حين أجالسه... أميل إلى الصمت... إلا من تساؤلات تنقلنا إلى شرفات أخرى...
كان يرنو بعينين مجعدتين نحو شجرة تين أمامه... مغلفاً بظل أوراق كرمة تمددت أغصانها أعلاه وتدلت عناقيدها... وذقنه الحاد يستريح على كفين تقبضان على عكازه الواقف على مصطبة غافية كقط أليف عند جدران طينية تغمرها أشعة شمس صيفية.... جلست قربه... بدا غير منتبه لوجودي...
والصمت يلفنا....
في أي الموانئ تلقي مرساتك الآن؟؟؟ تساءلت وعيناي تراقبان سكونه...
ربما... والسنين تتراكم... ننحني تحت وطأتها... نصبح أقرب إلى أرض تنتظرنا....
نظل نشتهي الوقوف على أطلالنا... بقايا أحلامنا... نستعيد صورنا العتيقة... دروبنا القديمة...
ببطء تسربت كلماته:
ذات مساء شتائي... ومن خلف نافذتي... كنت أراقبها...
عارية كانت... ووحيدة....
صباحاً... سرت نحوها... وكعادتنا لا نجيد غير البكاء... انهمرت دموعي...
كم كانت مبللة.. فقدت بعض أغصانها... غير أنها بدت سعيدة بنور يتسرب خلال غيوم رمادية...
ربما لو ملكت ساقين... لرأيتها إلى جوارك تراقب المطر وتصغي إلى ريح غاضبة..!!
أليس كذلك يا جدي...؟؟؟ سألته...
مال برأسه نحوي... وبنظرات حادة... أجابني:
-ولو ملكت جناحين أيضاً... ألن يكون أفضل؟؟؟!!
سيحملانها إلى بلاد لا تغيب عنها الشمس... أليس كذلك!!؟..
سألني وأنا أكتم ضحكة كادت تفر مني... شجرة تطير...
وتابع دون أن ينتظر ردي:
-لا تهزموا أنفسكم يا ولدي.... لا تجتهدوا في إيجاد مبررات تخدركم...
لا تقتلوا ذواتكم... لا ترفعوا جدراناً عالية على أحلامكم...
وأنهى كلامه وهو يشير بسبابته إلى رأسه الأشيب...
كل شيء يبدأ من هنا يا ولدي...
-ولكن ما الذي تستفيده الشجرة..؟؟؟ سألته..
-ماذا تقصد..؟؟
-أعني أنها لن تأكل من ثمارها... تحترق تحت الشمس وتظلل غيرها....
-إذاً علينا أن نرميها بالحجارة....... أليس كذلك..؟؟؟؟
وبسخرية أضاف:
-الساقطة... تثمر لغيرها... وينعم الآخرون بفيئها..
ربما عليها أن تصبح كتلة أغصان يابسة... حطباً.. وقوداً لنار لا تختارها.. حتى تعجبنا..!!! الأشجار لا تحلم بأن تصبح رماداً...
صمت لثوان قبل أن يتم كلامه...
-لسنا كائنات محكومة بحاجات الجسد فقط....
إننا كائنات حالمة.... تحب أن تنظر إلى طفولتها بعينيها الكهلتين من علِّ... لا أن تموت حيث ولدت... ليست سوى حياة واحدة يا ولدي... فلتكن ذات معنى.... لا أن تمحي الأمواج آثارها...
غادرتني عيناه إلى كروم تتهيأ للقطاف...
بعض الرجال يتحولون في كهولتهم إلى أبطال ماضيهم... فتظن وأنت تصغي إليهم... أن الحياة كانت ستتوقف لولا وجودهم... تبدي اهتماماً... تُجحظ عينيك.... وترسم وجهاً ذاهلاً تغمره الدهشة... لكل ما قالوه أو فعلوه في شبابهم... تدرك أنهم يحدثونك عنهم كما كانوا يشتهون... كما أرادوا أن يكونوا...
لكنه كان مختلفاً...
بدا كهلاً يجلس على حطام ماضٍ لا يريده أن يتكرر...
-هل كنتم أشجاراً....؟؟؟؟؟ سألته...
عانقتني عيناه... بينما كان سرب من حمام أبيض يغادرنا مبتعداً... وبكلمات مبللة بالحزن أجابني...
-يا ولدي... نحن ماضيكم... عبرناه ولم نترك خلفنا إلا تجاربنا الفاشلة وطريقاً مشيناه ونعرف أين يفضي... ونحن مستقبلكم... إذا وطأتم آثار أقدامنا....
وتابع وهو يهم بالوقوف:
-الحكمة تقتضي أن تستفيدوا من تجارب الآخرين.... أليس كذلك؟؟؟
وقفت... أراقبه.... والشمس تذيب ظلاً كان يغمرني...
مشى على مهل... جلس مستنداً إلى جذعها... وعيناه معلقتان بنافذة مغلقة..
ربما يطلب مغفرة عما حدث ذات مساء شتائي......
سامر عبد الكريم المنصور
تعليق