
استقبال السلطان الغوري للسفراء في دمشق 1511

باب زويلة
باب زويلة.. الباب الذي يتوسط السور الجنوبي للقاهرة ببرجيه المتوجين بمئذنتي مسجد المؤيد كعملاقين لا يأبهان بالأيام و لا يكترثان بالناس و الأحداث.. شهد هذا الباب العتيق الكثير من أحداث الأيام, و الأحداث التي تتصل بالباب العتيق ليست سارة.. فهي ترتبط بالدماء و إزهاق الأرواح.. فكم من رأس قطعت و علقت عليه و هي تقطر دماً ساخناً لزجاً سرعان ما يتجلط علي حجارة الباب فيصبغها باللون الأحمر, و كم من روح أخرجت غصباً من الجسد الذي تسكنه بعد أن جزت رأس صاحبها و تدلي جسده أمام فتحة الباب تكاد أقدامه تمس رؤوس السائرين.
علي جانب الطريق الصاعد إلي القلعة و المواجه للباب جلس عدد من البائعين و البائعات و ظهورهم لمسجد الصالح طلائع, وكانت نداءاتهم علي ما يبيعون تختلط مع وقع أقدام السائرين و سنابك الخيل و حوافر الحمير و البغال و ضحكات و كلام السائرين الساعين إلي قضاء حوائجهم و المتسكعين الذين لا هم لهم إلا الفرجة علي كل شيئ و خاصة النساء.
- ترمس الإنبابي لأحبابي.. نادت عجوزهي تجسيد حي لما تفعله الأيام بالناس, بيدها مذبة من الخوص تدفع بها جيوش الذباب عن بضاعتها من الترمس و الحلبة المنبتة و حمص الشام و فصوص الليمون.
- بوزة عمكم إدريس يا خلفة النسانيس.. كان ينادي عجوز نوبي بلكنة منغمة و أمامه إبريقان فخاريان في واحد منهما بوزة مرة و في الثاني المسكرة و أكواز نحاسية و " قرعات " و أعواد فجل و جرجير وقطع من الكبد النيئ متبلة بالشطة.. اقترب شاب عايق من مجلس إدريس و حياه بابتسامة ودودة تنبئ عن معرفة وطيدة.. دفع بضع فلوس في يده و قال و الكلام يختلط بضحكاته :
- اعطني قرعة من الحلوة يا شيخ القرود.. خذ من المرة يا خلفة النسانيس قالها إدريس دون عداء.. رد الشاب بقهر بين يكفي ما في حياتنا من المرارة يا عم إدريس.. استوصي بي و زدني من قطع الكبدة و أعواد الجرجير.. تناول القرعة و أخذ يرشف منها بلذة من يرشف رضاب المحبوب.. مسح فمه بظهر يده ثم وجه الكلام إلي إدريس و كأنه فيلسوف الغبراء :
- تذكر يا عم إدريس من كم يوم لا أدري فقد توقفت عن عد الأيام و تسميتها حين دار المنادي و قارع الطبل و المشاعلية و كان يكرر بوقع منذر " و كذلك يشنق من يبيع البوزة و الحشيش " تدخل محمد كرداسة الحشيشي ( بائع الحشيش و الأفيون ) في الحديث دون دعوة وهو يعدل أوراق الحشيش البستاني الخضراء التي أمامه : اليوم يشنق السلطان طومان باي الذي أمر بشنق من يبيع البوزة و الحشيش.. سبحان الله له في خلقه شؤون.

السلطان سليم الأول
مرت امرأة جسيمة لحيمة ذات عجيزة رجراجة – و للمصريات في مشيهن صنعة – جحظت عينا الشاب الذي يشرب البوزة و خرجت الكلمات من فمه منغومة ممطوطة بفعل الشبق و انتشاء السكر : يا جمل.. يا جميل.. يا ارض احفظي ما عليك.. يا محمل.. أموت أنا..
فجأة صرخت المرأة المعجزة و هي تقفز في الهواء عاوية كأنها وطئت جمراً ثم انكفئت علي وجهها محدثة دبة عالية جفل منها قط كان ينبش في كومة من القمامة.. ذعر الجميع وتعالت صرخات الألم من المرأة فجاوبتها ضحكات رقيعة من نفر من عسكر العثمانية كانوا يقفون عند البرج الأيمن للباب بعد أن نجح واحد منهم في التصويب علي ردفي المرأة.. قامت زنوبة تساعد المرأة المصابة وسقاها إدريس كوزاً من البوزة الحلوة وبمعاونة الر جال و معهم ذلك الذي كان يتغزل فيها منذ لحظات حملوها علي حمار مكاري.. زام الحمار من ثقل الحمل بينما لم يجرؤ واحد من البشر أن يفتح فاه.. و ذهبت زنوبة معها إلي دكان الحاج حسين الجرايحي في زقاق المسك ليضمد جراحها.. أحكم صمت العاجز قبضته علي الألسنة.. فحين يستبيح الغزاة مدينة يتعلم أهلها فضيلة الصمت و أن تكون عيونهم من زجاج و آذانهم من حجر وألسنتهم من فخار.
اقترب العسكري العثماني الذي صوب بندقيته علي ردفي المرأة فأصابهما.. كان يهز البندقية بزهو و خيلاء كأنه يحمل عصا سحرية وبطرفها أشار ناحية إبريق البوزة.. أسرع إدريس بصب قرعة ملأها حتي الحافة, و ملأ قرعة أخري فأتخمها بالترمس والحمص و الحلبة و الجرجير و الكبدة.. رطن العسكري بكلمات نغمتها تشي بأنها سباب و هو ينظر ناحية محمد كرداسة الذي سارع بحمل حزمتين من الحشيش الأخضر انتقاهما بعناية و مضي منكسراً خلف العسكري يحمل له قرعة المزة حتي وصل عند رفاقه.
حين عاد محمد كرداسة إلي مجلسه وجد علي مراد يجلس إلي جانب إدريس و بيده قرعة من البوظة و أمامه قرعة من المزة, حياه كرداسة و ناوله زبدية صغيرة بها أوراق الحشيش الخضراء.. أخذ علي مراد في احتساء البوزة علي مهل و مع كل رشفة يمد يده إلي عود من أعواد الجرجير أو أعواد الحشيش الأخضر.
علي مراد جاوز الأربعين بقليل.. نظيف الثياب.. شكله ينبئ بأنه من المياسير.. مرح و ابن حظ.. كريم يدفع بسخاء.. تربطه بإدريس و كرداسة و زنوبة صداقة الزبون السخي.. عادت زنوبة إلي مجلسها, والكلام يخرج من عينيها سيال من القهر, سلمت علي " علي مراد " بمودة بينة.. سألها إدريس عما فعلت مع المرأة بينما كرداسة يسأل بعينيه.. قالت برضا : دواها الحاج حسين الجرايحي و أخرج الرصاص من ردفيها و رفض أن يأخذ أجراً و كنا أرسلنا لأهلها فجاءوا و أخذوها إلي بيتها في حارة حلب.. الله يبارك لك يا حاج حسين و منهم لله.. اشترك علي مراد في الحديث و هو يمضغ أوراق الحشيش المحمصة : جزاك الله خيراً لقد رأيت ما حدث.. زيديني من الترمس والحمص و الحلبة و الليمون يا خالة و هذا حقك و بسرعة و خفة دس ديناراً ذهبياً لامعاً بين حبات الترمس حتي لا يراه العثمانية فعيونهم النهمة مفتوحة كعيني حدأة جائعة و بنفس الخفة و السرعة دس ديناراً ذهبياً لإدريس و آخراً لكرداسة.
حين انتهت زنوبة من الهمهمة بالدعاء مدت عينيها ناحية القرعة التي في يد علي مراد فناولها لها فشربت ما تبقي فيها.. ظللت الأربعة علي و زنوبة و إدريس و كرداسة سحابة من الأخوة الإنسانية رغم اختلاف الأعمار و الألوان و المظهر جعلتهم يتشاركون في مجلس كيف محاولين نسيان الهم به.. ملأ إدريس أربع قرعات وزعها عليهم وقرعتين من المزة أعطي واحدة لزنوبة و علي و احتفظ بالأخري بينه و بين كرداسة.. ناولت زنوبة زبدية مترعة بالترمس و الحمص و الحلبة و الليمون لإدريس و احتفظت بأخري بينها و بين علي, و بدوره أعد كرداسة أربع زبديات من الحشيش المحمص و الأخضر.. انطلق الحرافيش الأربعة علي درب السكر و الصطل معاً و لكن كل واحد منهم سلك درباً فرعياً اختلي فيه بنفسه و أفكاره بينما جلبة الطريق تتلاشي.
دخلت زنوبة درباً فرعياً موحشاً كان يعينها علي المضي فيه الحشيش و البوزة فإذا هي عروس في الهودج علي ظهر جمل نشوان بصوت المزامير و الدفوف التي ترقص القلوب الحزينة و فجأة انقطعت الأصوات و امتدت إليها أيادي المماليك يسفكون دم عذريتها علي مرأي من الكل منهم من سمرته المفاجأة و منهم من جري من الرعب و كل مملوك يفجر بمن تطوله يداه شابة.. عجوز.. فتاة.. غلام.. نهضت زنوبة و واصلت السير علي نفس الدرب الزلق رغم جراح جسدها و نزيف روحها.. من يومين و هي عائدة إلي بيتها مع ابنتها سكر التف حولهما العثمانية خمسة من الفجرة سفكوا دم عذرية سكر و لاطوا بزنوبة.. ترآي لها من خلال غبشة القهر العثماني الذي فسق بغلام علي سلم مسجد المؤيد في وضح النهار.. بصقت بصقة أودعتها كل القهر الذي يعربد في قلبها... قال إدريس بلهجته النوبية : السماء تمطر بصاقاً أم عدت إلي عادتك القبيحة يا عجوز النحس كلما لعب الحشيش بعقلك و عبثت البوزة بنفسك..
عاد العسكري العثماني مرة أخري و نظر بعينين محمرتين إلي إدريس و فرد راحة يده.. صب إدريس خمسة أكواز و ملأ قرعة بالمزة و ملأ كرداسة زبديتين من الحشيش الأخضر و المحمص و رافقا العسكري العثماني حتي البرج الأيمن حيث جلس أربعة من رفاقه مسندين بنادقهم المخيفة إلي أحجار البرج.
عاد إدريس و كرداسة إلي مجلسهما, و كان علي مراد علي دربه لم يتوقف حين جاء العسكري.. كان قد حلق عالياً و صعد إلي الهلال الذي يتوج قمة مئذنة البرج الأيمن و جلس في وسطه ممسكاً بطرفيه و أخذ يجول ببصره في حواري و دروب و أزقة القاهرة باحثاً عن " الأمير قاسم " و أخذ السؤال يطن في رأسه كنحلة دؤوبة تري أين الأمير قاسم بك بن أحمد بك بن أبي يزيد بن عثمان ملك الروم ؟ لقد أقدم السلطان سليم علي فتح مصر بسبب لجوء الأمير قاسم إليها.. أين هو ؟ و كيف أعجز أنا علي مراد العجمي المشعوذ السيميائي الساحر الذي يفعل الأعاجيب عن العثور عليه.. لقد أوفدني الشاه اسماعيل الصفوي شاه العجم والعدو اللدود لسليم الرومي كي أبحث عنه و أضع يدي عليه قبل أن يصل إليه السلطان سليم.. قفز إلي هلال مئذنة البرج الأيسر و هو يسأل بإلحاح أين أنت ؟ أين أنت يا قاسم بك ؟
لم يكن درب محمد كرداسة صعباً فقد عاد إليه رغم مقاطعة العسكري العثماني.. رأي نفسه في كرداسة مسقط رأسه حيث تهيمن الخضرة و قد امتلك أرضاً يزرعها حشيشاً بعد أن يدفع الضمان أو المعلوم لأولي الأمر في القرية و لديه بيت كبير يسع زوجته و عياله و أمه و إخوته و مطعم و محششة و هو يقدم خدماته للكشاف و رجال الدولة حين ينزلون بالقرية فيتقرب من الحكام فربما يصبح ضامن الحشيش في مصر كلها يهيمن علي زراعته في أرض المحروسة في باب اللوق و أرض الطبالة و حول بركة الرطلي.. أما درب إدريس فكان سهلاً ميسرأ – لم يجد كذلك صعوبة في العودة إليه – حلم العودة إلي النوبة أرض الذهب ليري الأحفاد و الأبناء و من بقي من أعمام و أخوال وجدود فأهل النوبة يعمرون و أن يكون قد جمع ثروة تمكنه من شراء أرض و نخل و عمل تجارة بين القاهرة و النوبة فتأتي المراكب من القاهرة محملة بخيرات الدنيا و ترجع بخيرات النوبة و ما ورائها من بلاد السودان..
عاد الحرافيش الأربعة من دنيا الأحلام علي صوت جلبة و ضجة ليروا أربعمائة عثماني و رماة بالنفط و خلفهم السلطان طومان باي راكب علي فرس و هو مكبل بالحديد يسلم علي الناس بطول الطريق فلما وصل إلي باب زويلة أنزلوه من علي الفرس بغلظة و وقف العسكر حوله مشهرين سيوفهم.
جرت زنوبة تاركة الترمس و اقتربت من مكان السلطان الأسير متحملة دفع العثمانيين غلاظ القلوب لها و كانت الدموع تجري علي خديها فتحرقهما و قد فقدت القدرة علي النطق التقت عيناها بعيني طومان باي المليحتين.. ابتسم لها ابتسامة ابن عاد بعد غياب و قال لها بحنو و وقار سلطان حتي و هو تحت المشنقة : اقرئي لي الفاتحة يا خالة.. آن للغريب أن يري حماه.
كانت الحبال تتدلي من أعلي الباب تحركها هبات رياح الخماسين الساخنة فبدت كثعابين تتلوي.. بدأ النحيب يعلو و كانت رياح الخماسين تقذف وجوه البشر بالتراب و كأنها تعاقبهم علي قسوة قلوبهم.. أول سلطان لمصر يشنق علي باب زويلة قال رجل اراد أن يتباهي بمعرفته.. سبقه شاه سوار كان ملكاً و لكن ليس من مصر جاوبه صوت رجل آخر أراد أن يظهر له أن هناك من يتابعون حوادث الأيام.. بدا طومان باي هادئاً مستسلماً لحكم القدر و لم يفارقه شموخه و لو للحظة : آن لي أن أستريح.. رحلة طويلة شاقة من الشمال إلي الجنوب.. من ذل الرق إلي عز السلطنة.. من اللعب وضحكاته إلي الحرب و صرخاته.. نظر طومان باي إلي وجوه المصريين الذين تجمعوا ليشهدوا اللحظات الأخيرة في حياته.. رأي الدموع ممزوجة بالحب.. بالقهر.. بالعجز.. قال لهم مشجعاً : اقرؤا لي الفاتحة ثلاث مرات.
بسط يده و قرأ سورة الفاتحة ثلاث مرات و الناس تقرأ معه.. و كأنه يصدر أمراً إلي أحد مماليكه قال للمشاعلي الشناق : اعمل شغلك.. و ضعوا الخية في رقبته و رفعوا الحبل فانقطع فسقط علي عتبة باب زويلة.. حاولوا ثانية فسقط و لم يمت.. و في المرة الثالثة سمعت طرقعة عظام الرقبة في السكون المهيب الذي خيم علي المكان.. صرخت زنوبة بلوعة و حرقة : ولدي.. كبدي.. كانت تبكي ولداً تمنت أن ترزقه.. فرت دمعتان من عيني المشاعلي اللتين شهدتا الكثير من الأرواح تزهق و كان يجاهد ليسيطر علي نفسه و يمنعها من النحيب.. لم ترهب الأسلحة النارية و السيوف البكاء الذي تفجر من حنايا قلوب العوام و الحرافيش.. تحسس علي مراد رقبته و هو جالس في مكانه و قد سمرته فيه رهبة الموت و أحس بالدمع الساخن يبلل خديه.. إدريس يبكي و هو يرطن بالنوبية لم يكن كرداسة يفهم ما يقول لكن ما تحمله الكلمات من أسي كان يطلق الدموع من عينيه فتتساقط مبللة أوراق الحشيش الأخضر.. زعق مجذوب عريان : الملك لله فمن شاء من عباده للملك ولاه.
مازال الجسد يتأرجح في فتحة الباب النهم المولع بالجثث.. سقط الخف الجوخ الأزرق الذي كان في رجل طومان باي علي رأس مقدم العثمانية الذي قام علي تنفيذ الشنق.. تدفق السباب من فمه بالتركية و العربية. و بالقرب من الباب وتحت الجسد المعلق وقفت امرأة من نساء التراكمة تضحك و تبكي في نفس الوقت.. لم يلحظها أحد سوي علي العجمي فالكل كان غريقاً في بحر الحدث.. قام علي العجمي واقترب منها.. كانت تحادث نفسها وامرأة أخري لا وجود لها و جسد السلطان المعلق : كما تدين تدان و بنفس الكيل الذي تكيل به يكال لك.. علقتها علي باب النصر فعلقوك علي باب زويلة.. ها ها.. ولكن يا مسكينة قطعوك بالسيوف و سحبوك من الريدانية حتي باب النصر و حصي الطريق ينتهك جسدك.. اختلط النحيب بكلماتها : ثم علقوك عريانة مكشوفة العورة يومين مستباحة لمضاجعي الجيف بعيونهم.. نظرت للجسد المعلق و الشماتة تفوح من عينيها.. ستظل معلقاً يومين أو ثلاثة حتي تجيف رائحتك.. يكفي أنك تعذبت ثلاث مرات حتي كسرت عظام رقبتك.. صرخت المرأة صرخة مروعة.. وخزها عثماني بدبوسه فولت تجاه الدرب الأحمر الصاعد إلي القلعة.. ابتعد علي العجمي وقد عاودته ذكري المرأة من التراكمة التي حاولت اغتيال السلطان طومان باي في الريدانية و كانت ملثمة فزادته الذكري هماً علي هم.
[/align]
تعليق