كانت عيناه تراقبان عن كثب ، وثمة أمواج مضطربة على طول المسافة المتشحة قليلاً بالسواد الداكن ، غير أن كل ذلك التمازج والتضارب داخل الحافلة المسرعة لم يمنعاه من التفكير بالطريقة الأمثل للتخلص من حياته وعلى الفور.
الجزء الأهم هو ذلك الغباش الواضح وانعدام السيطرة على وظائف جسده الملتصقة بالمقعد، أثار كل ذلك في نفسه التشاؤم وأقعت إذ ذاك في باطن العقل فكرة ما .. بعد لحظات .. تجلت أمامه مباشرة ممزوجة بعدة أشكال وربما ألوان مموهة وحادة لأبعد حد . الفكرة الأولى هو أن يرمي بجسده من أعلى بناية يلتقطها من فوره ، من المستحيل النجاة بعد هذا السقوط ومن العبث أن لا يكون الموت سريعاً كما يريد . الأهم دون ألم أو إحساس بالألم.. أخرج علبة السجائر ، أشعل لفافة وبدأ بالتهامها بين شفتيه كذئب جائع.
أخذ يدقق النظر في البنايات على جهتي الطريق بينما تسير الحافلة داخل الزحمة ببطء ممل، أشبه بالبطء الذي اعترى ذهنه حين تذكر حادثة أخبره عنها صديق . كانت قريبة جداً رغم أنه لم يفطن لها منذ زمن .. ربما من أجل هذا تعقد الأفكار نفسها وتتطرق الحواس الخائفة بلا وعي لأشياء قديمة مختزلة أسفل الذاكرة .. ما حصل كان مخيفا ومحيراً في آن ، قيل له أن ذلك الشاب سقط عن الطابق العاشر وارتطم جسده المتهاوي على أرض ترابية لكنها صلبة . نقل الشاب فوراً إلى المشفى رغم هول المنظر واستحالة أنه ما زال حياً.
لم يعلن عن وفاة الشاب. وظل هناك يصارع الموت في غيبوبة استمرت أربعة أشهر .. بعدها أفاق على كسور نالت كل جسده المنهك، وعاد بعد سنتين من العلاج لممارسة حياته الطبيعية .. يقال بأن هذا الشاب وصف لأحدهم ما حصل وكان مما قال أن ماهية الألم الذي شعر به أثناء وعند سقوطه أشبه بالموت على فترات .. وبارود مشتعل مشى في عروقه ومع دمه قبل أن يغمى عليه . لحظة السقوط هي أصعب ما في الأمر .. كأن أحدهم قذف بصخرة على رأسك معها تشعر لخمس ثوان بأن قنبلة موقوتة انفجرت للتو .
أعرض عن فكرة أن يرمي بجسده من أعلى ، وتأوه هنيهة ثم أشعل لفافة ثانية رغم استياء عجوز راحت تلوّح بيدها مرسلة نحوه سهاماً من نظرات حانقة حادّة - لم يكترث - ما يمّر به أخطر مما يعنيه إثارة حفيظة أحدهم تجاهه..
نأى بنفسه بعيداً وراح يتجول بعينين باهتتين داخل السواد على مرمى بصره
- صورة مغلقة تماماً- سقف يخترقه حبل غليظ ثم جسد يتدلى من الحبل ورأس ينحني للأمام .
تنفس الصعداء .. واستعد للنزول من الحافلة لشراء الحبل .. لم يكن من السهل التوقف رغم طلبه ذلك من السائق، وضربه على النافذة بشكل متتالٍ استرعى انتباه الركاب نحوه ، حتى أن أحدهم وجه إليه ملاحظة بضرورة الانتظار لحين الوصول للمكان المخصص . انفجر غاضباً في وجه الرجل صاحب الاقتراح مقترحاً بدوره عليه الصمت وعدم التدخل فيما لا يعنيه .. انتهت المعركة سريعاً عندما اقترب منه رجل طاعن في السن ، ربت على كتفه وطلب منه الهدوء مع ابتسامة ضئيلة استجمعها على شفتيه كانت كفيلة بارتخائه كلياً على المقعد المخصص له.
انتظر دقيقة كاملة ريثما يهدأ.. لم يكن جاهزاً تماماً لإعادة التفكير مجدداً بنفس الفكرة .. انحسر بنفسه في زاوية مظلمة وذات الأخيلة والألوان الممزوجة بالسواد .. كانت الحافلة شبه مسرعة وتدور حول نفسها على مفترق الطريق ، ثم ابتعدت قليلاً عن المحال التجارية وبدأت بالخروج للشارع الفرعي . حيث الأبنية السكنية المترامية بعيداً والفراغات الترابية الشاسعة بينها.
عزز ذلك من إصراره على الانتحار في هذا اليوم .. لماذا يبقي على جسدٍ واهنٍ ضعيفٍ بينما الروح القوية الدافعة تغط في موت عميق. تناسلت الأفكار في حيّز ضيق من العبث مرور بصيص أمل فيه، هي ذاتها الصور الداكنة والمتتابعة . كيف انتهت حياته كلياً بفقدانه كل شيء في لحظة . اللحظة التي تبناها للخروج من تهكمات الأهل وازدراء الأقارب وتأفف الزوجة المستمر!!
أرسل نظره من خلال النافذة المشرعة للأبنية المواجهة له .. كانت تمر سريعاً كأنها تلوّح له بيدين اسمنتيتين ، راغبة بتوديعه عما قريب، وثمة عناق بدا واضحاً لحمامتين تتأرجحان على ظهر أحد الأعمدة . عناق كأنه يفرض نفسه في حلقة سوداوية تسحّ حزناً وكبتاً لا شبيه لهما. تذكر أشياء كثيرة رغم عزوف النفس عن ذلك ، ما أنجزه رغم قلة الحظ وتفاوت الإمكانيات .. عاد من شروده مجدداً عندما تهاوت دمعتان من عينيه البنيتين .. كانتا كفيلتين بتقصي مواطن الضعف والهزيمة في قلبه . هبط الليل سريعاً ، فاتفق الظلام الخارجي مع ظلام القلب لينشبا سوية أظفارهما في جسد مقعد تماماً وحركة بالكاد تجسّ بضعة أمتار. فكر من جديد كيف سينهي حياته ، بلا أية مضاعفات أو شعور بالألم .. فماهية الألم الجائل في دواخله يجعله يستشعر تلك الحقيقة الغائبة.
أزاح جسده مستقيماً وجال بنظره بين الركاب .. بعضهم مسترخٍ تماماً كأنه يفكر في عناق حار مع زوجته .. وآخر يبدو عليه التوتر فهمّ بقضم أصابعه ، بينما شاب في مقتبل العمر يحاول التلصص بحذر نحو صدر فتاة جلست بجانبه وقد هاله الزغب النامي أسفل عنقها. أخذ بذلك كله للحظة ، غير أنه استعاد ظلامه وطفق يبحث عن وسيلة ناجعة تنهي له كل ما فيه من حزن وعجز ..
توقفت الحافلة . نزلت منها الفتاة ثم تبعها الشاب .. غابا وسط الممرات الضيقة .. أدخل لقلبه هذا التصرف بعض الحيرة !! هل تستحق الحياة منا المحاولة !! سأل نفسه هذا السؤال ثم أسرع يبحث عن إجابة في اللحظة التي تحركت فيها الحافلة بضعة أمتار .. انتبه إذ ذاك لصوت العجلات تمخر الإسفلت ، أراد النزول ورمي نفسه تحتها .. أعجبته الفكرة .. ثم ما لبث أن راعه هول المنظر . كيف يكون حاله لو لم يمت في حينها!! كم من الساعات ستمر على جسده وهو تحت الإطارات وثمة من يحاول تحرير قطع العظم المسحوقة أمام عينيه!! . أخافته الفكرة ، فخفتت إرادته. وقل عزمه . ثم ترك لنفسه فرصة أن تسرح قليلاً مع فسحة الظلام بين أعمدة النور المتباعدة.
أرخى الليل سدوله وما زالت جلبة المحرك تتكفل بالصمت الجاثم على الطريق .. وكل ما عليه الآن فعله هو البحث عن وسيلة أخيرة . نعم أخيرة .. لقد أخذ على نفسه عهداً أن لا يعود.. لن يستطيع مواجهة تلك النظرات الساخطة .. الإحساس بالفشل وما يعنيه ذلك له ولمن حوله .. هنالك ينتظره صاحب البيت وأمر من المحكمة بطرده من الشقة.. وأربعة أفواه جائعة .. وزوجة تئن ولا تكفّ عن اللوم .. وأب وأم لا يكترثان سوى بترديد نفس الكلمة .." فاشل ، هامل " يا الهي ما كل هذا الذي ينتظرني عند النزول من هذا الباب !! هل سأتحمل كل ذلك وأواجهه بشجاعة كما قال لي بعضهم!! أية شجاعة هذه التي لا يصافحها ظل الأمل ولو من قريب!! أية حياة تنتظر من فقد عمله جرّاء خطأ اقترفه في عوز وإثر فاقة !! أليس ثمّة من يسامح على هذا الكوكب !! هل نزعت الرحمة من قلوب البشر !!
نعم سرقت .. واعترفت بذلك ونلت عقابي وانتهى الأمر .. ندمت كثيراً ودفعت الثمن أكثر .. سلبت حريتي على طول خمس سنوات ، وتركت أقاسي مرارة السجن وفظاعته ، شعرت بالحرج وتكسرت مراراً أمام تعنيف الآخرين .. سقطت على نفسي كثيراً وأنا أهرب من نظرات من لم يعيروني يوماً أي اهتمام.. أين كان كل هؤلاء الساخطين عندما طلبت منهم بعض المال!! كلهم أشاحوا بوجوههم البغيضة بعيداً .. مرت نصف الساعة قبل أن ينخزه الرجل المسن وقد صار بجانبه .. نظر نحوه في اللحظة التي تدافعت الدموع على خده. قال:
لقد شعرت بخطب ما في هذا الجسد الخائر ، في اللحظة التي أردت فيها النزول عنوة من الحافلة .. شعرت بأن ثمة شيء غريب تكفّل في هذا الشرود والانقباض .. لقد سمعت ما خلته أنت همساً وكان صوتك يعلو ويعلو دون أن تعي ذلك!!
نعم هالني الأمر وأظنك تحتاج ليدٍ ما تمتد إليك .. لا شك أنك ضعيف وبحاجة ماسة للمساعدة.
خذ هذا المال فهو زائد عن حاجتي . سدّ به جوع أطفالك وادفع لصاحب الشقة ، والباقي افتح به مشروعاً يضمن لك حياة كريمة وانسى أمر الوظيفة فإنها مبتورة.
لم ينبس ببنت شفة، ظل محدقاً نحو المسن الذي اختفى ظله شيئاً فشيئاً كأنه ضباب يتلاشى .. في حين كان السائق وبعض الركاب ينظرون إليه نظرات ملؤها الشفقة والحيرة.. نزل من الحافلة وابتسامة ضئيلة تأتي وتذهب، فليس ما يصدقه أبداً .. ما هي إلا لحظات من نزوله حتى اختطفته عجلات الحافلة القادمة من الجهة المقابلة وقد أعلن عن وفاته في اللحظة.
تمّت
الجزء الأهم هو ذلك الغباش الواضح وانعدام السيطرة على وظائف جسده الملتصقة بالمقعد، أثار كل ذلك في نفسه التشاؤم وأقعت إذ ذاك في باطن العقل فكرة ما .. بعد لحظات .. تجلت أمامه مباشرة ممزوجة بعدة أشكال وربما ألوان مموهة وحادة لأبعد حد . الفكرة الأولى هو أن يرمي بجسده من أعلى بناية يلتقطها من فوره ، من المستحيل النجاة بعد هذا السقوط ومن العبث أن لا يكون الموت سريعاً كما يريد . الأهم دون ألم أو إحساس بالألم.. أخرج علبة السجائر ، أشعل لفافة وبدأ بالتهامها بين شفتيه كذئب جائع.
أخذ يدقق النظر في البنايات على جهتي الطريق بينما تسير الحافلة داخل الزحمة ببطء ممل، أشبه بالبطء الذي اعترى ذهنه حين تذكر حادثة أخبره عنها صديق . كانت قريبة جداً رغم أنه لم يفطن لها منذ زمن .. ربما من أجل هذا تعقد الأفكار نفسها وتتطرق الحواس الخائفة بلا وعي لأشياء قديمة مختزلة أسفل الذاكرة .. ما حصل كان مخيفا ومحيراً في آن ، قيل له أن ذلك الشاب سقط عن الطابق العاشر وارتطم جسده المتهاوي على أرض ترابية لكنها صلبة . نقل الشاب فوراً إلى المشفى رغم هول المنظر واستحالة أنه ما زال حياً.
لم يعلن عن وفاة الشاب. وظل هناك يصارع الموت في غيبوبة استمرت أربعة أشهر .. بعدها أفاق على كسور نالت كل جسده المنهك، وعاد بعد سنتين من العلاج لممارسة حياته الطبيعية .. يقال بأن هذا الشاب وصف لأحدهم ما حصل وكان مما قال أن ماهية الألم الذي شعر به أثناء وعند سقوطه أشبه بالموت على فترات .. وبارود مشتعل مشى في عروقه ومع دمه قبل أن يغمى عليه . لحظة السقوط هي أصعب ما في الأمر .. كأن أحدهم قذف بصخرة على رأسك معها تشعر لخمس ثوان بأن قنبلة موقوتة انفجرت للتو .
أعرض عن فكرة أن يرمي بجسده من أعلى ، وتأوه هنيهة ثم أشعل لفافة ثانية رغم استياء عجوز راحت تلوّح بيدها مرسلة نحوه سهاماً من نظرات حانقة حادّة - لم يكترث - ما يمّر به أخطر مما يعنيه إثارة حفيظة أحدهم تجاهه..
نأى بنفسه بعيداً وراح يتجول بعينين باهتتين داخل السواد على مرمى بصره
- صورة مغلقة تماماً- سقف يخترقه حبل غليظ ثم جسد يتدلى من الحبل ورأس ينحني للأمام .
تنفس الصعداء .. واستعد للنزول من الحافلة لشراء الحبل .. لم يكن من السهل التوقف رغم طلبه ذلك من السائق، وضربه على النافذة بشكل متتالٍ استرعى انتباه الركاب نحوه ، حتى أن أحدهم وجه إليه ملاحظة بضرورة الانتظار لحين الوصول للمكان المخصص . انفجر غاضباً في وجه الرجل صاحب الاقتراح مقترحاً بدوره عليه الصمت وعدم التدخل فيما لا يعنيه .. انتهت المعركة سريعاً عندما اقترب منه رجل طاعن في السن ، ربت على كتفه وطلب منه الهدوء مع ابتسامة ضئيلة استجمعها على شفتيه كانت كفيلة بارتخائه كلياً على المقعد المخصص له.
انتظر دقيقة كاملة ريثما يهدأ.. لم يكن جاهزاً تماماً لإعادة التفكير مجدداً بنفس الفكرة .. انحسر بنفسه في زاوية مظلمة وذات الأخيلة والألوان الممزوجة بالسواد .. كانت الحافلة شبه مسرعة وتدور حول نفسها على مفترق الطريق ، ثم ابتعدت قليلاً عن المحال التجارية وبدأت بالخروج للشارع الفرعي . حيث الأبنية السكنية المترامية بعيداً والفراغات الترابية الشاسعة بينها.
عزز ذلك من إصراره على الانتحار في هذا اليوم .. لماذا يبقي على جسدٍ واهنٍ ضعيفٍ بينما الروح القوية الدافعة تغط في موت عميق. تناسلت الأفكار في حيّز ضيق من العبث مرور بصيص أمل فيه، هي ذاتها الصور الداكنة والمتتابعة . كيف انتهت حياته كلياً بفقدانه كل شيء في لحظة . اللحظة التي تبناها للخروج من تهكمات الأهل وازدراء الأقارب وتأفف الزوجة المستمر!!
أرسل نظره من خلال النافذة المشرعة للأبنية المواجهة له .. كانت تمر سريعاً كأنها تلوّح له بيدين اسمنتيتين ، راغبة بتوديعه عما قريب، وثمة عناق بدا واضحاً لحمامتين تتأرجحان على ظهر أحد الأعمدة . عناق كأنه يفرض نفسه في حلقة سوداوية تسحّ حزناً وكبتاً لا شبيه لهما. تذكر أشياء كثيرة رغم عزوف النفس عن ذلك ، ما أنجزه رغم قلة الحظ وتفاوت الإمكانيات .. عاد من شروده مجدداً عندما تهاوت دمعتان من عينيه البنيتين .. كانتا كفيلتين بتقصي مواطن الضعف والهزيمة في قلبه . هبط الليل سريعاً ، فاتفق الظلام الخارجي مع ظلام القلب لينشبا سوية أظفارهما في جسد مقعد تماماً وحركة بالكاد تجسّ بضعة أمتار. فكر من جديد كيف سينهي حياته ، بلا أية مضاعفات أو شعور بالألم .. فماهية الألم الجائل في دواخله يجعله يستشعر تلك الحقيقة الغائبة.
أزاح جسده مستقيماً وجال بنظره بين الركاب .. بعضهم مسترخٍ تماماً كأنه يفكر في عناق حار مع زوجته .. وآخر يبدو عليه التوتر فهمّ بقضم أصابعه ، بينما شاب في مقتبل العمر يحاول التلصص بحذر نحو صدر فتاة جلست بجانبه وقد هاله الزغب النامي أسفل عنقها. أخذ بذلك كله للحظة ، غير أنه استعاد ظلامه وطفق يبحث عن وسيلة ناجعة تنهي له كل ما فيه من حزن وعجز ..
توقفت الحافلة . نزلت منها الفتاة ثم تبعها الشاب .. غابا وسط الممرات الضيقة .. أدخل لقلبه هذا التصرف بعض الحيرة !! هل تستحق الحياة منا المحاولة !! سأل نفسه هذا السؤال ثم أسرع يبحث عن إجابة في اللحظة التي تحركت فيها الحافلة بضعة أمتار .. انتبه إذ ذاك لصوت العجلات تمخر الإسفلت ، أراد النزول ورمي نفسه تحتها .. أعجبته الفكرة .. ثم ما لبث أن راعه هول المنظر . كيف يكون حاله لو لم يمت في حينها!! كم من الساعات ستمر على جسده وهو تحت الإطارات وثمة من يحاول تحرير قطع العظم المسحوقة أمام عينيه!! . أخافته الفكرة ، فخفتت إرادته. وقل عزمه . ثم ترك لنفسه فرصة أن تسرح قليلاً مع فسحة الظلام بين أعمدة النور المتباعدة.
أرخى الليل سدوله وما زالت جلبة المحرك تتكفل بالصمت الجاثم على الطريق .. وكل ما عليه الآن فعله هو البحث عن وسيلة أخيرة . نعم أخيرة .. لقد أخذ على نفسه عهداً أن لا يعود.. لن يستطيع مواجهة تلك النظرات الساخطة .. الإحساس بالفشل وما يعنيه ذلك له ولمن حوله .. هنالك ينتظره صاحب البيت وأمر من المحكمة بطرده من الشقة.. وأربعة أفواه جائعة .. وزوجة تئن ولا تكفّ عن اللوم .. وأب وأم لا يكترثان سوى بترديد نفس الكلمة .." فاشل ، هامل " يا الهي ما كل هذا الذي ينتظرني عند النزول من هذا الباب !! هل سأتحمل كل ذلك وأواجهه بشجاعة كما قال لي بعضهم!! أية شجاعة هذه التي لا يصافحها ظل الأمل ولو من قريب!! أية حياة تنتظر من فقد عمله جرّاء خطأ اقترفه في عوز وإثر فاقة !! أليس ثمّة من يسامح على هذا الكوكب !! هل نزعت الرحمة من قلوب البشر !!
نعم سرقت .. واعترفت بذلك ونلت عقابي وانتهى الأمر .. ندمت كثيراً ودفعت الثمن أكثر .. سلبت حريتي على طول خمس سنوات ، وتركت أقاسي مرارة السجن وفظاعته ، شعرت بالحرج وتكسرت مراراً أمام تعنيف الآخرين .. سقطت على نفسي كثيراً وأنا أهرب من نظرات من لم يعيروني يوماً أي اهتمام.. أين كان كل هؤلاء الساخطين عندما طلبت منهم بعض المال!! كلهم أشاحوا بوجوههم البغيضة بعيداً .. مرت نصف الساعة قبل أن ينخزه الرجل المسن وقد صار بجانبه .. نظر نحوه في اللحظة التي تدافعت الدموع على خده. قال:
لقد شعرت بخطب ما في هذا الجسد الخائر ، في اللحظة التي أردت فيها النزول عنوة من الحافلة .. شعرت بأن ثمة شيء غريب تكفّل في هذا الشرود والانقباض .. لقد سمعت ما خلته أنت همساً وكان صوتك يعلو ويعلو دون أن تعي ذلك!!
نعم هالني الأمر وأظنك تحتاج ليدٍ ما تمتد إليك .. لا شك أنك ضعيف وبحاجة ماسة للمساعدة.
خذ هذا المال فهو زائد عن حاجتي . سدّ به جوع أطفالك وادفع لصاحب الشقة ، والباقي افتح به مشروعاً يضمن لك حياة كريمة وانسى أمر الوظيفة فإنها مبتورة.
لم ينبس ببنت شفة، ظل محدقاً نحو المسن الذي اختفى ظله شيئاً فشيئاً كأنه ضباب يتلاشى .. في حين كان السائق وبعض الركاب ينظرون إليه نظرات ملؤها الشفقة والحيرة.. نزل من الحافلة وابتسامة ضئيلة تأتي وتذهب، فليس ما يصدقه أبداً .. ما هي إلا لحظات من نزوله حتى اختطفته عجلات الحافلة القادمة من الجهة المقابلة وقد أعلن عن وفاته في اللحظة.
تمّت
تعليق