مبروكة لمحمد محضار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد محضار
    أديب وكاتب
    • 19-01-2010
    • 1270

    مبروكة لمحمد محضار

    مبروكة جزء من ذاكرة المدينة... هي الآن مجرد بقايا اِمرأة، بعد أن أنهكتها السنون ونال منها المرض والوجع.. لكنها ما تزال متشبثة بالحياة.. والحياة ما تزال متشبثة بها.. اِختار لها بعض ماسحي الأحذية مكانا عند ناصية زنقة الحمام.. بالقرب من دكان السي قاسم بائع السجائر أو "مول الصاكة" كما يحلو لها أن تسميه.. ونصبوا لها ما يشبه الخيمة الصغيرة، تقيها من قساوة البرد، وغزارة المطر.. كانت مبروكة قد أصيبت بكسر- منذ عشرين سنة- جعل حركتها صعبة، فهي لا تخطو دون الإستعانة بعكازين خشبيين .كنت كلما مررت بها سمعتها تردد :"ذهب الرجال.. وبقي الأنذال.." فأقترب منها، وأنفحها ببعض الدريهمات، فتغمرني بدعواتها ثم تكرر لازمتها المعتادة "ذهب الرجال وبقي الأنذال" وتتابع بامتعاض "أنظر إلى هذه المدينة اللئيمة إنها تفقد كل تلك القيم الجميلة التي كانت تميزها.. لم يعد هناك من يسأل عن المسكين المعدم مثلي.. ولا من يأخذ بيده..".
    حدثني اسي قاسم في شأنها فقال :"مبروكة كانت واحدة من جميلات هذه المدينة في أربعنيات القرن الماضي .. وكنا نحن شباب تلك الفترة متيمين بها.. ومعجبين بأناقتها وسحرها.. أتعلم أنها أول فتاة بالمدينة لبست التنورة القصيرة، والكعب العالي ،لم تكن تعيرنا إهتماما وكانت غارقة حتى الثمالة، في علاقات متنوعة ومتعددة مع جنود اللفيف الأجنبي ،الذين كانوا يعملون بثكنة حيان التابعة لسلطات الاحتلال الفرنسي.. وعندما نزلت جيوش المارينز بميناء الدار البيضاء.. سافرت إلى هناك لتنال نصيبها من الدولارات، وعلب الشوينكوم وزجاجات الجعة والويسكي التي جلبوها معهم .. وبعد الاستقلال أصبحت شيخة مشهورة.. تهرق كؤوس الخمر عند أقدامها، وتعلق لها مئات الدراهم..
    لا تحلو الأعراس إلا بوجودها، ولا تستقيم الجلسات الخاصة إلا بحضورها، يتسابق عَلِيّة ُعلى القوم طلب ودها، ونيل رضاها.. لكن لاشيء يدوم إلا وجه الله.. ها قد راح كل شيء.. والزمن فعل بها ما فعل.. والناس نسوا مجدها الآبق.. وهي الآن مجرد حطام كما ترى.. "
    كنت أتتبع فرائص وجه سي قاسم فألمح تقلصات متواترة تعبر عن إنفعالات داخلية تعكس تأثره وهو يسرد بعضا من حياة مبروكة.. التي تذكره بزمن عاشه وعايشه.. زمن يعتبر قمة في الروعة والجمال على حد تعبيره.
    وإذا كان سي قاسم عايش مبروكة في فترة شبابها.. فأنا وأترابي عرفناها كهلة خلال سبعينيات القرن الماضي تطوف شوارع المدينة صحبة رجل في أواسط العمر، وقد وضعت دربوكة على كتفها وهي تغني وترقص بخفة قل نظيرها، أما الرجل فكان ينقر دفا، بيديه، وهو يشاركها الغناء والرقص..كنا كأطفال نسعد بالتفرج عليهما، وهما يقيمان الحلقة بساحة "بويا عمر" ونصفق بكل إعجاب لقفاشتهما ونكتهما التي يطلقانها بكل عفوية .. وقد نمنحانهما سنتيمات معدودات حسب الإستطاعة..
    وحين تركتنا ميعة الصبا، واستقبلنا عنفوان الشباب، كانت مبروكة قد أصبحت عجوزا.. تتسول ما تسد به رمقها.. ولم نكن نبخل عليها بما يقيم عودها.. ويضمن لها الإستمرار على قيد الحياة..
    لكنهاكانت على موعد مع القضاء والقدر.. وهي تقف أمام واجهة دكان سي قاسم تستدر عطف المارة.، ففي لحظة خارج السياق وجدت نفسها ملقاة على الأرض وقد أصيبت بكسر مزدوج بعد أن دفعها أحد المختلين عقليا على حين غرة، ودون سبب ومنذ ذلك الحين وإلى يوم الناس هذا أصبحت مبروكة عاجزة عن الحركة.. تعيش مشردة في الشارع، تقتات بما يجود عليها به المحسنون وهي تردد لازمتها المعتادة "ذهب الرجال وبقي الأنذال".




    محمد محضار


    خريبكة 2010
    sigpicلك المجد أيها الفرح المشرق في ذاتي، لك السؤدد أيها الوهج المومض في جوانحي...
  • مختار عوض
    شاعر وقاص
    • 12-05-2010
    • 2175

    #2
    نص جميل جمال كاتبه أخي
    محمد محضار
    استمتعت بسردك الجميل، وبتطور الأحداث بلا ملل..
    أنها نموذج لكل شيء في الحياة يبدأ صغيرًا ثم يشتد شيئا فشيئا حتى يكتمل؛ فتبدأ بعد ذلك مسيرة القهقري فينحدر حتى يؤول إلى زوال..
    تحيتي وتقديري.

    تعليق

    • آسيا رحاحليه
      أديب وكاتب
      • 08-09-2009
      • 7182

      #3
      نعم..لا شيء يدوم إلا وجه الله تعالى..
      معظم المدن تقريبا تحتفظ في ذاكرتها بأنواع مبروكة..
      و قد ذكّرني نصك بقصة لي كنت بدأتها عن " عيشة " امرأة مختلّة دخلت ذاكرة مدينتي..
      شكرا لأن نصك سيلهمني تتمة " عيشة "..
      راق لي السرد جدا..
      ربما هنا خطأ كيبوردي :
      يتسابق عَلِيّة ُعلى القوم طلب ودها،
      تحيتي و احترامي أخي محمد..
      يظن الناس بي خيرا و إنّي
      لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

      تعليق

      • أمل ابراهيم
        أديبة
        • 12-12-2009
        • 867

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة محمد محضار مشاهدة المشاركة
        مبروكة جزء من ذاكرة المدينة... هي الآن مجرد بقايا اِمرأة، بعد أن أنهكتها السنون ونال منها المرض والوجع.. لكنها ما تزال متشبثة بالحياة.. والحياة ما تزال متشبثة بها.. اِختار لها بعض ماسحي الأحذية مكانا عند ناصية زنقة الحمام.. بالقرب من دكان السي قاسم بائع السجائر أو "مول الصاكة" كما يحلو لها أن تسميه.. ونصبوا لها ما يشبه الخيمة الصغيرة، تقيها من قساوة البرد، وغزارة المطر.. كانت مبروكة قد أصيبت بكسر- منذ عشرين سنة- جعل حركتها صعبة، فهي لا تخطو دون الإستعانة بعكازين خشبيين .كنت كلما مررت بها سمعتها تردد :"ذهب الرجال.. وبقي الأنذال.." فأقترب منها، وأنفحها ببعض الدريهمات، فتغمرني بدعواتها ثم تكرر لازمتها المعتادة "ذهب الرجال وبقي الأنذال" وتتابع بامتعاض "أنظر إلى هذه المدينة اللئيمة إنها تفقد كل تلك القيم الجميلة التي كانت تميزها.. لم يعد هناك من يسأل عن المسكين المعدم مثلي.. ولا من يأخذ بيده..".

        حدثني اسي قاسم في شأنها فقال :"مبروكة كانت واحدة من جميلات هذه المدينة في أربعنيات القرن الماضي .. وكنا نحن شباب تلك الفترة متيمين بها.. ومعجبين بأناقتها وسحرها.. أتعلم أنها أول فتاة بالمدينة لبست التنورة القصيرة، والكعب العالي ،لم تكن تعيرنا إهتماما وكانت غارقة حتى الثمالة، في علاقات متنوعة ومتعددة مع جنود اللفيف الأجنبي ،الذين كانوا يعملون بثكنة حيان التابعة لسلطات الاحتلال الفرنسي.. وعندما نزلت جيوش المارينز بميناء الدار البيضاء.. سافرت إلى هناك لتنال نصيبها من الدولارات، وعلب الشوينكوم وزجاجات الجعة والويسكي التي جلبوها معهم .. وبعد الاستقلال أصبحت شيخة مشهورة.. تهرق كؤوس الخمر عند أقدامها، وتعلق لها مئات الدراهم..
        لا تحلو الأعراس إلا بوجودها، ولا تستقيم الجلسات الخاصة إلا بحضورها، يتسابق عَلِيّة ُعلى القوم طلب ودها، ونيل رضاها.. لكن لاشيء يدوم إلا وجه الله.. ها قد راح كل شيء.. والزمن فعل بها ما فعل.. والناس نسوا مجدها الآبق.. وهي الآن مجرد حطام كما ترى.. "
        كنت أتتبع فرائص وجه سي قاسم فألمح تقلصات متواترة تعبر عن إنفعالات داخلية تعكس تأثره وهو يسرد بعضا من حياة مبروكة.. التي تذكره بزمن عاشه وعايشه.. زمن يعتبر قمة في الروعة والجمال على حد تعبيره.
        وإذا كان سي قاسم عايش مبروكة في فترة شبابها.. فأنا وأترابي عرفناها كهلة خلال سبعينيات القرن الماضي تطوف شوارع المدينة صحبة رجل في أواسط العمر، وقد وضعت دربوكة على كتفها وهي تغني وترقص بخفة قل نظيرها، أما الرجل فكان ينقر دفا، بيديه، وهو يشاركها الغناء والرقص..كنا كأطفال نسعد بالتفرج عليهما، وهما يقيمان الحلقة بساحة "بويا عمر" ونصفق بكل إعجاب لقفاشتهما ونكتهما التي يطلقانها بكل عفوية .. وقد نمنحانهما سنتيمات معدودات حسب الإستطاعة..
        وحين تركتنا ميعة الصبا، واستقبلنا عنفوان الشباب، كانت مبروكة قد أصبحت عجوزا.. تتسول ما تسد به رمقها.. ولم نكن نبخل عليها بما يقيم عودها.. ويضمن لها الإستمرار على قيد الحياة..
        لكنهاكانت على موعد مع القضاء والقدر.. وهي تقف أمام واجهة دكان سي قاسم تستدر عطف المارة.، ففي لحظة خارج السياق وجدت نفسها ملقاة على الأرض وقد أصيبت بكسر مزدوج بعد أن دفعها أحد المختلين عقليا على حين غرة، ودون سبب ومنذ ذلك الحين وإلى يوم الناس هذا أصبحت مبروكة عاجزة عن الحركة.. تعيش مشردة في الشارع، تقتات بما يجود عليها به المحسنون وهي تردد لازمتها المعتادة "ذهب الرجال وبقي الأنذال".





        محمد محضار




        خريبكة 2010
        زميلي وأخي العزيز /محمد محضار
        طاب مساؤك وكل عام وأنت بصحة وسلامة
        لم اراك ولم أسمع عنك ولم تعد أناملك تزور كتاباتي
        أسعدني ما قرأت قصة جميلة وهذه هي الحياة نودع عمرنا
        ونحن علي قيد الحيا ولكن أعجبتني مقولتها .تنطبق اليوم في بلدي
        العراق ذهب الرجال وبقى الأنذال
        رائع أنت تقبل مني تحية طيبة وود
        درت حول العالم كله.. فلم أجد أحلى من تراب وطني

        تعليق

        • محمد محضار
          أديب وكاتب
          • 19-01-2010
          • 1270

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة مختار عوض مشاهدة المشاركة
          نص جميل جمال كاتبه أخي
          محمد محضار
          استمتعت بسردك الجميل، وبتطور الأحداث بلا ملل..
          أنها نموذج لكل شيء في الحياة يبدأ صغيرًا ثم يشتد شيئا فشيئا حتى يكتمل؛ فتبدأ بعد ذلك مسيرة القهقري فينحدر حتى يؤول إلى زوال..
          تحيتي وتقديري.
          هي بحق أنموذج حي لحال الكثير من الأشخاص الذين يتناسون أنه بعد كل صعود لابد من نزول ، والحريص منا من يجعل هذا النزول سلسا ..
          sigpicلك المجد أيها الفرح المشرق في ذاتي، لك السؤدد أيها الوهج المومض في جوانحي...

          تعليق

          • محمد محضار
            أديب وكاتب
            • 19-01-2010
            • 1270

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة
            نعم..لا شيء يدوم إلا وجه الله تعالى..
            معظم المدن تقريبا تحتفظ في ذاكرتها بأنواع مبروكة..
            و قد ذكّرني نصك بقصة لي كنت بدأتها عن " عيشة " امرأة مختلّة دخلت ذاكرة مدينتي..
            شكرا لأن نصك سيلهمني تتمة " عيشة "..
            راق لي السرد جدا..
            ربما هنا خطأ كيبوردي :
            يتسابق عَلِيّة ُعلى القوم طلب ودها،
            تحيتي و احترامي أخي محمد..
            الشكر دائم وموصول لك أستاذة آسية المبدعة السامقة...فعلا مثيلات مبروكة كثيرات...أرجو أن نطلع قريبا على نص عيشة
            sigpicلك المجد أيها الفرح المشرق في ذاتي، لك السؤدد أيها الوهج المومض في جوانحي...

            تعليق

            يعمل...
            X