مختارات من كتابات الدكتور /النويهى
****************
هذه المقالات الرائدة والتى كتبها الدكتور النويهى ، إبان تواجده بالسودان ، ومن اللحظة التى وطئت قدماه أرض السودان ، كان العاصفة التى تقلتع الثوابت وتهدم الأصنام وتعيد ترتيب الحياة كما ينبغى أن تكون ،ولم تُجمع هذه المقالات والردود ، بدءا من 9/3/1947 تاريخ أول إحتكاك له بالمجتمع السودانى ، وعمله بكلية غوردون أستاذ اللغة العربية ،وحتى تقديمه الإستقالة ومقالته إلى اللقاءياشعب السودان 3/4/1956
هذه المقالات هى أهم منجزاته وآرائه وزبدة أفكاره ، قد نختلف وقد نتفق معها ، لكنها تبقى تراثا خالدا وأدبا رفيعا وفكرا ناضجا وثورة تقدمية ودفعة حضارية وإعلاء شأن العقل والسعى لإقامة مجتمع إنسانى متحضر برجاله ونسائه ، واللحاق بركب التقدم والرفاهية والعلم والثقافة والحرية .
هذه المقالات العزيزة على نفسى والقريبة من روحى وعقلى ووجدانى. أنشرها ولأول مرة فى مصر .
هدية مباركة أقدمها للملتقى [align=justify]شاكراً السيدة الفاضلة الأستاذ ة / نوال يوسف (حرمى المصون )التى خاضت غمار الصعاب والمستحيل .مفتشةً فى ذاكرة الماضى .منقبةً فى الأضابير. مزيلةً التعتيم المتعمد والمقصود عن تراثه المتناثر فى الصحف والمجلات ،وعودة الروح فيه من جديد .
________________
مصرى ..........ولكن
الخرطوم ....لمراسل المسامرات الخاص:
إختارت كلية غوردون أحد الأساتذة المصريين الذين كانوا يدرسون اللغة العربية فى الجامعات البريطانية لتدريس هذة اللغة بالكلية .وفى مساء 12فبراير الماضى ، حيث كانت مدرسة فاروق تحتفل بعيد ميلاد صاحب الجلالة الملك المعظم ، كان هذا الأستاذ يلقى محاضرة فى دار الثقافة بالخرطوم لا ليمجد هذا اليوم ولكن ليشتم كل ما هو عربى باللغة الإنجليزية الفصحى على جمع أغلبيته من البريطانيين ...ثم ليمس الناحية السياسية برفق معززا آراء الإنجليز .
قال : إن العقلية العربية منحطة ولا يمكن أن ترتفع من هذا الحضيض إلا إذا رويت وشبعت من الثقافات الأوروبية وخاصة الإنجليزية .وإن خير شاعرين فى العصر الإسلامى هما أبو نواس وإبن الرومى وهذان كانا يجرى فيهما دم أجنبى غير الدم العربى .وإن الشعوب العربية الحديثة كالعراق والسودان ومصر تختلف عن بعضها عن بعض ويجب أن يكون لكل شعب ذاتيته وثقافته الخاصة ، إلى آخر هذا الهراء الذى يعمد الإستعمار على بثه فى رؤوس الطلاب عن طريق أستاذ مصرى !!!وقد قابل بعض السودانيين هذه المحاضرة بثورة فناقشوا المحاضر مناقشة حادة وشددوا عليه النكير .ولم يكد الخبر يسرى فى العاصمة السودانية حتى قابله عامة الناس بالأسف ..وقابله المصريون خاصة بالخجل .
9/3/1947
ولكن الدكتور النويهى ما إن يقرأ هذه الكلمات المغرضة ...إلا ويسارع بنشر مقالة بعنوان :
لماذا جئت إلى السودان
وتنشر فى جريدة الرأى العام الأكثر إنتشارا بتاريخ 17/3/1947
هناك حقائق كثيرة لانحب نحن الناطقين بالعربية أن نلتفت إليها ، لأنها حقائق كريهة أليمة ، فنحن ننزعج إذ حاول واحد منا أن يذكرنا بها ، ونتبرم بهذا المذكر بل نكرهه أشد كرهه ، ولكن لاترجى لنا نهضة ولا رقى إلا إذا كان من بيننا جماعة لايعبأون بما يثيره فينا من إنزعاج أو كره ، ولايفتأون ينبهوننا إلى هذه النقائص فينا حتى نبدأ فى إصلاحها ، وما أجدرنا أن نتذكر حين يؤلمنا هؤلاء وحين نضيق بهم ذرعا أنهم هم الذين يحبوننا حقا ، وهم الذبن يودون حقا إعادتنا إلى سابق مجدنا أنا لا أحاول أن أقول إننا يجب أن لا نألم إذا سمعناهم يلحون فى إنتقادنا ، فشىء طبيعى أن يألم كل إنسان حين يذكر له نقصه ، ولكنى أريد أن أقول إنه يجب أن نتمالك غيظنا وسخطنا ، وألا نصيب هؤلاء المصلحين ، بالأذى القولى والمادى ، ثم لاندرك خطأنا ولانتبين حرصهم الصادق على ما فيه خيرنا إلا بعد موتهم ، فننصب لهم التماثيل الصماء ونقيم لهم حفلات الذكرى ونتحسر على ما قدمنا لهم من إساءة ، ولات حين ندم .
فى الشهر الماضى ألقيت محاضرة بدار الثقافة ، أسميتها (الثقافة العربية بين المقلدين والمجددين) .وضمنتها إحدى هذه الحقائق المؤلمة ، وهى أن ثقافتنا المعاصرة على غاية من الفقر 0وذكرت لهذا الثقافى الشديد سببين جوهريين .أولهما أننا أهملنا تراثنا من الثقافة العربية ، فلم نعد ندرسه ، ولم نعد نهتم به حقا ، إنما اكتفينا بالتشدق بهذا التراث ،والتغنى بما كان لأجدادنا من ثقافة ، دون أن نعرف من هذه الثقافة شيئا 0والسبب الثانى أننا لم نطلع من ثقافة الغرب إلا على أحطها واتفهها ، وأشدها مياعة وهزالا ، ولم ندرس ما للغرب من ثقافة حقة متينة ، علمية وأدبية .
أنا أعجب أشد العجب ، كيف يستطيع إنسان أن ينكر هذه الحقيقة ، أن ينكر أننا جهلاء شديدو الجهل ، جهلاء بثقافة الغرب الصحيحة ، جهلاء بالثقافة العربية البديعة .
كم منا درس الكندى ، والفارابى ، وابن سينا ، وابن رشد ؟؟
كم منا درس البيرونى ، والرازى ، وابن خلدون ؟؟
هؤلاء الذين يحتفل بهم المستشرقون احتفالا ، ويتقنون كتبهم إتقانا ، ويطبعونها طبعات هى آية فى العناية المدققة وفى الجهد السخى وفى الأمانة .
كم منا حاول أن يقرأ ديوان زهير بن أبى سلمى ، أو ديوان عمر بن أبى ربيعة ، أو ديوان أبى نواس ، أو لزوميات أبى العلاء ، ولم يكتف بقطعهم المشهورة التى توجد فى الكتب المدرسية ؟؟
بل ، كم منا ، نحن الذين ندعى أننا مسلمون ، اهتم بدراسة القرآن دراسة جدية ، فلم يكتف بتلاوته تلاوة لا تفهم فيها ، بل توقف عند معانى الألفاظ ، وأسباب النزول ، والملابسات التاريخية التى أحاطت بتعدد سوره وآياته ، والتى بدونها لا يمكن أن يفهم حق الفهم ؟؟
فإذا كنا أهملنا تقافتنا القديمة إلى هذا الحد ، فكيف يحق لنا أن نتباهى بأجدادنا دون أ ن تكون لنا ثقافة حديثة إذا لم تبن على أساس من ثقافتنا القديمة ؟؟
وكيف تكون هذه الثقافة الحديثة إذا اكتفينا من هذه الثقافة الغربية العظيمة بهذه السخافات الحقيرة التى يفردها بالترجمة أكثر مترجمينا ، وبهذه القصص الشهوانية التى ما هى من الأدب الصحيح فى شىء .
إنما يراد بها إثارة أحط غرائزنا الجنسية ، وبهذه الصور العارية الخليعة التى تزدحم بها أكثر مجلاتنا ، وما هى من الفن الصحيح فى شىء ، إنما يقصد بها نفس الغرض 0فإذا قام أحدنا فنبهنا إلى هذا وذكرنا بأننا استسلمنا إلى الجهل السحيق منذ ما يقرب من ألف سنة وحثنا على أن نهتم بتراثنا الثقافى اهتماما جادا ، وندرسه دراسة متفهمة ذكية ، وبأن ندرس من ثقافة الغرب أجودها وأصحها ، فكيف نرميه بأنه عدو لنا ، عدو لثقافتنا يهاجمها لينتقص منا ويحط من شأننا ؟
كيف نغفل عن هذه الحقيقة :أنه لم يكن يريد حطتنا لتركنا فيما نحن فيه من حهل مخجل ، وأنه حين ينبهنا إلى نقصنا فيؤلمنا بذلك ، فهو يفضل أن يزعجنا إلى حد أن نتبرم به ,ان نكرهه ، عن أن يدعنا إلى الأبد نتمرغ فى حمأة جهلنا المخزى .
لعل أحد قرأئى يسألنى : قد أسلم لك بكل ذلك ولكن لم اخترت أن تلقى محاضرتك تلك بالإنجليزية فتعطى الأجانب فرصة العلم بجهلنا ونقصنا ؟؟
جوابى على السؤال بسيط جدا ، وقد أشرت إليه فى تلك المحاضرة نفسها هو أن نقصنا هذا معزو إلى حد كبير إلى هؤلاء الأجانب الذى حكمونا وتحكموا فينا أجيالا ، أو الذين يتعيشون علينا ويرتزقون منا ، وما إهتموا بإصلاح جهلنا أو إكتمال ثقافتنا ، اللهم إلا أقل إهتمام وأهزله. فأنا كما ذكرت فى المحاضرة أريد أن ألفتهم إلى أن عليهم واجبا نحونا أهم من حفظ الأمن وضبط الشئون المالية إلى آخر تلك الواجبات الإدراية .أردت أن أقول لكل الجاليات الأجنبية بالخرطوم من بريطانيين ويونان وإيطاليين وأرمن إلى آخر مللهم وأجناسهم ، أن واجبكم نحو هذه البلاد لايقتصر على أن تحسنوا إدارتها او تنظموا تجارتها، بل واجبكم أن تعينوها على ترقية تعليمها ، والنهضة بثقافتها .
هل يحتاج أحد قرائى إلى أن أذكره أنه بدون التعليم الراقى والثقافة المتينة لايرجى لأى قطر نهضة حقيقية ، وإن هذه النهضة ، من جميع وجهاتهاالسياسية ، والأقتصادية ، والإجتماعية ، إن لم تقم على ثقافة أصيلة فهى نهضة زائفة قصيرة الأجل .
كيف إذن يتهمنى متهم بأنى صنيعة الإنجليز ، وبأنهم ما جلبونى إلا لأخدم أغراضهم ، واسب العرب وثقافتهم ، وأهاجم هذا الشعب؟؟
أما كان خير خدمة لهذه الأغراض أن تتركه فيما هو فيه من جهل ، وألا أحاول إستسارته واستنهاضه ، حتى يتسنى لهم إلى الأبد أن يحكموه ، معتذرين بأنهم لا يجدون من أبنائه من عنده الثقافة الكافية لتولى شئونه ؟؟؟
وبعد ، فيا أبناء السودان اسمحوا لى أن أقول لكم على صفحات هذه الجريدة ما قلت لطلبتى فى كلية غرودون حين تألم بعضهم من بعض ماقلت فى محاضراتى لهم :مهما خالفتم بعض الآراء التى أبديتها .ومهما آلمتم من صراحتى .فأسالوا أنفسكم هذا السؤال :لما أكلف نفسى كل هذا العناء ، واعرض نفسى إلى سخطكم ، ولما لا أكتفى بالتدريس الرسمى الآلى ، وفيه راحة جسمى وعقلى وضمان الصفاء بيننا ؟؟؟
السبب فى ذلك ، أننى أريد ان أخدمكم حقا ، بكل ما يستطيعه جهدى الضعيف ، أريد أن أعينكم على ترقية تعليمكم ، واكمال ثقافتكم .
أريد أن أشارك فى بناء هذا الأساس الذى بدونه لن تنالوا مجدا حقيقيا ....ألا أن كل يوم أقضيه فى السودان ، اُعلم أبناءه ، وأحارب جهلهم ، واقتلع خرافاتهم ، واطلق عقولهم من قيودها ، إنما هو تقصير لأمد السيادة الأجنبية فى هذا البلد ، إذ هو خطوة ، مهما تكن ضئيلة ، نحو جعل أبنائه رجالا يواجهون الحياة بجرأة وبأمانة ، ويستطيعون أن يتحملوا أثقال الحكم بشجاعة وبحكمة ، وأن ينهضوا بمرافق هذا البلد ، فيكون منهم الجامعيون ، والأدباء المثقفون ، ورجال العلم المبتكرون ، والأطباء والمهندسون والفنيون من كل نوع .
هذا هوالسبب الذى من أجله تركت منصبى السابق بجامعة لندن ، وجئت إلى بلدكم 0يازهرة شباب السودان ..إنى ما جئت إلى بلادكم مرتزقا .
ما جئت إليها وكل همى أن أؤدى تدريسى بطريقة آلية ، وأتسلم مرتبى الضخم ، فأقتصد فى البنك أغلبه ، وأعود إلى بلدى بعد بضع سنوات حاملا معى آلاف الجنيهات ، وأعيش عليها بقية أيامى عيشة رخية ، تاركا إياكم فيما وجدتكم فيه من الجهل والخطأ .
هذا شىء لا أرضاه لنفسى . خير لى ألف مرة أن أترك كلية غوردون فأذهب فأفتح فى أم درمان كُتّابا ..أعلم فيه أطفال هذا البلد التعس الف باء .ذلك يكون خيرا من التدريس الآلى العقيم الذى لا يحرر عقلا ، ولا يشحذ ذهنا ، يكون خيرا لهذا البلد الذى اكتسب فيه قوتى ، وآخذ منه غذائى ، وأجمع فيه ثروتى ...ألا تبت يدى ، وشل لسانى إن خطت يدى سطرا ، أو نطق لسانى بجملة ، ليس قصدى منهما إنهاض هذه الأمة ، وبناء الأساس الصحيح لعظمتها ، الصادقة ، مهما أزعج أبناءها ، وأغضبهم على ، وكرههم فى .
بل إنى لواثق إنهم لن يمضى عليهم طويل وقت قبل أن يتبينوا بذكائهم المشهود من هو الذى يخدمهم حقا !! [/align]
****************
هذه المقالات الرائدة والتى كتبها الدكتور النويهى ، إبان تواجده بالسودان ، ومن اللحظة التى وطئت قدماه أرض السودان ، كان العاصفة التى تقلتع الثوابت وتهدم الأصنام وتعيد ترتيب الحياة كما ينبغى أن تكون ،ولم تُجمع هذه المقالات والردود ، بدءا من 9/3/1947 تاريخ أول إحتكاك له بالمجتمع السودانى ، وعمله بكلية غوردون أستاذ اللغة العربية ،وحتى تقديمه الإستقالة ومقالته إلى اللقاءياشعب السودان 3/4/1956
هذه المقالات هى أهم منجزاته وآرائه وزبدة أفكاره ، قد نختلف وقد نتفق معها ، لكنها تبقى تراثا خالدا وأدبا رفيعا وفكرا ناضجا وثورة تقدمية ودفعة حضارية وإعلاء شأن العقل والسعى لإقامة مجتمع إنسانى متحضر برجاله ونسائه ، واللحاق بركب التقدم والرفاهية والعلم والثقافة والحرية .
هذه المقالات العزيزة على نفسى والقريبة من روحى وعقلى ووجدانى. أنشرها ولأول مرة فى مصر .
هدية مباركة أقدمها للملتقى [align=justify]شاكراً السيدة الفاضلة الأستاذ ة / نوال يوسف (حرمى المصون )التى خاضت غمار الصعاب والمستحيل .مفتشةً فى ذاكرة الماضى .منقبةً فى الأضابير. مزيلةً التعتيم المتعمد والمقصود عن تراثه المتناثر فى الصحف والمجلات ،وعودة الروح فيه من جديد .
________________
مصرى ..........ولكن
الخرطوم ....لمراسل المسامرات الخاص:
إختارت كلية غوردون أحد الأساتذة المصريين الذين كانوا يدرسون اللغة العربية فى الجامعات البريطانية لتدريس هذة اللغة بالكلية .وفى مساء 12فبراير الماضى ، حيث كانت مدرسة فاروق تحتفل بعيد ميلاد صاحب الجلالة الملك المعظم ، كان هذا الأستاذ يلقى محاضرة فى دار الثقافة بالخرطوم لا ليمجد هذا اليوم ولكن ليشتم كل ما هو عربى باللغة الإنجليزية الفصحى على جمع أغلبيته من البريطانيين ...ثم ليمس الناحية السياسية برفق معززا آراء الإنجليز .
قال : إن العقلية العربية منحطة ولا يمكن أن ترتفع من هذا الحضيض إلا إذا رويت وشبعت من الثقافات الأوروبية وخاصة الإنجليزية .وإن خير شاعرين فى العصر الإسلامى هما أبو نواس وإبن الرومى وهذان كانا يجرى فيهما دم أجنبى غير الدم العربى .وإن الشعوب العربية الحديثة كالعراق والسودان ومصر تختلف عن بعضها عن بعض ويجب أن يكون لكل شعب ذاتيته وثقافته الخاصة ، إلى آخر هذا الهراء الذى يعمد الإستعمار على بثه فى رؤوس الطلاب عن طريق أستاذ مصرى !!!وقد قابل بعض السودانيين هذه المحاضرة بثورة فناقشوا المحاضر مناقشة حادة وشددوا عليه النكير .ولم يكد الخبر يسرى فى العاصمة السودانية حتى قابله عامة الناس بالأسف ..وقابله المصريون خاصة بالخجل .
9/3/1947
ولكن الدكتور النويهى ما إن يقرأ هذه الكلمات المغرضة ...إلا ويسارع بنشر مقالة بعنوان :
لماذا جئت إلى السودان
وتنشر فى جريدة الرأى العام الأكثر إنتشارا بتاريخ 17/3/1947
هناك حقائق كثيرة لانحب نحن الناطقين بالعربية أن نلتفت إليها ، لأنها حقائق كريهة أليمة ، فنحن ننزعج إذ حاول واحد منا أن يذكرنا بها ، ونتبرم بهذا المذكر بل نكرهه أشد كرهه ، ولكن لاترجى لنا نهضة ولا رقى إلا إذا كان من بيننا جماعة لايعبأون بما يثيره فينا من إنزعاج أو كره ، ولايفتأون ينبهوننا إلى هذه النقائص فينا حتى نبدأ فى إصلاحها ، وما أجدرنا أن نتذكر حين يؤلمنا هؤلاء وحين نضيق بهم ذرعا أنهم هم الذين يحبوننا حقا ، وهم الذبن يودون حقا إعادتنا إلى سابق مجدنا أنا لا أحاول أن أقول إننا يجب أن لا نألم إذا سمعناهم يلحون فى إنتقادنا ، فشىء طبيعى أن يألم كل إنسان حين يذكر له نقصه ، ولكنى أريد أن أقول إنه يجب أن نتمالك غيظنا وسخطنا ، وألا نصيب هؤلاء المصلحين ، بالأذى القولى والمادى ، ثم لاندرك خطأنا ولانتبين حرصهم الصادق على ما فيه خيرنا إلا بعد موتهم ، فننصب لهم التماثيل الصماء ونقيم لهم حفلات الذكرى ونتحسر على ما قدمنا لهم من إساءة ، ولات حين ندم .
فى الشهر الماضى ألقيت محاضرة بدار الثقافة ، أسميتها (الثقافة العربية بين المقلدين والمجددين) .وضمنتها إحدى هذه الحقائق المؤلمة ، وهى أن ثقافتنا المعاصرة على غاية من الفقر 0وذكرت لهذا الثقافى الشديد سببين جوهريين .أولهما أننا أهملنا تراثنا من الثقافة العربية ، فلم نعد ندرسه ، ولم نعد نهتم به حقا ، إنما اكتفينا بالتشدق بهذا التراث ،والتغنى بما كان لأجدادنا من ثقافة ، دون أن نعرف من هذه الثقافة شيئا 0والسبب الثانى أننا لم نطلع من ثقافة الغرب إلا على أحطها واتفهها ، وأشدها مياعة وهزالا ، ولم ندرس ما للغرب من ثقافة حقة متينة ، علمية وأدبية .
أنا أعجب أشد العجب ، كيف يستطيع إنسان أن ينكر هذه الحقيقة ، أن ينكر أننا جهلاء شديدو الجهل ، جهلاء بثقافة الغرب الصحيحة ، جهلاء بالثقافة العربية البديعة .
كم منا درس الكندى ، والفارابى ، وابن سينا ، وابن رشد ؟؟
كم منا درس البيرونى ، والرازى ، وابن خلدون ؟؟
هؤلاء الذين يحتفل بهم المستشرقون احتفالا ، ويتقنون كتبهم إتقانا ، ويطبعونها طبعات هى آية فى العناية المدققة وفى الجهد السخى وفى الأمانة .
كم منا حاول أن يقرأ ديوان زهير بن أبى سلمى ، أو ديوان عمر بن أبى ربيعة ، أو ديوان أبى نواس ، أو لزوميات أبى العلاء ، ولم يكتف بقطعهم المشهورة التى توجد فى الكتب المدرسية ؟؟
بل ، كم منا ، نحن الذين ندعى أننا مسلمون ، اهتم بدراسة القرآن دراسة جدية ، فلم يكتف بتلاوته تلاوة لا تفهم فيها ، بل توقف عند معانى الألفاظ ، وأسباب النزول ، والملابسات التاريخية التى أحاطت بتعدد سوره وآياته ، والتى بدونها لا يمكن أن يفهم حق الفهم ؟؟
فإذا كنا أهملنا تقافتنا القديمة إلى هذا الحد ، فكيف يحق لنا أن نتباهى بأجدادنا دون أ ن تكون لنا ثقافة حديثة إذا لم تبن على أساس من ثقافتنا القديمة ؟؟
وكيف تكون هذه الثقافة الحديثة إذا اكتفينا من هذه الثقافة الغربية العظيمة بهذه السخافات الحقيرة التى يفردها بالترجمة أكثر مترجمينا ، وبهذه القصص الشهوانية التى ما هى من الأدب الصحيح فى شىء .
إنما يراد بها إثارة أحط غرائزنا الجنسية ، وبهذه الصور العارية الخليعة التى تزدحم بها أكثر مجلاتنا ، وما هى من الفن الصحيح فى شىء ، إنما يقصد بها نفس الغرض 0فإذا قام أحدنا فنبهنا إلى هذا وذكرنا بأننا استسلمنا إلى الجهل السحيق منذ ما يقرب من ألف سنة وحثنا على أن نهتم بتراثنا الثقافى اهتماما جادا ، وندرسه دراسة متفهمة ذكية ، وبأن ندرس من ثقافة الغرب أجودها وأصحها ، فكيف نرميه بأنه عدو لنا ، عدو لثقافتنا يهاجمها لينتقص منا ويحط من شأننا ؟
كيف نغفل عن هذه الحقيقة :أنه لم يكن يريد حطتنا لتركنا فيما نحن فيه من حهل مخجل ، وأنه حين ينبهنا إلى نقصنا فيؤلمنا بذلك ، فهو يفضل أن يزعجنا إلى حد أن نتبرم به ,ان نكرهه ، عن أن يدعنا إلى الأبد نتمرغ فى حمأة جهلنا المخزى .
لعل أحد قرأئى يسألنى : قد أسلم لك بكل ذلك ولكن لم اخترت أن تلقى محاضرتك تلك بالإنجليزية فتعطى الأجانب فرصة العلم بجهلنا ونقصنا ؟؟
جوابى على السؤال بسيط جدا ، وقد أشرت إليه فى تلك المحاضرة نفسها هو أن نقصنا هذا معزو إلى حد كبير إلى هؤلاء الأجانب الذى حكمونا وتحكموا فينا أجيالا ، أو الذين يتعيشون علينا ويرتزقون منا ، وما إهتموا بإصلاح جهلنا أو إكتمال ثقافتنا ، اللهم إلا أقل إهتمام وأهزله. فأنا كما ذكرت فى المحاضرة أريد أن ألفتهم إلى أن عليهم واجبا نحونا أهم من حفظ الأمن وضبط الشئون المالية إلى آخر تلك الواجبات الإدراية .أردت أن أقول لكل الجاليات الأجنبية بالخرطوم من بريطانيين ويونان وإيطاليين وأرمن إلى آخر مللهم وأجناسهم ، أن واجبكم نحو هذه البلاد لايقتصر على أن تحسنوا إدارتها او تنظموا تجارتها، بل واجبكم أن تعينوها على ترقية تعليمها ، والنهضة بثقافتها .
هل يحتاج أحد قرائى إلى أن أذكره أنه بدون التعليم الراقى والثقافة المتينة لايرجى لأى قطر نهضة حقيقية ، وإن هذه النهضة ، من جميع وجهاتهاالسياسية ، والأقتصادية ، والإجتماعية ، إن لم تقم على ثقافة أصيلة فهى نهضة زائفة قصيرة الأجل .
كيف إذن يتهمنى متهم بأنى صنيعة الإنجليز ، وبأنهم ما جلبونى إلا لأخدم أغراضهم ، واسب العرب وثقافتهم ، وأهاجم هذا الشعب؟؟
أما كان خير خدمة لهذه الأغراض أن تتركه فيما هو فيه من جهل ، وألا أحاول إستسارته واستنهاضه ، حتى يتسنى لهم إلى الأبد أن يحكموه ، معتذرين بأنهم لا يجدون من أبنائه من عنده الثقافة الكافية لتولى شئونه ؟؟؟
وبعد ، فيا أبناء السودان اسمحوا لى أن أقول لكم على صفحات هذه الجريدة ما قلت لطلبتى فى كلية غرودون حين تألم بعضهم من بعض ماقلت فى محاضراتى لهم :مهما خالفتم بعض الآراء التى أبديتها .ومهما آلمتم من صراحتى .فأسالوا أنفسكم هذا السؤال :لما أكلف نفسى كل هذا العناء ، واعرض نفسى إلى سخطكم ، ولما لا أكتفى بالتدريس الرسمى الآلى ، وفيه راحة جسمى وعقلى وضمان الصفاء بيننا ؟؟؟
السبب فى ذلك ، أننى أريد ان أخدمكم حقا ، بكل ما يستطيعه جهدى الضعيف ، أريد أن أعينكم على ترقية تعليمكم ، واكمال ثقافتكم .
أريد أن أشارك فى بناء هذا الأساس الذى بدونه لن تنالوا مجدا حقيقيا ....ألا أن كل يوم أقضيه فى السودان ، اُعلم أبناءه ، وأحارب جهلهم ، واقتلع خرافاتهم ، واطلق عقولهم من قيودها ، إنما هو تقصير لأمد السيادة الأجنبية فى هذا البلد ، إذ هو خطوة ، مهما تكن ضئيلة ، نحو جعل أبنائه رجالا يواجهون الحياة بجرأة وبأمانة ، ويستطيعون أن يتحملوا أثقال الحكم بشجاعة وبحكمة ، وأن ينهضوا بمرافق هذا البلد ، فيكون منهم الجامعيون ، والأدباء المثقفون ، ورجال العلم المبتكرون ، والأطباء والمهندسون والفنيون من كل نوع .
هذا هوالسبب الذى من أجله تركت منصبى السابق بجامعة لندن ، وجئت إلى بلدكم 0يازهرة شباب السودان ..إنى ما جئت إلى بلادكم مرتزقا .
ما جئت إليها وكل همى أن أؤدى تدريسى بطريقة آلية ، وأتسلم مرتبى الضخم ، فأقتصد فى البنك أغلبه ، وأعود إلى بلدى بعد بضع سنوات حاملا معى آلاف الجنيهات ، وأعيش عليها بقية أيامى عيشة رخية ، تاركا إياكم فيما وجدتكم فيه من الجهل والخطأ .
هذا شىء لا أرضاه لنفسى . خير لى ألف مرة أن أترك كلية غوردون فأذهب فأفتح فى أم درمان كُتّابا ..أعلم فيه أطفال هذا البلد التعس الف باء .ذلك يكون خيرا من التدريس الآلى العقيم الذى لا يحرر عقلا ، ولا يشحذ ذهنا ، يكون خيرا لهذا البلد الذى اكتسب فيه قوتى ، وآخذ منه غذائى ، وأجمع فيه ثروتى ...ألا تبت يدى ، وشل لسانى إن خطت يدى سطرا ، أو نطق لسانى بجملة ، ليس قصدى منهما إنهاض هذه الأمة ، وبناء الأساس الصحيح لعظمتها ، الصادقة ، مهما أزعج أبناءها ، وأغضبهم على ، وكرههم فى .
بل إنى لواثق إنهم لن يمضى عليهم طويل وقت قبل أن يتبينوا بذكائهم المشهود من هو الذى يخدمهم حقا !! [/align]