لعنة
1
تمكن صراخها أن يبتلع الوادي الفسيح , تردد صداه بين جنباته الواسعة.
هدأت فترة ثم جاءت صرخة أخرى فتلتها أخرى , ثم لحظة صمت وسكون ضعيفة لا حول لها ولا قوة .. أخيراً استبدلتها باستغاثة حادة دامت طويلا ..
لم تجد إحدى الحاضرات مفرًا من رجاء القابلة أن تترفق معها ..
المسكينة ملقاه على رمال أحد أركان الفناء الفسيح .. تطحن بأصابعها فيه كأن نعومته لم تكتمل بعد .. أظافرها شكلت رسومًا ومخطوطات تشابهت إلى حد كبير مع رموز الحجر الفرعوني .. أما توسلاتها فأعظم من الرواسي الممتدة على الجانبين , ولكن الغجرية قاسية مثل الأسد الموشوم على ساعدها الأيمن وأشد غباءً من الغراب المدقوق فوق جبهتها!
2
بزغ الفجر .. دارت الرحى وابتلت المساقي وأصبح الطحين عجينا وُزع أقراصا بحجم فطائر العسل يسعد نساء الوادي , وكهيئة الطير يُسر به الأطفال .
فرغ من الصلاة حاضرا , وتوجه إلى المقام مستقبلا عظمة ربه في خشوع .. تبلبلت أموره واضطرمت ناره على زوجته المطروحة في الفناء بين الحياة والموت .
مال بنصفه الأعلى على أحد جوانب الضريح فنبتت دمعتان ماهرتان قفزتا على الأرض منتحرتين ؛ فالمرأة قد تموت والمولود لا يصل إلى الحياة والغجرية لا تعرف الرحمة ! .. ذكر الجعفري في نفس الصفحة من المخطوط الأول أن الضريح موجود أسفل الوادي .. !
3
اهتز جسد الرجل كاملا وربما اهتز المقام .. دار حوله سبعا عجاف .. أدركته الحمى .. ساوى مقعدته بالأرض ونظر إلى الجدار , فارتفع منسوب العرق بجبهته وملكته الرعشة .. أخذ نفسا عميقا , فاشتدت الريح برأسه .. خرجت من أذنيه وأنفه .. شطرت دماغه فلقتين .. ارتفعت بإحداهما لأعلى .. لأعلى .. وانخفضت بالأخرى لأسفل السافلين!
أسعفتني الذاكرة ـ حفظها الله ـ أن هيئةالآثار كانت قد أدلت بمنشور ضخم لوكالات الأنباء المختلفة عن اكتشاف قرية كاملة في نفس المنطقة .. وجاءني الإحتمال الأول أن الخبر صحيحا حيث اقترابها من البحر ..!
4
أحيانا كانت تشتد الموجة برأسه , فيرى البحر تحترق به أطواداً شامخة من اللهب وأخرى كالتلال .. فتعلو الألسنة وتنهش في السماء ثم تهمد لتبتلعها الرمال .. وهكذا الأمواج تموت ... !!
5
استشاط مخي مثله عندما جاءه الصوت منبعثا من جميع الأركان :
ـ ميـــن ؟!
اندفعت الكلمة كلسعة كهربائية أصابته فجعلته يصرخ بداخله .. يطفو ويغطس في عرقه كالغريق :
ـ مكروب
ـ يعني مجذوب! .. عايز إيه ؟
ـ سيدنا .. أنا صاحبه
ـ سيدي مالوش أصحاب
ـ صدقني أنا صاحبه
ـ تبقى ملعون ولو طالب الستر ابعد عن القبر
ـ عايزه يسمعني .. ليه اللعنة ؟
ـ سيدنا مايسمعش ملاعين وأمرني أبعدك
ـ حاورك في المقام ؟
ـ في المنام .. روح يا مريض
خرج إلى الخلاء مرتميا بأحضان القبور , ومبعثرا نظراته على بوارزها ..
في نفس المخطوط أكد الجعفري أن الفتنة قد شاعت بين السكان وأن الملعون حاول التعدي على حرمة الضريح .لا شك أن الخبرصحيح من كلام الغجرية للوصيفة :
6
ـ الرجل اتخبل ف دماغه وراح يعاديهم .. والنبي ماهيسبوه
ـ كـأنه فاكر إن القبة مافيهاش حد ؟ دا حتى شيخها يقدر يإذيه
ـ حصل .. ومراته كانت هتموت مني في الطلق الأخير , لولا الفاتحة وسورةالبلد .
بينما المرأتان تتجرعان من منهل الفتنة سمعتا صراخها يلاطم الردهات ـ تسأل عنه ـ فأكدت لها الغجرية أنه خرج منذ صلاة الفجر .. ارتسمت على وجهها بسمة باهتة تنم عن ارتياحها بعض الشئ :
ـ الحمد لله .. قاللي ليلة امبارح انه هيزور الولي ويدعيلي هناك .
اعترضتا السيدتين لما بينته الزوجة بحركات شفاهية آلية ذات اليمين وذات الشمال .
7
القبور وخشخشة عظام الموتى تئن بتأوهات مفزعة للصدر .. جلس الرجل بين الموت وبدأ يتنفسه .. رائحته بكل مكان .. هو الموت .. لا رؤية إلا له والمقابر .. التوابيت .. المحامل والنعوش .. كلها تحمل في أجوائها الموت المبين .. ولا صوت إلا وفيه الفزع وآنات الموتى .. كل الأصداء لا صوت لها غير جعجعة الموت وجرذ صغير .. من قال إن القبور أهدأ الأماكن ؟! إنها ضوضاء مرعبة .. لا حياة فيها إلا للموت ذلك المخلوق القوي الذي لا يقهره إلاالموت !!
تغيب الرجل عن المنزل بضعة أيام ولم يعد .. أذيعت الشائعات بين الناس وانتشرت الفتنة .. قيل : بعد محاولته التعدي على حرمة الأولياء أصابه مكروه ..
انتشرت رائحة الخبر لكل الأنوف , وصلت لأنف جليس المقابر وتأكد ان حياته مهددة بينهم وسيظل لأمد الحياة مطروحا بين القبور .
خرج الدرويش إلى الوادي وأكد صحة ما قيل .. متفننا بروايات عن سيده , تجاهلت الزوجة ما ورد وحكت لهم عن حب الولي له :
8
بعد وفاة الولي جاءها زوجها ذات ليلة وأنبأها أنه الوحيد الذي يصلح لحماية الضريح والسهر على نظافته , آنذاك .. وعندما فرحت بالقسط الأكبر من كراماته .. باتت ليلتها ورأته رؤيا العين يبشرها بالغلام .. لم يمض الكثير حتى حبلت وأصابها الوحم .. لم تكتف بإخبار زوجها .. جالت في الوادي وحكت للنسوة ..
علمت العجوز بالأمر .. استعجلت المبادرة لينال زوجها العاطل وسام الدروشة .. ومنذ ذلك أصبحت الغجرية العجوز هي أول من يبارك المولود ويختنه , وتغسيل وتكفين من يختارهم الله ..
الغريب أن الجعفري في الفصل الأخير أورد خروج الرجل إلى الأضرحة ثم انزوى في أحد المعابد حتى تمكنت منه الحمى فمات مسلولا .. على عكس ما ذكره الدكتور عبد المنعم أستاذ التاريخ والآثار في محاضرته مؤكدًا أن الاكتشاف الأخير للهيئة كان لمومياء شخص في العقد الرابع حاول سرقة المعبد فأصابته اللعنة ..
تعليق