كأنه مات قبل الموت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد ثلجي
    أديب وكاتب
    • 01-04-2008
    • 1607

    كأنه مات قبل الموت

    كانت عيناه تراقبان عن كثب ، وثمة أمواج مضطربة على طول المسافة المتشحة قليلاً بالسواد الداكن ، غير أن كل ذلك التمازج والتضارب داخل الحافلة المسرعة لم يمنعاه من التفكير بالطريقة الأمثل للتخلص من حياته وعلى الفور.


    الجزء الأهم هو ذلك الغباش الواضح وانعدام السيطرة على وظائف جسده الملتصقة بالمقعد، أثار كل ذلك في نفسه التشاؤم وأقعت إذ ذاك في باطن العقل فكرة ما .. بعد لحظات .. تجلت أمامه مباشرة ممزوجة بعدة أشكال وربما ألوان مموهة وحادة لأبعد حد . الفكرة الأولى هو أن يرمي بجسده من أعلى بناية يلتقطها من فوره ، من المستحيل النجاة بعد هذا السقوط ومن العبث أن لا يكون الموت سريعاً كما يريد . الأهم دون ألم أو إحساس بالألم.. أخرج علبة السجائر ، أشعل لفافة وبدأ بالتهامها بين شفتيه كذئب جائع.


    أخذ يدقق النظر في البنايات على جهتي الطريق بينما تسير الحافلة داخل الزحمة ببطء ممل، أشبه بالبطء الذي اعترى ذهنه حين تذكر حادثة أخبره عنها صديق . كانت قريبة جداً رغم أنه لم يفطن لها منذ زمن .. ربما من أجل هذا تعقد الأفكار نفسها وتتطرق الحواس الخائفة بلا وعي لأشياء قديمة مختزلة أسفل الذاكرة .. ما حصل كان مخيفا ومحيراً في آن ، قيل له أن ذلك الشاب سقط عن الطابق العاشر وارتطم جسده المتهاوي على أرض ترابية لكنها صلبة . نقل الشاب فوراً إلى المشفى رغم هول المنظر واستحالة أنه ما زال حياً.


    لم يعلن عن وفاة الشاب. وظل هناك يصارع الموت في غيبوبة استمرت أربعة أشهر .. بعدها أفاق على كسور نالت كل جسده المنهك، وعاد بعد سنتين من العلاج لممارسة حياته الطبيعية .. يقال بأن هذا الشاب وصف لأحدهم ما حصل وكان مما قال أن ماهية الألم الذي شعر به أثناء وعند سقوطه أشبه بالموت على فترات .. وبارود مشتعل مشى في عروقه ومع دمه قبل أن يغمى عليه . لحظة السقوط هي أصعب ما في الأمر .. كأن أحدهم قذف بصخرة على رأسك معها تشعر لخمس ثوان بأن قنبلة موقوتة انفجرت للتو .


    أعرض عن فكرة أن يرمي بجسده من أعلى ، وتأوه هنيهة ثم أشعل لفافة ثانية رغم استياء عجوز راحت تلوّح بيدها مرسلة نحوه سهاماً من نظرات حانقة حادّة - لم يكترث - ما يمّر به أخطر مما يعنيه إثارة حفيظة أحدهم تجاهه..


    نأى بنفسه بعيداً وراح يتجول بعينين باهتتين داخل السواد على مرمى بصره
    - صورة مغلقة تماماً- سقف يخترقه حبل غليظ ثم جسد يتدلى من الحبل ورأس ينحني للأمام .


    تنفس الصعداء .. واستعد للنزول من الحافلة لشراء الحبل .. لم يكن من السهل التوقف رغم طلبه ذلك من السائق، وضربه على النافذة بشكل متتالٍ استرعى انتباه الركاب نحوه ، حتى أن أحدهم وجه إليه ملاحظة بضرورة الانتظار لحين الوصول للمكان المخصص . انفجر غاضباً في وجه الرجل صاحب الاقتراح مقترحاً بدوره عليه الصمت وعدم التدخل فيما لا يعنيه .. انتهت المعركة سريعاً عندما اقترب منه رجل طاعن في السن ، ربت على كتفه وطلب منه الهدوء مع ابتسامة ضئيلة استجمعها على شفتيه كانت كفيلة بارتخائه كلياً على المقعد المخصص له.


    انتظر دقيقة كاملة ريثما يهدأ.. لم يكن جاهزاً تماماً لإعادة التفكير مجدداً بنفس الفكرة .. انحسر بنفسه في زاوية مظلمة وذات الأخيلة والألوان الممزوجة بالسواد .. كانت الحافلة شبه مسرعة وتدور حول نفسها على مفترق الطريق ، ثم ابتعدت قليلاً عن المحال التجارية وبدأت بالخروج للشارع الفرعي . حيث الأبنية السكنية المترامية بعيداً والفراغات الترابية الشاسعة بينها.


    عزز ذلك من إصراره على الانتحار في هذا اليوم .. لماذا يبقي على جسدٍ واهنٍ ضعيفٍ بينما الروح القوية الدافعة تغط في موت عميق. تناسلت الأفكار في حيّز ضيق من العبث مرور بصيص أمل فيه، هي ذاتها الصور الداكنة والمتتابعة . كيف انتهت حياته كلياً بفقدانه كل شيء في لحظة . اللحظة التي تبناها للخروج من تهكمات الأهل وازدراء الأقارب وتأفف الزوجة المستمر!!


    أرسل نظره من خلال النافذة المشرعة للأبنية المواجهة له .. كانت تمر سريعاً كأنها تلوّح له بيدين اسمنتيتين ، راغبة بتوديعه عما قريب، وثمة عناق بدا واضحاً لحمامتين تتأرجحان على ظهر أحد الأعمدة . عناق كأنه يفرض نفسه في حلقة سوداوية تسحّ حزناً وكبتاً لا شبيه لهما. تذكر أشياء كثيرة رغم عزوف النفس عن ذلك ، ما أنجزه رغم قلة الحظ وتفاوت الإمكانيات .. عاد من شروده مجدداً عندما تهاوت دمعتان من عينيه البنيتين .. كانتا كفيلتين بتقصي مواطن الضعف والهزيمة في قلبه . هبط الليل سريعاً ، فاتفق الظلام الخارجي مع ظلام القلب لينشبا سوية أظفارهما في جسد مقعد تماماً وحركة بالكاد تجسّ بضعة أمتار. فكر من جديد كيف سينهي حياته ، بلا أية مضاعفات أو شعور بالألم .. فماهية الألم الجائل في دواخله يجعله يستشعر تلك الحقيقة الغائبة.


    أزاح جسده مستقيماً وجال بنظره بين الركاب .. بعضهم مسترخٍ تماماً كأنه يفكر في عناق حار مع زوجته .. وآخر يبدو عليه التوتر فهمّ بقضم أصابعه ، بينما شاب في مقتبل العمر يحاول التلصص بحذر نحو صدر فتاة جلست بجانبه وقد هاله الزغب النامي أسفل عنقها. أخذ بذلك كله للحظة ، غير أنه استعاد ظلامه وطفق يبحث عن وسيلة ناجعة تنهي له كل ما فيه من حزن وعجز ..


    توقفت الحافلة . نزلت منها الفتاة ثم تبعها الشاب .. غابا وسط الممرات الضيقة .. أدخل لقلبه هذا التصرف بعض الحيرة !! هل تستحق الحياة منا المحاولة !! سأل نفسه هذا السؤال ثم أسرع يبحث عن إجابة في اللحظة التي تحركت فيها الحافلة بضعة أمتار .. انتبه إذ ذاك لصوت العجلات تمخر الإسفلت ، أراد النزول ورمي نفسه تحتها .. أعجبته الفكرة .. ثم ما لبث أن راعه هول المنظر . كيف يكون حاله لو لم يمت في حينها!! كم من الساعات ستمر على جسده وهو تحت الإطارات وثمة من يحاول تحرير قطع العظم المسحوقة أمام عينيه!! . أخافته الفكرة ، فخفتت إرادته. وقل عزمه . ثم ترك لنفسه فرصة أن تسرح قليلاً مع فسحة الظلام بين أعمدة النور المتباعدة.


    أرخى الليل سدوله وما زالت جلبة المحرك تتكفل بالصمت الجاثم على الطريق .. وكل ما عليه الآن فعله هو البحث عن وسيلة أخيرة . نعم أخيرة .. لقد أخذ على نفسه عهداً أن لا يعود.. لن يستطيع مواجهة تلك النظرات الساخطة .. الإحساس بالفشل وما يعنيه ذلك له ولمن حوله .. هنالك ينتظره صاحب البيت وأمر من المحكمة بطرده من الشقة.. وأربعة أفواه جائعة .. وزوجة تئن ولا تكفّ عن اللوم .. وأب وأم لا يكترثان سوى بترديد نفس الكلمة .." فاشل ، هامل " يا الهي ما كل هذا الذي ينتظرني عند النزول من هذا الباب !! هل سأتحمل كل ذلك وأواجهه بشجاعة كما قال لي بعضهم!! أية شجاعة هذه التي لا يصافحها ظل الأمل ولو من قريب!! أية حياة تنتظر من فقد عمله جرّاء خطأ اقترفه في عوز وإثر فاقة !! أليس ثمّة من يسامح على هذا الكوكب !! هل نزعت الرحمة من قلوب البشر !!


    نعم سرقت .. واعترفت بذلك ونلت عقابي وانتهى الأمر .. ندمت كثيراً ودفعت الثمن أكثر .. سلبت حريتي على طول خمس سنوات ، وتركت أقاسي مرارة السجن وفظاعته ، شعرت بالحرج وتكسرت مراراً أمام تعنيف الآخرين .. سقطت على نفسي كثيراً وأنا أهرب من نظرات من لم يعيروني يوماً أي اهتمام.. أين كان كل هؤلاء الساخطين عندما طلبت منهم بعض المال!! كلهم أشاحوا بوجوههم البغيضة بعيداً .. مرت نصف الساعة قبل أن ينخزه الرجل المسن وقد صار بجانبه .. نظر نحوه في اللحظة التي تدافعت الدموع على خده. قال:


    لقد شعرت بخطب ما في هذا الجسد الخائر ، في اللحظة التي أردت فيها النزول عنوة من الحافلة .. شعرت بأن ثمة شيء غريب تكفّل في هذا الشرود والانقباض .. لقد سمعت ما خلته أنت همساً وكان صوتك يعلو ويعلو دون أن تعي ذلك!!


    نعم هالني الأمر وأظنك تحتاج ليدٍ ما تمتد إليك .. لا شك أنك ضعيف وبحاجة ماسة للمساعدة.


    خذ هذا المال فهو زائد عن حاجتي . سدّ به جوع أطفالك وادفع لصاحب الشقة ، والباقي افتح به مشروعاً يضمن لك حياة كريمة وانسى أمر الوظيفة فإنها مبتورة.


    لم ينبس ببنت شفة، ظل محدقاً نحو المسن الذي اختفى ظله شيئاً فشيئاً كأنه ضباب يتلاشى .. في حين كان السائق وبعض الركاب ينظرون إليه نظرات ملؤها الشفقة والحيرة.. نزل من الحافلة وابتسامة ضئيلة تأتي وتذهب، فليس ما يصدقه أبداً .. ما هي إلا لحظات من نزوله حتى اختطفته عجلات الحافلة القادمة من الجهة المقابلة وقد أعلن عن وفاته في اللحظة.

    تمّت
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد ثلجي; الساعة 07-03-2011, 15:14. سبب آخر: تنسيق
    ***
    إنه الغيبُ يا ضيّق الصدرِِ
    يا أيها الراسخ اليومَ في الوهمِ والجهلِ
    كم يلزمُ الأمرَ حتى يعلّمك الطينُ أنك منهُ
    أتيت وحيدًا , هبطت غريبًا
    وأنت كذلك أثقلت كاهلك الغضّ بالأمنياتِ
    قتلت أخاك وأسلمته للغرابِ
    يساوى قتيلاً بقابرهِ
  • مختار عوض
    شاعر وقاص
    • 12-05-2010
    • 2175

    #2
    الجميل (دائما)
    محمد ثلجي
    صحبتك في سرد إنساني راقٍ فغصت بي في أعماق نفس محطمة أماتها الخور وهدَّتها تشوهات نفسية عنيفة اقترفتها نظرات وكلمات من حولها..
    كنت رائعا في سرديتك؛ إذ لم يستغرق الأمر سوى صحبة صغيرة لشخصيتك خلال تحرك الحافلة ومع ذلك فقد مكَّنت قارئك من الغوص عميقا داخل نفسها لنشهد موتها البطيء (حتى قبل أن تموت)..
    مودتي وتقديري لك شاعرنا المبدع حتى في قصك.

    تعليق

    • أمل ابراهيم
      أديبة
      • 12-12-2009
      • 867

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محمد ثلجي مشاهدة المشاركة
      " كأنه مات قبل الموت "



      كانت عيناه تراقبان عن كثب ، وعلى مرمى بصره ثمة أمواج صاخبة تترامى على طول المسافة المتشحة قليلاً بالسواد الداكن ، غير أن كل ذلك التمازج والتخيل داخل الحافلة المسرعة لم يمنعاه من التفكير بالطريقة الأمثل للتخلص من حياته وعلى الفور.


      الجزء الأهم هو ذلك الغباش الواضح وانعدام السيطرة على وظائف جسده الملتصقة بالمقعد، أثار كل ذلك في نفسه التشاؤم وأقعت إذ ذاك في باطن العقل فكرة ما .. بعد لحظات .. تجلت أمامه مباشرة ممزوجة بعدة أشكال وربما ألوان مموهة وحادة لأبعد حد . الفكرة الأولى هو أن يرمي بجسده من أعلى بناية يلتقطها من فوره ، من المستحيل النجاة بعد هذا السقوط ومن العبث أن لا يكون الموت سريعاً كما يريد . الأهم دون ألم أو إحساس بالألم. أخرج علبة السجائر ، أشعل لفافة وبدأ بالتهامها بين شفتيه كذئب جائع.


      أخذ يدقق النظر في البنايات على جهتي الطريق بينما تسير الحافلة داخل الزحمة ببطء ممل، أشبه بالبطء الذي اعترى ذهنه حين تذكر حادثة أخبره عنها صديق . كانت قريبة جداً رغم أنه لم يفطن لها منذ أمدٍ بعيد .. ربما من أجل هذا تعقد الأفكار نفسها وتتطرق الحواس الخائفة بلا وعي لأشياء قديمة مختزلة أسفل الذاكرة .. ما حصل كان مخيفا ومحيراً في آن ، قيل له أن ذلك الشاب سقط عن الطابق العاشر وارتطم جسده المتهاوي على أرض ترابية لكنها صلبة . نقل الشاب فوراً للمشفى رغم هول المنظر واستحالة أنه ما زال حياً.


      لم يعلن عن وفاة الشاب. وظل هناك يطارح الموت في غيبوبة استمرت أربعة أشهر .. بعدها أفاق على كسور نالت كل جسده المنهك، وعاد بعد سنتين من العلاج لممارسة حياته الطبيعية .. يقال بأن هذا الشاب وصف لأحدهم ما حصل وكان مما قال أن ماهية الألم الذي شعر به أثناء وعند سقوطه أشبه بالموت على فترات .. كان ثمة بارود مشتعل يجري في عروقه ومع دمه قبل أن يغمى عليه . لحظة السقوط هي أصعب ما في الأمر .. كأن أحدهم قذف بصخرة على رأسك معها تشعر لخمس ثوان بأن قنبلة موقوتة انفجرت للتو .


      أعرض عن فكرة أن يرمي بجسده من أعلى ، وتأوه هنيهة ثم أشعل لفافة ثانية رغم استياء عجوز بدأت تشير بيدها وتنظر نحوه نظرات ساخطة ممزوجة بشيء من التهديد - لم يكترث - ما يمّر به أصعب وأخطر مما يعنيه إثارة حفيظة أحدهم تجاهه..


      نأى بنفسه بعيداً وراح يتجول بعينين باهتتين داخل السواد على مرمى بصره
      - صورة مغلقة تماماً- سقف يخترقه حبل غليظ ثم جسد يتدلى من الحبل ورأس ينحني للأمام .


      تنفس الصعداء .. واستعد للنزول من الحافلة لشراء الحبل .. لم يكن من السهل التوقف رغم طلبه ذلك من السائق، وضربه على النافذة بشكل متتالٍ استرعى انتباه الركاب نحوه ، حتى أن أحدهم وجه إليه ملاحظة بضرورة الانتظار لحين الوصول للمكان المخصص . انفجر غاضباً في وجه الرجل صاحب الاقتراح مقترحاً بدوره عليه الصمت وعدم التدخل فيما لا يعنيه .. انتهت المعركة سريعاً عندما اقترب منه رجل طاعن في السن ، ربت على كتفه وطلب منه الهدوء مع ابتسامة ضئيلة استجمعها على شفتيه كانت كفيلة بارتخائه كلياً على المقعد المخصص له.



      انتظر دقيقة كاملة قبل أن يفكر بالسبب وراء عدم قدرته على النزول ليشتري حبلاً.. لم يكن جاهزاً تماماً لإعادة التفكير مجدداً بنفس الفكرة .. انحسر بنفسه في زاوية مظلمة وذات الأخيلة والألوان الممزوجة بالسواد .. كانت الحافلة شبه مسرعة وتدور حول نفسها على مفترق الطريق ، ثم ابتعدت قليلاً عن المحال التجارية وبدأت بالخروج للشارع الفرعي حيث لا يوجد سوى الأبنية السكنية المترامية بعيداً والفراغات الترابية بينها.



      عزز ذلك من إصراره على الانتحار في هذا اليوم .. لماذا سيبقي على جسدٍ واهنٍ ضعيفٍ بينما الروح القوية الدافعة تغط في موت عميق. تعاقبت الأفكار في حيّز ضيق من العبث مرور بصيص أمل فيه، هي ذاتها الصور الداكنة والمتتابعة . كيف انتهت حياته كلياً بفقدانه كل شيء في لحظة . اللحظة التي تبناها للخروج من تهكمات الأهل وازدراء الأقارب وتأفف الزوجة المستمر!!



      أرسل نظره من خلال النافذة المشرعة للأبنية المواجهة له .. كانت تمر سريعاً كأنها تلوّح له بيدين اسمنتيتين ، راغبة بتوديعه عما قريب، وثمة عناق بدا واضحاً لحمامتين تتأرجحان على ظهر أحد الأعمدة . عناق كأنه يفرض نفسه في حلقة سوداوية تنزّ حزناً وانطواءً لا شبيه لهما. تذكر أشياء كثيرة رغم عزوف النفس عن ذلك ، ما أنجزه رغم قلة الحظ وتفاوت الإمكانيات .. عاد من شروده مجدداً عندما تهاوت دمعة من عينيه البنيتين .. كانتا كفيلتين بتلمس مواطن الضعف والهزيمة في قلبه . هبط الليل سريعاً ، فاتفق الظلام الخارجي مع ظلام القلب لينشبا سوية أظفارهما في جسد مقعد تماماً وحركة بالكاد تجسّ بضع أمتار. فكر من جديد كيف سينهي حياته ، بلا أية مضاعفات أو شعور بالألم .. فماهية الألم الجائل في دواخله يجعله يستشعر تلك الحقيقة الغائبة.



      أزاح جسده مستقيماً وجال بنظره بين الركاب .. بعضهم مسترخٍ تماماً كأنه يفكر في عناق حار مع زوجته بعد لحظات .. وآخر يبدو عليه التوتر فهمّ بقضم أصابعه ، بينما شاب في مقتبل العمر يحاول التلصص بحذر نحو صدر فتاة جلست بجانبه وقد هاله الزغب النامي على أسفل عنقها. أخذ بذلك كله للحظة ، غير أنه استعاد ظلامه وطفق يبحث عن وسيلة ناجعة تنهي له كل ما فيه من حزن وعجز ..



      توقفت الحافلة . نزلت منها الفتاة ثم تبعها الشاب .. غابا وسط الممرات الضيقة .. أدخل لقلبه هذا التصرف بعض الحيرة !! هل تستحق الحياة منا المحاولة !! سأل نفسه هذا السؤال ثم أسرع يبحث عن إجابة في اللحظة التي تحركت فيها الحافلة بضعة أمتار .. انتبه إذ ذاك لصوت العجلات تمخر الإسفلت ، أراد النزول ورمي نفسه تحت العجلات .. أعجبته الفكرة .. ثم ما لبث أن راعه هول المنظر . كيف سيكون حاله لو لم يمت في حينها!! كم من الساعات ستمر على جسده وهو تحت الإطار وثمة من يحاول تحرير قطع العظم المسحوقة أمام عينيه!! سيكون الألم حليفه وربما أكثر من ذلك . أخافته المحاولة ، فخفتت إرادته. وقل عزمه . ثم ترك لنفسه فرصة أن تسرح قليلاً مع فسحة الظلام بين أعمدة النور المتباعدة.


      أرخى الليل سدوله وما زالت جلبة المحرك تتكفل بالصمت الجاثم على الطريق .. وكل ما عليه الآن فعله هو البحث عن وسيلة أخيرة . نعم أخيرة .. لقد أخذ على نفسه عهداً أن لا يعود للبيت.. لن يستطيع مواجهة تلك النظرات الساخطة.. النظرات المصحوبة بالاستهزاء والسخرية .. الإحساس بالفشل وما يعنيه ذلك له ولمن حوله .. هنالك ينتظره صاحب البيت وأمر من المحكمة بطرده من الشقة.. وأربعة أفواه جائعة .. وزوجة تئن ولا تكفّ عن اللوم .. وأب وأم لا يكترثان سوى بترديد نفس الكلمة .." فاشل ، هامل " يا الهي ما كل هذا الذي ينتظرني عند النزول من هذا الباب !! هل سأتحمل كل ذلك وأواجهه بشجاعة كما قال لي بعضهم!! أية شجاعة هذه التي لا يسافحها ظل الأمل ولو من قريب!! أية حياة تنتظر من فقد عمله جرّاء خطأ اقترفه في عوز وإثر فاقة !! أليس ثمّة من يسامح على هذا الكوكب !! هل نزعت الرحمة من قلوب البشر !!


      نعم سرقت قليلاً من المال من الخزنة التي اؤتمنت عليها .. واعترفت بذلك ونلت عقابي وانتهى الأمر .. ندمت كثيراً ودفعت الثمن أكثر .. سلبت حريتي على طول خمس سنوات ، وتركت أقاسي مرارة السجن وفظاعته ، شعرت بالحرج وتكسرت مراراً أمام تعنيف الآخرين .. سقطت على نفسي كثيراً وأنا أهرب من نظرات من لم يعيروني يوماً أي اهتمام.. أين كان كل هؤلاء الساخطين عندما طلبت منهم بعض المال!! كلهم أشاحوا بوجوههم البغيضة بعيداً .. مرت نصف الساعة قبل أن ينخزه الرجل المسن وقد صار بجانبه .. نظر نحوه في اللحظة التي تدافعت الدموع على خده. قال:


      لقد شعرت بخطب ما في هذا الجسد الحائر ، منذ اللحظة التي هممت بها أن تنزل عنوة من الحافلة .. شعرت بأن ثمة شيء غريب يحصل معك .. لقد سمعت كل ما ظننته همساً وكان صوتك يعلو ويعلو دون أن تعي ذلك!!


      لقد هالني الأمر وكم شعرت بأنك تحتاج ليد تمتد إليك فأنت ضعيف وبحاجة ماسة للمساعدة.


      خذ هذا المال فهو زائد عن حاجتي . سدّ به جوع أطفالك وادفع لصاحب الشقة ، والباقي افتح به مشروعاً يضمن لك حياة كريمة وانسى أمر الوظيفة فإنها مبتورة.



      لم ينبس ببنت شفة، ظل محدقاً نحو الشيخ الذي اختفى ظله شيئاً فشيئاً كأنه بعض سراب. في حين كان السائق وبعض الركاب ينظرون إليه نظرات شفقة وحرقة.. نزل من الحافلة وابتسامة ضئيلة تأتي وتذهب، فليس ما يصدقه أبداً .. ما هي إلا لحظات من نزوله حتى اختطفته عجلات الحافلة القادمة من الجهة المقابلة وقد أعلن عن وفاته في اللحظة.

      الزميل الرائع /محمد ثلجي
      مساء الخير والعافية
      سرد جميل كأنما ريشة ترسم لوحة جميلة وحزينة يا لحظه العاثر
      ألمنحوس منحوس هل تعرف أستاذ محمد أ الفقر يشل بدن صاحبه
      سوني وجودي هنا تحية طيبة وود
      درت حول العالم كله.. فلم أجد أحلى من تراب وطني

      تعليق

      • عائده محمد نادر
        عضو الملتقى
        • 18-10-2008
        • 12843

        #4
        الزميل القدير
        محمد ثلجي
        نص مفعم بالشجن
        الحافلة كانت مسيرتها موجعة بكل تلك العذابات التي صاحبت البطل طوال حياته
        أحسنت السرد زميلي
        وظهور الشيخ كان حدثا أعطى النص بعدا كبيرا
        ملاحظة واحدة فقط
        ومضة النهاية كانت رائعة لكني رأيتها تنتهي عند (( الجهة المقابلة )) والباقي شرح لحالة سيفهمها القاريء وسيتخيلها وستكون أكثر عمقا دون ( وأعلن موته )
        ودي الأكيد لك
        الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

        تعليق

        • محمد ثلجي
          أديب وكاتب
          • 01-04-2008
          • 1607

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة مختار عوض مشاهدة المشاركة
          الجميل (دائما)
          محمد ثلجي
          صحبتك في سرد إنساني راقٍ فغصت بي في أعماق نفس محطمة أماتها الخور وهدَّتها تشوهات نفسية عنيفة اقترفتها نظرات وكلمات من حولها..
          كنت رائعا في سرديتك؛ إذ لم يستغرق الأمر سوى صحبة صغيرة لشخصيتك خلال تحرك الحافلة ومع ذلك فقد مكَّنت قارئك من الغوص عميقا داخل نفسها لنشهد موتها البطيء (حتى قبل أن تموت)..
          مودتي وتقديري لك شاعرنا المبدع حتى في قصك.
          أخي العزيز مختار عوض وأنا صحبتك بردك الملفت والمشجع
          فعلا لقد مات صاحبنا قبل موته وهذا ما يحدث في زمن كالذي نعيش ونتنفس اجواءه البارده
          تقبل من اخيك محبته وتقديره
          ***
          إنه الغيبُ يا ضيّق الصدرِِ
          يا أيها الراسخ اليومَ في الوهمِ والجهلِ
          كم يلزمُ الأمرَ حتى يعلّمك الطينُ أنك منهُ
          أتيت وحيدًا , هبطت غريبًا
          وأنت كذلك أثقلت كاهلك الغضّ بالأمنياتِ
          قتلت أخاك وأسلمته للغرابِ
          يساوى قتيلاً بقابرهِ

          تعليق

          • محمد ثلجي
            أديب وكاتب
            • 01-04-2008
            • 1607

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة أمل ابراهيم مشاهدة المشاركة
            [/color][/size]
            الزميل الرائع /محمد ثلجي
            مساء الخير والعافية
            سرد جميل كأنما ريشة ترسم لوحة جميلة وحزينة يا لحظه العاثر
            ألمنحوس منحوس هل تعرف أستاذ محمد أ الفقر يشل بدن صاحبه
            سوني وجودي هنا تحية طيبة وود
            الأستاذة أمل ابراهيم اشكرك كل الشكر على وجودك في متصفحي
            واشكر لك هذا التدفق والتعبير الذي ينم عن غوص حقيقي وتفهم واقعي لابعاد النص
            تقبلي تقديري واحترامي
            ***
            إنه الغيبُ يا ضيّق الصدرِِ
            يا أيها الراسخ اليومَ في الوهمِ والجهلِ
            كم يلزمُ الأمرَ حتى يعلّمك الطينُ أنك منهُ
            أتيت وحيدًا , هبطت غريبًا
            وأنت كذلك أثقلت كاهلك الغضّ بالأمنياتِ
            قتلت أخاك وأسلمته للغرابِ
            يساوى قتيلاً بقابرهِ

            تعليق

            • إيمان الدرع
              نائب ملتقى القصة
              • 09-02-2010
              • 3576

              #7
              مشينا مع الحافلة نطوي الطّريق ...
              رافقنا بطلّ النصّ ...
              سمعنا نبضه ...إسقاطات روحه المتعبة...
              تناثرت ظلال همومه من قلبه المتصدّع قهراً ...وحزناً ...
              وخيبات تراكمت كالجبال فوق رأسه ...أثقلتْ جفنيه ...وحجبتهما عن نور الحياة ..
              هي إرهاصات ما قبل الموت ...تحقّقتْ عند أوّل عبور...
              رائع ما قرأت هنا أستاذ محمّد ثلجي ...نوّرت دروبنا ...
              مع أطيب أمنياتي ....تحيّاتي ..

              تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

              تعليق

              • محمد ثلجي
                أديب وكاتب
                • 01-04-2008
                • 1607

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                الزميل القدير
                محمد ثلجي
                نص مفعم بالشجن
                الحافلة كانت مسيرتها موجعة بكل تلك العذابات التي صاحبت البطل طوال حياته
                أحسنت السرد زميلي
                وظهور الشيخ كان حدثا أعطى النص بعدا كبيرا
                ملاحظة واحدة فقط
                ومضة النهاية كانت رائعة لكني رأيتها تنتهي عند (( الجهة المقابلة )) والباقي شرح لحالة سيفهمها القاريء وسيتخيلها وستكون أكثر عمقا دون ( وأعلن موته )
                ودي الأكيد لك
                الأستاذة الغالية عائدة محمد نادر
                اشكرك على مرورك المهم وتلقيك النص على هذا النحو
                لقد ادخلت لقلب اخيك السعادة الدافعة لكتابة شيء آخر ربما عما قريب
                تحياتي لك ولملاحظاتك القيمة
                ***
                إنه الغيبُ يا ضيّق الصدرِِ
                يا أيها الراسخ اليومَ في الوهمِ والجهلِ
                كم يلزمُ الأمرَ حتى يعلّمك الطينُ أنك منهُ
                أتيت وحيدًا , هبطت غريبًا
                وأنت كذلك أثقلت كاهلك الغضّ بالأمنياتِ
                قتلت أخاك وأسلمته للغرابِ
                يساوى قتيلاً بقابرهِ

                تعليق

                • محمد ثلجي
                  أديب وكاتب
                  • 01-04-2008
                  • 1607

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة إيمان الدرع مشاهدة المشاركة
                  مشينا مع الحافلة نطوي الطّريق ...
                  رافقنا بطلّ النصّ ...
                  سمعنا نبضه ...إسقاطات روحه المتعبة...
                  تناثرت ظلال همومه من قلبه المتصدّع قهراً ...وحزناً ...
                  وخيبات تراكمت كالجبال فوق رأسه ...أثقلتْ جفنيه ...وحجبتهما عن نور الحياة ..
                  هي إرهاصات ما قبل الموت ...تحقّقتْ عند أوّل عبور...
                  رائع ما قرأت هنا أستاذ محمّد ثلجي ...نوّرت دروبنا ...
                  مع أطيب أمنياتي ....تحيّاتي ..
                  اختي الغالية ايمان الدرع
                  شرفني مرورك وسعدت جدا بكلماتك وعباراتك المثمنة على النص
                  قراءتك كشفت عن ذائقة ادبية وبصيرة تحسدين عليها
                  تقبلي مني كل التقدير والاحترام
                  ***
                  إنه الغيبُ يا ضيّق الصدرِِ
                  يا أيها الراسخ اليومَ في الوهمِ والجهلِ
                  كم يلزمُ الأمرَ حتى يعلّمك الطينُ أنك منهُ
                  أتيت وحيدًا , هبطت غريبًا
                  وأنت كذلك أثقلت كاهلك الغضّ بالأمنياتِ
                  قتلت أخاك وأسلمته للغرابِ
                  يساوى قتيلاً بقابرهِ

                  تعليق

                  • محمد ثلجي
                    أديب وكاتب
                    • 01-04-2008
                    • 1607

                    #10
                    شكرا لكل من قرأ
                    ***
                    إنه الغيبُ يا ضيّق الصدرِِ
                    يا أيها الراسخ اليومَ في الوهمِ والجهلِ
                    كم يلزمُ الأمرَ حتى يعلّمك الطينُ أنك منهُ
                    أتيت وحيدًا , هبطت غريبًا
                    وأنت كذلك أثقلت كاهلك الغضّ بالأمنياتِ
                    قتلت أخاك وأسلمته للغرابِ
                    يساوى قتيلاً بقابرهِ

                    تعليق

                    يعمل...
                    X