حين تؤوب الحمائم البرية إلى أعشاشها , في غصون شجرة الطرفاء , التي تظلل الفناء المترامي, تكون الشمس الغاربة , قد خلفت وراءها بواكير الظلام , فألقت بوهم السكينة, فوق دور القرية, وكثبانها الناعمة, التي طوقتها الواحات الغناء , المختنقة ,ساعة الأصيل , بوحشة قاتمة , إيذان صامت ومهيب , على ذرى النخيل , بطي نهار صيفي قاس .
غير أن مسرحا من الفوضى , ينبثق لوقت وجيز , يتخذ شعاره في ذلك الغبار الأبيض المتصاعد , الذي تجره وراءها قطعان الشياه العائدة من الصحراء, يملأ ثغاؤها المدى , ويربك الظلام الغض. لكن الحركة المحمومة, ما تلبث أن تنهار على عجل , كنار شبت في الهشيم , وذلك حين تكون الشويهات المتعبة , قد سكنت, بعد تناحرها القاسي, حول قصعة العلف , مثيرة في القلب , زوبعة من الحنين.
الفناء المترامي, تقبع في ناحية منه غرفتان , تتراقص فوق جدرانها, جميع الأطياف الباهتة لألوان الطين , الموحية برقرقة المياه.
فوق الجدران الهشة, تتلاعب الأخاديد , رقيقة منسابة,كأنهار عطشى, لتؤرخ لزخات المطر الهاطلة على مر السنين, هنالك يحتمي الشيخ العجوز , من قساوة البرد, ولفح الهجير , رفقة حفيدته اليتيمة..التي يدعوها’’ أميمتي ’’ . السكينة , في هذه الديار ,هي السمة الأبدية.
بدا الشيخ الوقور, خلال سنواته الأخيرة, أكثر شعورا, بأمومة هذه الحفيدة الصامتة, علمته من حيث لا تدري , أن الأنثى وإن كانت برعما غضا , لا تملك إلا أن تكون نبعا للأمومة, وأنه لن يقدر بدونها على تجاوز ضعفه وأشجانه... لم تكن كثيرة الكلام, لتفتعل فنون المواساة, كانت واهنة كالأحلام , غير منظورة, ولعلها لم تكن آية في الجمال , ولا من اللواتي يتقن فن السحر بالعبارات, لتنشر جاذبيتها الدفينة , فالصمت منها والغياب ما كانا متعمدين , لا تغيب عن كافة أفراح القرية وأحزانها , دون ضجيج , لا تتبرج أو تتزين , تسر همسها , وتبسم ,بصوتها الخفيض , وابتساماتها العذبة النادرة , ولفتاتها الحانية, لنداءات رفيقاتها اللواتي يهمن بها, دون أن تكون لها صديقة مميزة.
كانت حين ترد رفقة أترابها إلى مجرى النبع , تستمع إلى همسات النسيم على شفاه الواحات, وكأنها تقول لها دون غيرها : طافت بي روحك العذبة فألهمتني , مرت على أطياري فأيقظتها, وعلى مياهي برفيف النسيم فبعثرتها.....وعلى الدوالي فأسكرتها..........فكيف لا .....يشدو بوحي...لشذى العطر, في بوحك الصامت ؟... تمر السنوات سراعا.. وتخلط الريح كل أوراق الشجر, فيعود لكل وردة نصيبها من فراشات الربيع , كانت سعيدة حقا في داخلها لكل الأفراح, ولا يبدو عليها بمرور الأيام, التعب ولا الذبول من وحدتها
العجيبة , خاصة إثر وفاة جدها , الذي كانت’’ أميمتي’’ تداعب خصلات شعره البيضاء.
ما كان بالإمكان التأكد من مدى حزنها لفراقه المفاجئ. كان لصمتها الذي بدا خال من التعبير....ألف وجه وسؤال, كانت صبورة كزهرة ظامئة قرب مجرى النبع.. حلت عجوز مقعدة, مكان جدها الفقيد..ومرت الأيام برتابتها.... لم تكن لتشعر بالغيرة أو الألم, لمرور قافلة الأفراح الصيفية أمام وحدتها... فخفقات قلبها مشغولة بأسرار لا يدرك لها كنه , وكأن قوافل القمر لم تكن تعنيها؟.
كانت تحيى كالنور الذي يخترق صدر الغابة مخفيا بين الأغصان وصفاء المياه....فلا تجرؤ أقرب صديقاتها أن يسألنها لماذا لم تكن تتزين..ولعلها لم تكن تكتحل أيضا.
كن على خلافها حزينات, وينقصهن الكثير من الألق, كي يجلين للأبصار....لذلك حاولن تجاهلها, كما تتجاهل العين خيوط الشمس, ولو فكرت بالرحيل...لعمت العتمة القرية , وحجب الضياء تحت شجن غيابها والأسى , إنها النور الذي يسير الجميع تحت لوائه, ولا أحد يتمكن من الإمساك بشعاعه.....وها هي في آخر خطوة من طرقات الصيف المقمرة...... تجلس أخيرا عروسا بدون حزن أو سعادة........بدا الأمر في غاية الغرابة والارتباك.....إنتشر الخبر كالحريق , القرية بأسرها في الفناء المترامي , ولن يتغيب أحد....وهذا العريس الجالس إلى جوارها, بدا خال من العيوب الظاهرة , وربما أيضا من أية خصال خفية........كيف جاء وكيف تسارعت الأحداث....التي لفتها يد الغرابة....هل وافقت وهي التي لا ترفض ولا توافق....إلا في سرها, أين يقبع جواب الصمت ....وكيف كسر تتابع الأحداث الزمن بسرعته الغريبة , وانكسرت القرية في سر أسرارها الغامض.....على يد هذا الغريب المعتم ....لم تكن تراه, وهي غارقة في زينتها ,التي تفننت كل نساء القرية الصغيرات في رسمها, إعترافا منهن بالجميل, الذي كانت تسديه إليهن طوال السنين , بمحبة وإخلاص .
بدت ’’مثل درة صدفية في يد الغواص يجلو عن وجهها الصدف’’..وبدا العريس.. غارقا في عالمه المعتم, مبتهجا يزور عيون الحاضرين, ويعانقها. كانت هي لا تراه , من شدة النور الذي تجلس فيه , وكان هو لا يبصرها من حلك الظلام الذي خيم عليه ......وسحرها الذي لم يكن للزينة دخل فيه.....أضاء المكان .....وذالك فقط بسبب تعرضها الطويل لأنوار جلستها المكشوفة ....الخجل الذي يزور وينام.....كل هذا السطوع الذي أخرجها من دفئ سنين الغياب...أنطق روحها بسحر طالما خفي, دون أن تجتهد في إخفائه ...ولعل الجميع واقع لا محالة تحت تأثير سحره الفياض.
لم تشهد تلك الساحة الكبيرة , حضورا للراقصين, وهياما جماعيا كما هو الحال الآن...الحفل في ساعاته الأخيرة.....والعروس التي لم يكن يبدو عليها أنها ترى أحدا...تسير بين اثنتين من صديقاتها, وحيدة إلى وسط الساحة ....فالمتبسم الأجوف, ظل هنالك في عالمه السعيد, وقد أدرك من خلال قوى خفية , أن لا وجود له , ولا موقع , في روعة المسرحية الأسطورية..... من الذي سيرافق العروس في رقصتها إذا...؟ شبان القرية المتأنقون, وقد أسكرهم جلال هذا البدر الطالع...بأعينهم بريق الحياة, يلحظ لأول مرة ويفيض.....ألم تكن ....هذه الأنثى التي تنبثق كخيط من خيوط الشمس ..أمامكم لسنين...؟ كيف لم تلحظوها ؟.
توسطت الساحة, الأطفال جاثون على الركب , والنساء اللواتي كن في عالم آخر.. يغشاهن النعاس, وقد انحسرن كورقات من الورد, ساقها تيار خفيف من ماء النهر.....والكهول...تحلقوا في حنين....وندم..؟..كانت وحدها. أكانت ترقص ؟..... كانت تميس بغاية الكسل , تحت وهج الأنوار التي ترافق مسيرها, هنا في هذا الليل القمري البهيج , ترتسم خطاها الآتية من عالم الأحلام ....وحدهم الفتيان تحلقوا زنارا كالهالة القمرية قرب سحرها..في سكون مأخوذين برجع خفقات قلوبهم المسحورة ...جلست بأثوابها البيضاء النقية...كزنبقة...وسط أزهار البراري.....أغضت حياء, وقد أخفت رأسها الحالم بيديها المائيتين , وإشراقتها الملائكية, المنسابة كنغم يهل من الماضي , فغشي النعاس, أشد العاشقين هياما على ركبتيها, كطفل عليل , وأمام هبوب رياح الحنين , تناثرت جميع وريقات أزهار اللوز..طافوا حولها, وناموا, سكروا , جثا الجميع, هل كانوا...مسحورين..؟ لآلئ الدمع على الثوب الأبيض....لم تكن حتما ...دموعها.
كان أكبر نهر للدموع , يشق القرية, تحت سماء من غيوم الأماني العذراء, التي تكلل ....ليالي الريف الساحرة. بيديها الغائمتين , كانت تمسح الأسى على جبين وخصلات, كل فتى منهم.....كانت كأم تحتضر...وقد تحلق صبيتها من حولها خاشعين, لتمر وحيدة إلى منتهى إغفاءتها الأبدية.
تعليق