إعلاءً لقيمة الصداقة
إلى كل الأصدقاء والزملاء في ملتقى القصة
.................................................
... لا ترهق نفسكإلى كل الأصدقاء والزملاء في ملتقى القصة
.................................................
عندما يرحل المعنى
أستاذي ربيع عقب الباب
فلن تجد في قاع اللغة كلمات تستطيع أن تصفعني بها في خدي الأيسر..
فأنا بأيّ حال من الأحوال لست أحقر من سواي..!
لم يرق لأمي مساء الأمس، فقد كان ذابلاً. تركته خلفها، وقفزت فوق سور العمر كفتاة تفتح صدرها المكتنز لأول مرة في وجه الربيع، استقرت في الطابق التسعين من عمرها، وظلت إلى الآن تلملم في حروف الغياب حرفاً حرف..
وكخفاش أعمى في وضح النهار راقبتها..
جمعت ببطء أناملها اليابسة، وزجتها بعنف حميم في نسيج اللغة، بعثرت حروف الكون كيفما اتفق، اصطادت أكثر الحروف بريقاً، أمسكت بحافته واعتدلت في جلستها، صنعت منه بمهارة يحسدها عليها كل من يراقبها ثقباً جديداً في سقف ذاكرتها دون أن ينتابها أدنى شعور بالذنب، لتسقط حروف الأسماء بلا رحمة من مجمل إيقاع نسيجها الداخلي، حتى اسم أبي لم ينج من هذا النسيان المقصود.
كان اسم أبي من أوائل الأسماء التي صنعت منها أمي ثقوباً في ذاكرتها..
تذكرتُ أن أبي علمني كيف أهب للظلام، وبريق النقود إقامتين ساريتي المفعول في داخلي، فالنقود كما قال لي قبل رحيله بيوم واحد، لا تتراكم إلا في جيوب الذين يفكرون في الظلام..
تأكدتُ بأني سأطبق وصاياها القيمة بحذافيرها، ولأني ابن أبي، أقتربتُ من أمي بعقلية استثمارية لا تحترم إلا من له رنين يشبه أنين الدراهم..
رفعتُ رأسها قليلاً عن الوسادة التي كانت تتكئ عليها، أفرغتُ قليلاً من الدواء السائل في بطن ملعقة، وقربته من فمها. امتصت من يدي جرعة الدواء بهدوء لم أعهده فيها. ساعدتها على التمدد على الفراش على الجانب الذي يريحها، ويريحني في ذات الوقت، رميتُ على جسدها الهزيل غطاء ناعم الملمس، نهضتُ جهة مفتاح المروحة الملتصق بالحائط، اخترتُ من الأرقام المنحوتة في قلب المفتاح أعلى الأرقام سرعة، وتركتُ لأجنحة المروحة مهمة توزيع الهواء المنعش في أنحاء الغرفة، وعدتُ وجلستُ بجوارها، بحلقتُ فيها وهي مغمضة العينين. أطرافها ساكنة، لا حركة تنم على إنها على قيد الحياة، سوى ذلك التنفس غير المنتظم. تأملتُ تجاويف رأسها وكأنني أراقب جثة هامدة موضوعة على طاولة قذرة يعبث بها طلاب السنة النهائية في كلية الطب..
الثقوب تتناسل وتتكاثر في سقف ذاكرتها، لم يعد هناك فسحة لثقب آخر. تململت قليلاً وكأنها شعرت بفضولي، أيقظت بإشارة منها حاسة الحذر، سورت ثقوبها وغلفتها بشريط من الحرير، ورسمت في ملامحها معالم ضحكة ساخرة..
تركتها وانزويت في الجانب الآخر من المنزل، راجعت في ذهني كل وصايا أبي. دبَّ الحماس في شياطيني. أشعلتُ بعود ثقاب مبتل بماء رغباتي لفافة تبغ محشوة بحبيبات من الخبث داكنة الخضرة، حاولت أن أغضُّ الطرف عن شهاداتي المعلقة على الحائط، وهي تخرج لسانها ساخرة مني في كل مرة أنظر إليها. تذكرتُ تفاصيل تخصصي العلمي النادر في لغة الملامح. لم يكن أبي مسطحاً حتى يجعلنى أدرس على حسابه علماً غير نافع. إنه يدرك أهمية هذا العلم. يريدني إذن أن أقرأ ما يدور في ملامح أمي..
لا بأس سأفعل ذلك...
تأملت ملامحها، وقرأتُ بسهولة ما تختزنه من كلام..
" كل الأسماء تستحق وبجدارة أن يتسلل وباء النسيان في مفاصلها، إلا اسم واحد. اسم ينام فوق نسيج الدم، ويملأ كل فراغ من فراغات الذاكرة، عدا ذلك فلتنم باق الأسماء كحجارة في بطن البحر "..
فكرتُ قبل أن أعرف من هو صاحب الاسم الذي قاوم كل تلك الثقوب، وكتبته أمي على الشريط الحريري الذي سورت به ثقوبها، فكرتُ وفق ما تمليه عليه عقليتي الاستثمارية، أن أسرق منها هذه الثقوب خلسة، بعدما فشلتُ في إقناعها بأني أنا ابنها الخامس وفق الترتيب التصاعدي، وعليه يجب أن أرث هذه الثقوب كي أصنع منها مجموعة غرابيل بائسة، أبيعها لمنظمة تدعي إنها تنتمي لحقوق الإنسان لتوزعها في أطراف إفريقيا أو عمقها..لا فرق، علها تساعد أحد المتضررين من الحروب، أو لا تساعده في التقاط حبات من الذرة أو السمسم المدسوسة في بطن التراب..
تفاصيل دراسة الجدوى لهذا المشروع الخطير، جمعت لها كل المعلومات الممكنة، وكتبتها بلغة رفيعة، وجعلتُ أرقامها تدور في فلك الدولار، وطبعتها في ورق مصقول على ماكينة ليزر ملونة..
تفاصيل الدراسة في منتهى الدقة ومحكمة وجديرة بالنجاح، وعلى جميع منظمات حقوق الانسان أن تدرك ذلك، وحالما أتمكن من هذه الثقوب، وتستقر في جيبي، سأسجلها باسمي في سجلات المصنفات العلمية، وحقوق الملكية الفكرية، وكل الحقوق المجاورة، لا سيما إنني سأفتح مصنعاً يعتبر الوحيد من نوعه في المنطقة يهتم بمثل هذا النشاط. فبدلاً من لفافات الطعام الجاهزة والمعلبة، التي ترميها طائرات مشبوهة فوق رؤوس الجوعى، لم لا نجعل من فقراء إفريقيا أناس منتجين، فكل بطن خاوية، أو عين زائغة عليها أن تمتلك غربالها الخاص، تحفر الأرض بأظافرها الهشة، وتغربل ذرات التراب ذرة ذرة، وتجمع الذرة حبة حبة، وبحسابات دقيقة تستطيع أن توفر المنظمة التي سأتعاقد معها أكثر من سبعين في المئة من المنصرف الذي كان يجب أن يصرف عند سقوط أكياس الطعام جيدة الصنع من الفضاء.
مدير المنظمة شاب طموح ومتطلع ومغامر، لا يرضى أبداً بالكرسي الذي يجلس فيه، ودائماً ما ينظر للكرسي الأعلى منه درجة. نحيف أزرق العينين، ويقاربني في العمر، وفي الأفكار المغايرة أيضاً..
قبل أن يصبح مديراً كان إنساناً جميلاً، وذكياً، ونشطاً، ولسان حال زملائه في وجه المظالم، وينصرهم ظالمين أو مظلومين. اصطاده المدير السابق ذات مساء ماطر وانزوى به في ركن قصي، قدم له وعوداً براقة مقابل أن يشيد في الحال قفصاً ذهبي اللون لحفيدته. لم يأخذ التفكير منه وقتاً طويلاً، استحى أن يوافق في الحال، وخاف أن تحلق الفرصة بعيداً عنه. أخذ بيد حفيدة المدير، وخرج بها من القفص ودخل بها إلى المطبخ، أشعلا غاز البيوتان وطبخا ثمار الحب على موقد الليلة الأولى، تناولا قليلاً منها ثم احتفظا بالباقي لليلة الغد، وفي صباح اليوم التالي قبض المدير السابق كافة مستحقاته مقابل الخمسين عاماً التي قضاها مديراً للمنظمة، وأفسح الطريق الآن لزوج حفيدته الوحيدة ليقضي بدوره خمسين عاماً أخرى.
حينما حدثتُ المدير الجديد عن الثقوب التي تصنعها أمي في سقف ذاكرتها، وتسقط عبرها الأسماء التي مرت في حياتها بسرعة وبمهارة تثيران الإعجاب، راق له الأمر. قادني إلى منزله وعرفني بزوجته التي فتحت لنا قارورة نبيذ عمرها مائة عام. كانت ترتدي ثوب حريري شفاف، شعرها مسدل وهائج ويكاد أن يفر من بين ثقوب المنديل الذي يلتف حول رأسها. تأملت بشرتي السمراء وهي تصبُّ قطرات من النبيذ فوق كرات من الثلج، وقبل أن تبتل عروقي اشترطت عليّ أن أجلب لزوجها المدير عينات من تلك الثقوب، قبل أن نبرم العقد المعد سلفاً بيننا. مست بساقها فخذي وكأن الأمر صدفة. ابتسمتْ وأكدت بصوت مثير أن الابن الخامس في الأُسر العريقة دائماً هو الأحق من غيره في استثمار مواهب أمه، إن كان لديها موهبة. والآن وبما إنني ابنها الخامس والأحق من سواي وفق ما قالته زوجة مدير المنظمة، عليّ أن أمتلك تلك الثقوب برضاها، أو من غير رضاها، ولكن عليّ أولاً أن أعرف لماذا لم تسقط أمي حروف ذلك الاسم من ذاكرتها عبر هذه الثقوب التي تصنعها يومياً؟، فهي التي أسقطت أسماء أبنائها العشرة اسماً اسماً، فلم يهزمها هذا الاسم الذي يتشكل فوق ملامحها؟..
نعم..
يسميني البعض عالماً في لغة الملامح، ولكن جانباً من هذه الملامح التي تحتفظ بها أمي لم يصادفني في دراساتي التي جعلتني أستحق هذه الصفة. لا سبيل إذن سوى الرجوع للدراسة مجدداً، ومطالعة كل المراجع، والمصادر.
مدير منظمة حقوق الإنسان القمحي اللون تعاطف معي بإيحاء من زوجته الذكية، وأهداني جهازاً إلكترونياً محمولاً في حقيبة جلدية أنيقة ليساعدني في عملية البحث. شركات الاتصال بكل مسمياتها في العالمين الأول والثالث، وهي تعلن عن تضامنها مع فقراء إفريقيا تبرعت لفخامتي بعام كامل من الاشتراك المجاني في الشبكة العنكبوتية. العالم الثاني أرسل خطاب اعتذار رقيق في معانيه، وأنه لا إمكانيات له في الوقت الراهن لدعمي، وأكد بأنه يقف من خلفي معنوياً، ولن يتخلى عني أدبياً قط. وزارة الثقافة التي تم فصلها مؤخراً عن وزارة الإعلام، والتي بدورها فصلت عن وزارة الشباب، التي تم فصلها لاحقاً عن وزارة الرياضة، أعلنت في بيان رسمي..
" أن ثقوب أمي تعتبر من أجود ثقوب الذاكرة المتوفرة الآن في العالم الأول، ثقوب لا تجامل أحداً، ترمي المخلفات والأشياء التي ليست لها قيمة تذكر عبر بوابتها، وبذات الطريقة الأسماء، مهما كان نوع وموقع الاسم مادام قررت أن تسقطه وإلى الأبد. لذا وزارة الثقافة تدعم دعماً واضحاً الفكرة التي تسعى لتصنيع غرابيل ستكون حتماً مصدراً مهماً من مصادرنا المالية، فلنشكر الله الذي جعل من بيننا امرأة لديها كل هذه المهارة في صناعة الثقوب، ونحمده مثنى وثلاث ورباع لأنه جعل من بيننا ابناً باراً بأمه كل هذا البر "..
باعتباري الوحيد في أسرتنا المكونة من عشرة أفراد الحائز على شهادات عليا من أشهر جامعات أوربا، يحق لي أن أسرق هذه الثقوب من سقف ذاكرة أمي بطريقة علمية لا تسبب لها أذى، أو أيّ نوع من أنواع الألم، وقبل القيام بعملية السرقة التي نؤكد على أهميتها جميعاً شعباً وحكومة، أريد أن أطمئن كافة الجماعات الدينية، المحلية منها والعالمية، بأنني استلمت ولله الحمد فتوى من كبار علمائنا بشرعيتها، ولكنها تشترط عليّ أولاً أن أخرج من ذاكرتها، وبرفق شديد الاسم الوحيد الذي ظل عالقاً في سقفها مهما كلف الأمر.
لا وقت لديّ لأضيعه، ومستقبل قارة إفريقيا يعتمد على ذاكرة أمي المتمددة فوق الفراش بعد أن تجاوز بها العمر التسعين سنة، ويمكن في أيّ لحظة أن تفارق الحياة، فحتماً ستحمل ثقوبها معها لتستقر في باطن الأرض..
الصقتُ رأسي برأسها، وقبلته ووضعته برفق على الوسادة. بحلقتُ في عينيها، تمعنتُ في الخطوط المرسومة في خدها الأيمن، تذكرت في لحظة هاربة كل أبجديات لغة الملامح..
لم تصدق عيناي ما تراه..
هاهو الألف الممدود يشغل مساحت خدها الأسمر..
قفزتُ من الفرح أكثر من مرة، ركضتُ صوب الغرفة المجاورة، تأبطتُ جهازي المحمول، تذكرتُ مدير المنظمة، اشتعل حماسي وتفتق ذهني، أخرجتُ من جيبي الأمامي عدسة محدبة صنعتها إحدى الشركات خصيصاً لهذه المهمة، الصقتها في جبهتها. الجرعة الزائدة التي أفرغتها في شريانها سراً أدت مفعولها وجعلتها في ثبات عميق. استبدلتُ عدساتي الطبية بأخرى أكثر تقعراً..
وفجأة حرف السين يعلن عن حضوره، وبسرعة أدرجته جوار الألف الممدود الذي اكتشفته مؤخراً على خدها الأيسر...
مثقلاً بالحزن كان الحرف قبل الأخير..
فالياء وهي تسبق الألف المستلقي أسفل شفتيها هي التي قادتني إلى تأجيل فكرتي الاستثمارية التي راقت للحكومة ومنظمات حقوق الأنسان وكل الوزارات المتداخلة في اختصاصاتها..
جمعتُ الحروف الأربعة التي تكون الاسم الذي تحتفظ به في ذاكرتها، وتصنمتُ أمام شاشتي البلورية، اكتمل الاسم، تاكدتُ بأن كل حرف في مكانه الصحيح، رفعتُ رأسي ببطء وعدتُ لأتأمل ملامحها من جديد..
لا أدري كيف حدث لي ما حدث، وجدتُ نفسي طريح الفراش، مشلول اليدين، خفيف كحبة قمح في مهب الريح.
أمي لم تعد أمي، الجسد نفسه، البشرة مازالت تحتفظ بلونها الباهت، الشرايين بارزة كخيوط تشيع الشمس إلى مثواها الأخير. الوجه تبدل وحل مكانه وجه جارتها الحاجة (آسيا) التي ماتت في الصيف الماضي..
شعرتُ بوخزة إبرة تدشن أول ثقوبي في سقف الذاكرة..
لا أعرف تاريخاً دقيقاً لهذه العلاقة التي جمعت بين أمي الحاجة (زينب) وصديقتها وجارتها الحاجة (آسيا)..
آخر أخوتي وفق الترتيب التنازلي والمهموم بالقضايا العربية، والفلسطينية بشكل خاص، استبدل مصطلح الجدار العازل بالجدار الواصل فيما يخص الجدار الذي يفصل بيت أمي عن بيت جارتها (آسيا)..
ما يفصلنا مجرد حائط مشترك من الطوب الأحمر..
من شيده أولاً..؟
نحن أم هم..؟
لا أحد يدري..، حتى أبي بعقليته الاستثمارية الفذة نسى لمن تؤول ملكية الحائط..
لم تخطر مثل هذه الأسئلة في ذهن واحد منا..
يتوسط الحائط باب متوسط الطول والعرض مصنوع من الخارصين الليبي. باب بلا قفل، يترنح في كل الأوقات وفق اتجاه الريح..
عدد أفراد أسرة (آسيا) يساوي عدد أفراد أسرتنا، ولكن ما يدور بين (آسيا) وأمي، كان خاصاً جداً، كأنهن يسبحن في فضاء إنساني لا نهائي. اتفقن اتفاقاً غير معلن وبدون كلمات، بدون أوراق، أو أختام، بأن يستبعدن عن هذا الفضاء كل ثغرة قد تلوثه، فلا تعامل مادي بين الطرفين، ولا تزاوج بين الأسرتين. خلافات الأبناء لا دخل لهن بها، فلكل جيل الحق في أن يعيش مرحلته كاملة بعيداً عما يربط بينهما..
عبر الصورة الممتلئة للحاجة (آسيا) التي غزت ذهني الآن، أدركتُ لماذا عادت أمي عندما افتقدتها في ظهر ذلك اليوم إلى فطرتها، واختارت عزلتها وعاشت مع أحلامها..
يدا (آسيا) تشكلان صورة لشخصية مستقلة باستطالة منمقة في الأصابع. العيون لديها ما يكفيها من اتساع، وهي الأشد حفاظاً على الأسرار بينها وبين أمي. لديها رهافة شعورية تسربت إلى وجدان أمي وأصابتها بالعدوى..
عبر ذات الاتفاق السابق اتفقن على أن لا ينتمين لفصيلة الجارات المتلصصات. ليس هناك وقت محدد للزيارة، فعندما تدخل علينا الحاجة (آسيا) فجأة وأمي منكفئة تعد الطعام، وسط نحيب الجوع الصادر من صغارها، وحالما تراها مقبلة نحوها، تنفرج أساريرها، ويجفف الصغار دموعهم، ترتج الأشياء وتتطاير فرحاً، وبعضها يتناثر ويتلاشى، تعتدل الأواني في جلستها، تغسل أطرافها، وتكشف عن أسنانها، تتسع الأسِرّة وتغطي هياكلها بأجمل الألوان. تجلس (آسيا) معنا أقل من خمس دقائق وتذهب. تمارس أمي معها طقوس الوداع كاملة، تتمشى معها إلى الباب القابع (كنفاج) في الجدار الواصل بيننا، يقفن، تنقضي أكثر من ساعة وأمي لا تعود، يطلين الجدار بحديث هامس ودود حتى أصبح الجدار كقشرة بطاطا مقلية. لا أدري هل يتطرقن للثقب الذي يهدد طبقة الأوزون بكل هذا الانتباه لبعضهما البعض، أم يخططن للهروب من وراء زوجيهما إلى القدس ليؤدين صلاة الفجر في المسجد الأقصى..
الجيران يتشابهون في مدينتنا، ولكن هذا الثنائي متشابه أكثر من غيره. لا تخطيط مسبق في جدولهما اليومي، لا يتركن خيطاً واحداً من خيوط الحضور الاجتماعي منفلتاً. فحينما تقرر أمي فجأة زيارة أسرةٍ ما في المدينة كي تتفقد أحوالها، أو بمناسبة ختان، أو زواج، أو عزاء في فقيد لهم، لا تعرض الأمر على جارتها (آسيا)، وإنما تدخل عليها بلا استئذان. تقف أمامها واضعة أصابعها العشرة في صدرها. ترسل لها (آسيا) واحدة من ابتساماتها الخاصة بها، فتضحك أمي بعمق للدرجة التي تجعلها تجلس في أول كرسي يقابلها، وبدون أن تسألها إلى أين أنت ذاهبة؟، تترك (آسيا) ما كانت منشغلة به. ترتدي ثوباً زاهياً بعد ما تؤكد لها أمي بأنه يصلح لهذا المشوار، ويخرجن كأنهن في مهمة عاجلة، إن لم يقمن بها في الحال سينفجر العالم تحت أقدام البشرية، ويتبعثر كأشلاء لا يمكن جمعها فيما بعد..
هذا التناغم وذاك التهامس كثيراً ما يثيران فيّ الفضول لمعرفة ما يدور بينهما. تسللت يوماً على أمشاطي، واختبأتُ خلف الحائط الذي يستندن عليه، وأرخيت ذيل السمع. لم أسمع شيئاً سوى موسيقى حالمة لا أرى مصدراً لها. يمتطين قطار الطفولة لينزلن منه في محطة الطفولة. عبثاً أبحث عن مقعد خال في هذا القطار، أتركهن، وأنا أضرب كفاً بكف..
ممدداً أنا الآن في فراشها، والإبر تثقب سقف ذاكرتي بلا رحمة. بينما تصبُّ أمي التي يحتل وجه (آسيا) مكان وجهها الشاي في كوبين من الزجاج. تتمكن (آسيا) التي يحتل جسد أمي مكان جسدها من استدارة تفاحة التقطتها من بطن صحن قابع بجوارها، تقشرها بزنابقها العشرة وتقسمها إلى قسمين، تعطي أمي النصف الأول وتحتفظ هي بالثاني..
تركتهن يتبادلن أكواب الشاي وشرائح التفاح، ودخلت في غيبوبة أنستني مؤقتاً دراسة الجدوى وأهمية صناعة الغرابيل، وبيعها لمنظمات حقوق الإنسان، ولكن إذا رحل المعنى بالنسبة لأمي برحيل صديقتها (آسيا)، فهذا ليس بشأني، وعليها أن تحتمل وحدها عبء الوفاء..
فأنا أعرف بأني حقير، ولكن حتماً لست أحقر من سواي.
تعليق