهْ فوضى الزّمان عبثاً وبلادةً .
سمعتْ ضحكات الشّيطان تتعالى على صورتين : الأولى تبكي انتهاكاً ، والأخرى تئنّ تعباً وخواء ..
انزلقَتْ يده تعانقها بإصرارٍ ، تجذبها لتلتحم في جدران أوردته ...
وبحركةٍ لا شعوريّةٍ نفضتْهُ عنها ..لقد مسّها الرّعب فما عادتْ تُطيق :
قم يا ابراهيم أرجوك قالت له : أبوس يديك قم ...الثّعبان يا ابراهيم يجثم بيننا ..أريد قتله حتى أكون لك ،
قم يا حبيبي، يا جملَ الصّبر الذّي تحمّلني أيّاماً وشهوراً.
انتزع نفسه يكتم أنين رجولته المنكسرة على أعتابها، يلملم ثيابه ، وتركها كامرأة خشبيّة الملامح ، مُنتزعة الرّوح ، تحاور نفسها بعينين جاحظتين ، وقد علق بصرها بسقف الغرفة دون أن يرفّ .
جلس على الشّرفة يحتسي كوباً من الشّاي ، يبتلع معه مرارة يزداد طعمها يوماً بعد يومٍ ..
يصوّب نظره نحو السّماء، يشكو أيّاماً كان يحسبها الأحلى والأجمل حين اكتمل حلمه ،، ولمّ شمله مع حبيبةٍ استرقتْهُ
منذ يفاعته ...ابنة عمّه زينب ..القمرة .. كما كان يكنّي عنها اختصاراً ..
لم يجرؤْ أحدٌ على الاقتراب منها ، حيث لفرط جنونه بها أخاط كفناً ، هدّد به كلّ من سمع ومن لم يسمع ..
صغيرة كانتْ حين أعلنها أميرة تزيّن بيته المليء بالورود والأحلام ..
لم يحسبْ حساباً لوجع أيّامٍ اختبأتْ خلف الأماني متماوجةٍ مع رقصات شموع القلب .
لم يعرف أن رجولته المتّقدة ستُقتَل على مذبحها ...، ما عاد يفهمها ، استبدلتْها اللّيالي بظلٍّ أصفرَ لامرأةٍ شاحبةٍ ،
تذبل ، تهذي ، تموت ببطءٍ ، تتملّكها قوّة شيطانيّة تدفعه عنها كلّما اقترب إليها ، ثائر الشّوق ، لتعود وتبكي بين أحضانه، تقبّل يديه بحنانٍ عجيبٍ يُذيب ما تبقّى من خافقه إشفاقاً عليها ، وعلى ذاته ، وعلى زّمانٍ غريبٍ تحوّل إلى لغزٍ سمجٍ ، ثقيلٍ،
لم يعدْ يحتمله.
يدها الملائكيّة حطّتْ برفقٍ على ظهره العاري ،إلاّ من قميصٍ صيفيّ رقيقٍ مندّى بعرق جسدٍ ما زال ينتفض بؤساً وقهراً وحرماناً ، ورجولةٍ تختنق بين عضلاته الهادرة.
قالتْ له : ابراهيم ...اسمعني ...يجب أن نفترق ، أعرف أنّي أقتلك، وأقتل نفسي قبلك ، أعرف أنّك تلعنني ، وأنّني أدميتُ قلبك الكبير أكثر ممّا يحتمل ، لقد قهرتُ رجولتك الشهيّة يا حبيبي أعرف ،ولكن ليت الأمر بيدي لفعلتُ وأسعدْتُك ..
ارحلْ يا ابراهيم عن حياتي بسلامٍ ...وعشْ مع امرأةٍ تقدّم لك عن طيب خاطرٍ ما عجزتُ عنه ، يجب أن تنتهي هذي المأساة ، وبأسرع وقتٍ ، هيّا ياابراهيم... لنفترق من غير وداعٍ ، أعدك بأنّي سوف أكون لك ، مهما امتدّ بي العمر ، ولن أكون إلاّ لك ، تذكّرْ ذلك جيّداً ...
واستدارتْ تلملم ُ أشياءها البسيطة في حقيبةٍ كانت متوضّعةً فوق خزانة الثياب ، نفس الحقيبة التي أتتْ بها ليلة زفافٍ لم تتمّ ، شاطرتها الأسرار ، وأغلقتها عن ملابس تعتصر دموعاً.
تشبّث بها من جديد ٍ ، زرع فيها لهيب أساطير عشقه اللّا محدود.
كانت كتمثالٍ جليديّ تذوب عيناه على صفحةٍ بيضاءَ ، ترتجف برداً ، وجعاً ،حطاماً ، زوالاً لمعالم وجهٍ يتلاشى ..
ألجمه إصرارها عن المحاولة ، قبّلتْه ، روتْ له قصائدَ حبّ وهو بين ذراعيها ،لم تستطع الإفلات من صدره ، شيء ما كان يناديها إليه ، ، يسحرها ، يجذبها ، يهدهدها ، صرختْ من أعماقها :ألف أحبّك ....سامحني
واتّجهتْ نحو الباب ، مكسورة الجّناح إلى دار أهلها، يرافقها بسيّارته المكشوفة المُعدّة لبيع الخضار .
عانقتْ أثير أمّها الرّاحلة عند الباب ...سمعتها تقول : هوّني عليك يا ابنتي ...أنا وحدي أعرف سرّك ..تعالي لحضني ..
جاء وقع الخبر على أبيها كالصّاعقة ، فرك ذقنه ذهولاً ، ومرارةً ، وخيبةً .
انسحب ابراهيم لمّا رأى نظرات العتب على عينيّ عمّه ..كأنه يقول أهكذا الأمانة يا ولدي ...؟؟؟لقد وضعتُ جوهرتي بين يديك فلم تصنْها .
تداركتْ زينب الأمر، قالتْ له : أبي ...كلّ شيء قسمة ونصيب ...خلّه يروح ...الله يوفّقه .
ضجّتْ القرية ... بعد أن أفشى الأب سرّه لبعض رفاقه في المقهى ،وانتثرتْ شظايا الفراق لتذهل أمسيات أهل البلد ، يحتسونها مع أكواب شايهم ، وبقبقة نراجيلهم ...وسحب أدخنتها التي وصلتْ إلى أعتاب النّساء ، ليلطمْنَ صدورهنّ باستغرابٍ ودهشةٍ ، ويصطنعن بخيالهنّ الواسع الاحتمالات كلّها ، ماعدا احتمال واحد كان طيّ الكتمان بين المفترقَين ...لا تعرفه سوى جدران غرفةٍ شهدتْ أسرار عشقٍ مذبوحٍ على حافّة السّرير .
أغلقتْ زينب الباب دونها ، استسلمَتْ لانتحارٍ يأكل بقاياها بفكّيه الغليظين ، خالطها صمت أوجع من الكلام يبّس شفتيها ، وذهول يزداد انسلاخاً عن الواقع ، ونحول هدّ خطواتها، حوّلها لهيكلٍ عظميّ يستره بعض جلدٍ..
وفي ليلةٍ مقمرةٍ ....جلستْ العمّات والخالات في صحن الدّار..كانت ترقبهنّ من خلف النّافذة ، لم تستبنْ منهنّ إلاّ أياديهنّ الخشنة ، ونعالهنّ التي تشهد أسقام حياتهنّ وكدحهنّ .
وأصوات متباينة بين الرّقة ،و الشدّة ،والغلظة ، تتوجّه إلى الأب الخائر حيرةً وإنهاكاً :
ابنتك ممسوسة يا حاج ...ابنتك معمولٌ لها عملٌ ، فرّقها عن زوجها ،وحبيبها، وابن عمّها ...لازم تفكّ السّحر عنها لازم ياحاج ، خذها للشيخ نعيم ...عنده الدّواء ..
ورحن يعدّدن الحالات التي كان سبباً في شفائها ..والخلاص منها بسرٍّ باتعٍ من السّماء ..
البنت هالة ، السيّدة أمّ خالد ،الولد طارق ،وسعد الفرّان ...
هزّ الأب رأسه موافقاً ، وكأنّه وجد الحلّ الضّائع عنه يحطّ برفقٍ بين يديه ، ونام هادئاً وقد بيّت العزم على اصطحابها باكراً إلى حيث قصد .
باتتْ سويعاتها في برزخٍ مجهولٍ بين الموت والحياة ، بين اللّيل والنهار ، بين العقل والجّنون ، لا قدرة لها على تجسيد اللّحظة، وارتداد ظلالها .
أشفقتْ على أبيها عندما قصد غرفتها ...بعد أن أدّى شعائر الصّلاة ، لمحتْه رافعاً كفّيه إلى السّماء تحت شجرة البرتقال الكبيرة في فناء الدّار ،يناجيها بدموعه ،بكلّماتٍ حرّك فيها شفتيه دون أن ينطقها ، ولكنّها فهمتها لأنّه أجهش بالبكاء لمّا نطق اسمها: ياااارب زينب يااارب ...تولّها بعونك ياااااارب ..
كآلةٍ صمّاءَ ارتدَتْ ملابسها فاقدة الإحساس ...تبتغي الخلاص من عالمٍ سفليّ يجذبها للأرض السّابعة ..تبتغي معجزة تنتشلها .
نقراتُ عمّتها الكبرى على الباب جعلتْ الأب يهرول مسرعاً لفتحه .تساعدا معاً على إسناد جسد زينب ، حيث نبض قلبها يخترق ذراعيها لينتقل إلى دم الأب والعمّة ، وقد أصابتهما ارتجافات تجسّدتْ أكثر حين استمعا إلى عبارات الشيخ وهو
يستحثّ نار الموقد النحاسيّ اشتعالاً ، وقد ارتفعتْ الأبخرة كسُحُبٍ مهلوسة فوق الرؤوس حين قال:
حرام عليكم ....الآن جئتم بها البنت تموت ..قبيلة من العفاريت تسكنها ..علاجها صعبٌ ، يتطلّب الوقت ، والجّهد ،والمال.
العمّة بإذعانٍ تامّ ورضوخٍ سارعتْ تلهث بحروف متقطّعة:
لكم ما شئتم يا أسيادنا ، نحن بالخدمة يا سيدي الشيخ ، افعل ما تشاء ..
ولأنّ القرية بعيدة ٌ واستهلكتْ شطراً من النّهار ، كانت الجّلسة مكثّفة ، قوية ، وصاعقة ..
تقدّمتْ زينب كعصفورة مهيضة الجّناح ، إلى الجلاّد المستتر خلف العباءة ، يتلو شعوذاته ،حتى صارتْ مغيّبة ، ولم تستفق إلاّ على صبّ الماء فوق وجهها ، كانت مربوطة الأطراف ، جسدها النّحيل مُثقَلٌ بجروحٍ تنزّ من عصا جبّارة كانتْ تنهال عليه بلا رحمةٍ كي تطرد الجانّ .
ما عاد فيها من صوتٍ لتقول آاااااه ، كلّ ما فيها يقولها ....
تفطّر كبد مرافقَيها ألماً عليها، على تعذيبها الشاهداه وهي مسجّاة ، كأنّ أوجاع قلبها غطّت على قروح جسدها فما عادت تشعر .
وصلوا باب الدّار...جموعٌ من الأقارب كانت تنتظر عودتهم ، إشفاقاً وفضولاً لحبْك حكايات جديدة يتسامرون بها عند العشيّات على مصاطب بيوتهم .
لمحته بينهم ، شمّتْ رائحته النّتنة ، تطاير ريش الدّجاج ، تلوّى ثعبان القنّ أمام ناظرها ، والتمع نصل السّكين قرب خاصرتها ،لبستها روح جنيّةٍ خارقة القوى ، أفلتتْ يديها كالرّيح نحوه ، أمسكتْ بزجاجةٍ مركونةٍ على حوض وردٍ ، كسرتها ، صوّبتها نحو رقبته كالملسوع صارخةً :
اخرج من بيتنا يا كلب ...اخرج يا كلب ..سوف أقتلك ، وراحت تمزّق فيه ما تطوله يداها بلا توقّفٍ ...
سحبتها النّسوة بعيداً بصعوبةٍ لشدّة مقاومتها وهنّ يولولْن ، ضرب الرّجال أكفّهم ببعضها وهم يقولون :
لاحول ولا قوّة إلاّ بالله ...جُنّتْ المرأة..أسعفوه للمشفى ...سيموت الرّجل ...هيّا بسرعة ..
التفَتتْ إلى المرأة التي كانت تجذبها ...تضربها ...تعانقها ..ثمّ تلعنها وهي تقول : لماذا يا أختي ...قتلْتِ زوجي ..؟؟لماذا؟
لمحتْ بذعرٍ ثوبها الأسود ، وشعرها الأشعث البليد ينزاح عنه الغطاء ، بان قرطها وعقدها ، سمعتْ فيها خوار البقر وشمّتْ رائحته ، دفعتها عنها بجنون قائلة: ابتعدي عني أنت لستِ أختي أيتها الحمقاء...ابتعدي عني...
وارتطمتْ بالّجدار متوجّهة نحو عتبة البيت ، وصوت ثور جريح يتخبّط بدمه مستنجداً ...تغلق عنه الستار..
فتحتْ الباب مشرّعاً تنادي ...
أتيتك يا ابراهيم ...قتلْتُ الثّعبان يا ابراهيم ...الآااااااان .....أنا لك ياابراهيم ........
ابعدْ ابراهيم أرجوك..
تجاهل استغاثتها المسائيّة التي حفرتْ قلبه بالأسى منذ شهورٍ مضتْ ...علّها تهدأ ،وتنام بدعةٍ حيث تسكن وتقيم .
أغمضتْ عينيها للحظات ...حاولتْ أن تتناسى سياط قهرٍ أدمتْ جسدها ، قفزتْ إلى روحها تعرّجات في الذّاكرة ،
ومضتْ ثمّ اشتدّتْ ....واشتدّتْ حتى أطبقتْ على رقبتها ...أحسّتْ بالاختناق..
شمّتْ رائحة شهوانيّة نتنة ، وتراقص أمامها خراب قنّ فوق السّطوح ، وريش دجاجٍ يتطاير ، والتماع نصلٍ يكاد يحفر خاصرتها ، ويد تضغط كالزّناد بقوّة على فمها ، وجسدٍ كالثّعبان قويّ العضلات يبتلع براءتها ، ونزف صوتٍ يتّجه للدّاخل نحو حشايا ترتجف ولا تقوى على الإفصاح.
إنّها تراها الآن بوضوحٍ ، بثوبها الأسودِ الطّويلِ ، وهي تحلب ببلاهةٍ الأبقار في البيت الطّينيّ العتيق ، تشاطرها الخوار ، وتحمل رائحتها إلى مائدة الفطور .
ترى بوضوحٍ قرطها الذّهبيّ المتناغم مع عقدٍ ثمينٍ ورثته عن أمّها ، وغطاء رأسٍ ينزاح عن شعرٍ أشعثَ زادتهْ فوضى الزّمان عبثاً وبلادةً .
سمعتْ ضحكات الشّيطان تتعالى على صورتين : الأولى تبكي انتهاكاً ، والأخرى تئنّ تعباً وخواء ..
انزلقَتْ يده تعانقها بإصرارٍ ، تجذبها لتلتحم في جدران أوردته ...
وبحركةٍ لا شعوريّةٍ نفضتْهُ عنها ..لقد مسّها الرّعب فما عادتْ تُطيق :
قم يا ابراهيم أرجوك قالت له : أبوس يديك قم ...الثّعبان يا ابراهيم يجثم بيننا ..أريد قتله حتى أكون لك ،
قم يا حبيبي، يا جملَ الصّبر الذّي تحمّلني أيّاماً وشهوراً.
انتزع نفسه يكتم أنين رجولته المنكسرة على أعتابها، يلملم ثيابه ، وتركها كامرأة خشبيّة الملامح ، مُنتزعة الرّوح ، تحاور نفسها بعينين جاحظتين ، وقد علق بصرها بسقف الغرفة دون أن يرفّ .
جلس على الشّرفة يحتسي كوباً من الشّاي ، يبتلع معه مرارة يزداد طعمها يوماً بعد يومٍ ..
يصوّب نظره نحو السّماء، يشكو أيّاماً كان يحسبها الأحلى والأجمل حين اكتمل حلمه ،، ولمّ شمله مع حبيبةٍ استرقتْهُ
منذ يفاعته ...ابنة عمّه زينب ..القمرة .. كما كان يكنّي عنها اختصاراً ..
لم يجرؤْ أحدٌ على الاقتراب منها ، حيث لفرط جنونه بها أخاط كفناً ، هدّد به كلّ من سمع ومن لم يسمع ..
صغيرة كانتْ حين أعلنها أميرة تزيّن بيته المليء بالورود والأحلام ..
لم يحسبْ حساباً لوجع أيّامٍ اختبأتْ خلف الأماني متماوجةٍ مع رقصات شموع القلب .
لم يعرف أن رجولته المتّقدة ستُقتَل على مذبحها ...، ما عاد يفهمها ، استبدلتْها اللّيالي بظلٍّ أصفرَ لامرأةٍ شاحبةٍ ،
تذبل ، تهذي ، تموت ببطءٍ ، تتملّكها قوّة شيطانيّة تدفعه عنها كلّما اقترب إليها ، ثائر الشّوق ، لتعود وتبكي بين أحضانه، تقبّل يديه بحنانٍ عجيبٍ يُذيب ما تبقّى من خافقه إشفاقاً عليها ، وعلى ذاته ، وعلى زّمانٍ غريبٍ تحوّل إلى لغزٍ سمجٍ ، ثقيلٍ،
لم يعدْ يحتمله.
يدها الملائكيّة حطّتْ برفقٍ على ظهره العاري ،إلاّ من قميصٍ صيفيّ رقيقٍ مندّى بعرق جسدٍ ما زال ينتفض بؤساً وقهراً وحرماناً ، ورجولةٍ تختنق بين عضلاته الهادرة.
قالتْ له : ابراهيم ...اسمعني ...يجب أن نفترق ، أعرف أنّي أقتلك، وأقتل نفسي قبلك ، أعرف أنّك تلعنني ، وأنّني أدميتُ قلبك الكبير أكثر ممّا يحتمل ، لقد قهرتُ رجولتك الشهيّة يا حبيبي أعرف ،ولكن ليت الأمر بيدي لفعلتُ وأسعدْتُك ..
ارحلْ يا ابراهيم عن حياتي بسلامٍ ...وعشْ مع امرأةٍ تقدّم لك عن طيب خاطرٍ ما عجزتُ عنه ، يجب أن تنتهي هذي المأساة ، وبأسرع وقتٍ ، هيّا ياابراهيم... لنفترق من غير وداعٍ ، أعدك بأنّي سوف أكون لك ، مهما امتدّ بي العمر ، ولن أكون إلاّ لك ، تذكّرْ ذلك جيّداً ...
واستدارتْ تلملم ُ أشياءها البسيطة في حقيبةٍ كانت متوضّعةً فوق خزانة الثياب ، نفس الحقيبة التي أتتْ بها ليلة زفافٍ لم تتمّ ، شاطرتها الأسرار ، وأغلقتها عن ملابس تعتصر دموعاً.
تشبّث بها من جديد ٍ ، زرع فيها لهيب أساطير عشقه اللّا محدود.
كانت كتمثالٍ جليديّ تذوب عيناه على صفحةٍ بيضاءَ ، ترتجف برداً ، وجعاً ،حطاماً ، زوالاً لمعالم وجهٍ يتلاشى ..
ألجمه إصرارها عن المحاولة ، قبّلتْه ، روتْ له قصائدَ حبّ وهو بين ذراعيها ،لم تستطع الإفلات من صدره ، شيء ما كان يناديها إليه ، ، يسحرها ، يجذبها ، يهدهدها ، صرختْ من أعماقها :ألف أحبّك ....سامحني
واتّجهتْ نحو الباب ، مكسورة الجّناح إلى دار أهلها، يرافقها بسيّارته المكشوفة المُعدّة لبيع الخضار .
عانقتْ أثير أمّها الرّاحلة عند الباب ...سمعتها تقول : هوّني عليك يا ابنتي ...أنا وحدي أعرف سرّك ..تعالي لحضني ..
جاء وقع الخبر على أبيها كالصّاعقة ، فرك ذقنه ذهولاً ، ومرارةً ، وخيبةً .
انسحب ابراهيم لمّا رأى نظرات العتب على عينيّ عمّه ..كأنه يقول أهكذا الأمانة يا ولدي ...؟؟؟لقد وضعتُ جوهرتي بين يديك فلم تصنْها .
تداركتْ زينب الأمر، قالتْ له : أبي ...كلّ شيء قسمة ونصيب ...خلّه يروح ...الله يوفّقه .
ضجّتْ القرية ... بعد أن أفشى الأب سرّه لبعض رفاقه في المقهى ،وانتثرتْ شظايا الفراق لتذهل أمسيات أهل البلد ، يحتسونها مع أكواب شايهم ، وبقبقة نراجيلهم ...وسحب أدخنتها التي وصلتْ إلى أعتاب النّساء ، ليلطمْنَ صدورهنّ باستغرابٍ ودهشةٍ ، ويصطنعن بخيالهنّ الواسع الاحتمالات كلّها ، ماعدا احتمال واحد كان طيّ الكتمان بين المفترقَين ...لا تعرفه سوى جدران غرفةٍ شهدتْ أسرار عشقٍ مذبوحٍ على حافّة السّرير .
أغلقتْ زينب الباب دونها ، استسلمَتْ لانتحارٍ يأكل بقاياها بفكّيه الغليظين ، خالطها صمت أوجع من الكلام يبّس شفتيها ، وذهول يزداد انسلاخاً عن الواقع ، ونحول هدّ خطواتها، حوّلها لهيكلٍ عظميّ يستره بعض جلدٍ..
وفي ليلةٍ مقمرةٍ ....جلستْ العمّات والخالات في صحن الدّار..كانت ترقبهنّ من خلف النّافذة ، لم تستبنْ منهنّ إلاّ أياديهنّ الخشنة ، ونعالهنّ التي تشهد أسقام حياتهنّ وكدحهنّ .
وأصوات متباينة بين الرّقة ،و الشدّة ،والغلظة ، تتوجّه إلى الأب الخائر حيرةً وإنهاكاً :
ابنتك ممسوسة يا حاج ...ابنتك معمولٌ لها عملٌ ، فرّقها عن زوجها ،وحبيبها، وابن عمّها ...لازم تفكّ السّحر عنها لازم ياحاج ، خذها للشيخ نعيم ...عنده الدّواء ..
ورحن يعدّدن الحالات التي كان سبباً في شفائها ..والخلاص منها بسرٍّ باتعٍ من السّماء ..
البنت هالة ، السيّدة أمّ خالد ،الولد طارق ،وسعد الفرّان ...
هزّ الأب رأسه موافقاً ، وكأنّه وجد الحلّ الضّائع عنه يحطّ برفقٍ بين يديه ، ونام هادئاً وقد بيّت العزم على اصطحابها باكراً إلى حيث قصد .
باتتْ سويعاتها في برزخٍ مجهولٍ بين الموت والحياة ، بين اللّيل والنهار ، بين العقل والجّنون ، لا قدرة لها على تجسيد اللّحظة، وارتداد ظلالها .
أشفقتْ على أبيها عندما قصد غرفتها ...بعد أن أدّى شعائر الصّلاة ، لمحتْه رافعاً كفّيه إلى السّماء تحت شجرة البرتقال الكبيرة في فناء الدّار ،يناجيها بدموعه ،بكلّماتٍ حرّك فيها شفتيه دون أن ينطقها ، ولكنّها فهمتها لأنّه أجهش بالبكاء لمّا نطق اسمها: ياااارب زينب يااارب ...تولّها بعونك ياااااارب ..
كآلةٍ صمّاءَ ارتدَتْ ملابسها فاقدة الإحساس ...تبتغي الخلاص من عالمٍ سفليّ يجذبها للأرض السّابعة ..تبتغي معجزة تنتشلها .
نقراتُ عمّتها الكبرى على الباب جعلتْ الأب يهرول مسرعاً لفتحه .تساعدا معاً على إسناد جسد زينب ، حيث نبض قلبها يخترق ذراعيها لينتقل إلى دم الأب والعمّة ، وقد أصابتهما ارتجافات تجسّدتْ أكثر حين استمعا إلى عبارات الشيخ وهو
يستحثّ نار الموقد النحاسيّ اشتعالاً ، وقد ارتفعتْ الأبخرة كسُحُبٍ مهلوسة فوق الرؤوس حين قال:
حرام عليكم ....الآن جئتم بها البنت تموت ..قبيلة من العفاريت تسكنها ..علاجها صعبٌ ، يتطلّب الوقت ، والجّهد ،والمال.
العمّة بإذعانٍ تامّ ورضوخٍ سارعتْ تلهث بحروف متقطّعة:
لكم ما شئتم يا أسيادنا ، نحن بالخدمة يا سيدي الشيخ ، افعل ما تشاء ..
ولأنّ القرية بعيدة ٌ واستهلكتْ شطراً من النّهار ، كانت الجّلسة مكثّفة ، قوية ، وصاعقة ..
تقدّمتْ زينب كعصفورة مهيضة الجّناح ، إلى الجلاّد المستتر خلف العباءة ، يتلو شعوذاته ،حتى صارتْ مغيّبة ، ولم تستفق إلاّ على صبّ الماء فوق وجهها ، كانت مربوطة الأطراف ، جسدها النّحيل مُثقَلٌ بجروحٍ تنزّ من عصا جبّارة كانتْ تنهال عليه بلا رحمةٍ كي تطرد الجانّ .
ما عاد فيها من صوتٍ لتقول آاااااه ، كلّ ما فيها يقولها ....
تفطّر كبد مرافقَيها ألماً عليها، على تعذيبها الشاهداه وهي مسجّاة ، كأنّ أوجاع قلبها غطّت على قروح جسدها فما عادت تشعر .
وصلوا باب الدّار...جموعٌ من الأقارب كانت تنتظر عودتهم ، إشفاقاً وفضولاً لحبْك حكايات جديدة يتسامرون بها عند العشيّات على مصاطب بيوتهم .
لمحته بينهم ، شمّتْ رائحته النّتنة ، تطاير ريش الدّجاج ، تلوّى ثعبان القنّ أمام ناظرها ، والتمع نصل السّكين قرب خاصرتها ،لبستها روح جنيّةٍ خارقة القوى ، أفلتتْ يديها كالرّيح نحوه ، أمسكتْ بزجاجةٍ مركونةٍ على حوض وردٍ ، كسرتها ، صوّبتها نحو رقبته كالملسوع صارخةً :
اخرج من بيتنا يا كلب ...اخرج يا كلب ..سوف أقتلك ، وراحت تمزّق فيه ما تطوله يداها بلا توقّفٍ ...
سحبتها النّسوة بعيداً بصعوبةٍ لشدّة مقاومتها وهنّ يولولْن ، ضرب الرّجال أكفّهم ببعضها وهم يقولون :
لاحول ولا قوّة إلاّ بالله ...جُنّتْ المرأة..أسعفوه للمشفى ...سيموت الرّجل ...هيّا بسرعة ..
التفَتتْ إلى المرأة التي كانت تجذبها ...تضربها ...تعانقها ..ثمّ تلعنها وهي تقول : لماذا يا أختي ...قتلْتِ زوجي ..؟؟لماذا؟
لمحتْ بذعرٍ ثوبها الأسود ، وشعرها الأشعث البليد ينزاح عنه الغطاء ، بان قرطها وعقدها ، سمعتْ فيها خوار البقر وشمّتْ رائحته ، دفعتها عنها بجنون قائلة: ابتعدي عني أنت لستِ أختي أيتها الحمقاء...ابتعدي عني...
وارتطمتْ بالّجدار متوجّهة نحو عتبة البيت ، وصوت ثور جريح يتخبّط بدمه مستنجداً ...تغلق عنه الستار..
فتحتْ الباب مشرّعاً تنادي ...
أتيتك يا ابراهيم ...قتلْتُ الثّعبان يا ابراهيم ...الآااااااان .....أنا لك ياابراهيم ........
************************************************** ******************************انتهتْ في 11/11/2010
تعليق