[align=center]التوجه الإنساني لدى الشاعر جورج فرح
في ديوانه "همسات في العاصفة"
بقلم: د. منير توما[/align]
كان الأستاذ جورج جريس فرح قد أهداني مشكورا مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان "همسات في العاصفة" حيث لمست في قصائد المجموعة تلك الخصائص الإنسانية التي تنبض بها هذه القصائد من خلال حسّ شفاف يمتاز به الشاعر يعكس مدى إيمانه بالفضائل والقيم الإنسانية السامية كالمحبة والحرية والسلام والتسامح وما إلى ذلك من المعاني الرقيقة القريبة من القلب الإنساني.
ويبدو عشق الشاعر للحرية والإخاء الإنساني في أولى قصائد الديوان حيث ينشد قائلا:
"حر انا
كالطير في الأجواء
في الأرجاء
في بطن السماء...
كالنهر يجري هادرا
ما كَلّ من حِمْلٍ وناء...
حر أنا
في كلمتي
حر أنا
في فكرتي
لن تسلبوا حريتي
لن تقتلوا محبتي
للأرض والإنسان
في رفض المذلة والشقاء...". (ص11-13)
وفي هذا النص نجد أن وجدانيات الشاعر هي مشاعر مباشرة ذات حضور حال، ولهذا فإنها شديدة الذاتية حتى انه ليصعب في كثير من الأحيان التعبير عنها بالكلمات، الذي هو حال التصورات أو المشيئات، وعلى حين أن التصورات والمشيئات قد تظهر ثم توضع جانبا، لفترة قد تطول أو تقصر، فان الوجدانيات ما إن تظهر حتى تؤثر علينا على الفور، حيث تتجه إلى السيطرة على مجمل مسرح الشعور. والوجدانيات كلها أمور تخصنا في الصميم وتكون لنا نحن على الفور، إن ما هو وجداني هو أمر ذاتي حاضر حال لدى الشاعر وهو يخصنا، بأقوى معاني الكلمة، ويؤثر فينا على الفور. وتتجلى مدى إنسانية شاعرنا في حبه للسلام وبراءة الأطفال في كلماته التي يفصح فيها عن محبته لجمال الطبيعة وسعيه إلى طمأنينة النفس البشرية، حيث يقول:
" موطني الدنيا،
وحب الخلق ديني،
وسلام الأرض إيماني،
يقيني...
ضحكة الأطفال في عرفي أشجى
من رنين العود
واللحن الحنون،
ونعيق البوم
في الأجواء حرا،
هو أحلى من غنا الطير السجين
وورود الروض
فوق الغصن،
أبهى من ورود داخل الزقّ الثمين!". ( (ص14)
وكأني بالشاعر هنا يريد أن يقول بأنه حيث يكون سلام يكون الله، لأن أعز ما يجول في قلبه من الأماني، العيش بسلام، سلام نفسي، وسلام مع الغير، وكل هذا يتأتى من التماهي مع الطبيعة بكل جمالياتها التي تنعكس على النفس البشرية.
إن شاعرنا يرفض الشر الكائن في النفوس ويتبع الجمال والمحبة ويقدسهما، لان تكوينه النفسي قد طُبع على ذلك:
"هل أنا ذاك الذي
يغمض العين التي
ترنو إلى سحر الجمال
تجوب أروقة الخيال
وتسبر الأغوار في عمق النفوس
وفي العيون الحالمات...". (ص20)
وبهذا يتجسد حب شاعرنا وعشقه للجمال، لان الجمال هو التكوين العقلي للصورة أو سلسلة صور التي تلتقط جوهر الأشياء التي نتحسسها، إن الجمال ينتمي، بدلا من الصورة الداخلية إلى الشكل الخارجي الذي نجسده، فالحقائق العظمى هي خطأ إذا لم تتصل بالجمال، وهي تكسب طريقها بكل تأكيد وعمق إلى الروح عندما تزخرف بهذا لباسها الطبيعي واللائق، لذا فإن شاعرنا يرى أن الجمال هو الحقيقة لان ينبوع الجمال لديه هو القلب، والحقيقة هي الجمال.
ويبرز شاعرنا متفائلا حيث انه ينتظر تحقيق طموحاته في هذه الحياة، فالآمال ما زالت تداعب أحلامه بتحقيق وعد يرجوه ويسعى إليه رغم كل الظروف والمشقات فهو غير يائس يتخذ من الصبر وطول الأناة مسلكا وملاذا له في انتظار أن يصبح الحلم أو الوعد حقيقة:
"عديني يا سنين
ألا عديني،
وهاتي الوعد منك
وماطليني
عديني
ها انا بالوعد تمضي
بي الآمال
من حين لحين
فأخطو خطوة يوما
وأخرى
تكون متى تزينها ظنوني...
ويخطو الدهر
مسرعة خطاه
ويلطم موجك العاتي سفيني... (ص25).
وكلام الشاعر هذا يدعونا إلى الإيمان بصحة القول بأن هناك فرقا كبيرا بين من يُلطم اللطمة فلا يكون له وسيلة إلا البكاء، وتذكر اللطمة ثم البكاء، وبين من يلطم اللطمة فيستجمع قواه للمكافحة كشاعرنا، فالحياة كلها لطمات، واعجز الناس من خارت قواه من أول لطمة فهرب، ولو أنصف الناس لقوّموا الناس بمقدار كفاحهم، لا بمقدار فشلهم أو نجاحهم. فالأمل يشد العزائم، ويزين ما يلوح أمام النفس من أمور المستقبل والأمل هو مطية الإنسان إلى السعادة، فإذا وصل إليها فليبدأ أملا جديدا لأن أغلى ما في الحياة أمل وانتظار.
ويسخر شاعرنا من دعاة استخدام القوة لتحقيق السلام مصورا ذلك برمز الغراب الذي يدعو إلى تجنيد النسر وتجييشه لهذه المهمة، حيث يرمز النسر إلى القوة والبطش في حين يرمز الحمام إلى المسالمين من دعاة السلام الذين يمتازون بالوداعة وممارسة السياسة الهادئة الحكيمة بغية الوصول إلى السلام المنشود :
"ناعقا قال الغراب:
يا طيور
آن أن يرعى القضية
نسرنا حامي الحميّة
فهو أَولى بالوظيفة
من ذوي النفس الضعيفة
فيه لو رمنا الحقيقة
كل ما تبغى الخليقة
فالمعاني مطلبهْ
والبرايا ترهبهْ،
فاجعلوا النسر الإماما
واعزلوا الآن الحماما". (ص31(
ويأسف شاعرنا في نهاية الأمر لفشل سياسة القوة لتحقيق السلام ويتحسر على ما آلت اليه الأوضاع من سوء وضياع قائلا:
"عام مضى
أو بعض عام
والهمس في الأنحاء قام:
هل يا ترى ضاع السلام؟
حتى الأبد؟
من مُرجعٌ بيض الحمام؟
هل من مدد؟
من ذا الذي يأتي بها؟
من بعد طول غيابها؟
هل من أحد؟
هل من أحد؟!!!(ص32)
وينبري شاعرنا في قصيدة "الشرقية" متعاطفا ومدافعا عن المرأة في شرقنا، داعيا الى تحريرها ومنحها حقوقها المهضومة كي تقوم بدورها بكرامة، وتثبت ذاتها في هذا المجتمع الظالم لها الذي يلحق الغبن بها:
"ليست كما وصفوها
لكونها شرقية
لكنهم غيبوها
عن موكب البشرية
واليوم يطلب منها
أن تدحر الغربية
في العلم والفهم
حتى في جوهر الحرية
يا قوم لا تظلموها،
لا تجعلوها ضحية
فإن فيها كنوزا
وثروة وطنية". (ص34-35)
ومن ذلك، يتضح بجلاء أن شاعرنا يريد التأكيد بان المرأة الشرقية جديرة بأن تلقى التعاون التام والمؤازرة الكاملة، في تحقيق طموحها المشروع وتطلعها لان تكون الإنسان المبدع المعطاء، لان المرأة هي إنسانة مثل الرجل، وهبها الله مدارك مثل مداركه، واستعدادا مثل استعداده، فإذا تركت في حالة الجهل، يحرم المجتمع نصف إمكاناته، ويحرم الأولاد مدرستهم الأولى، ومعلمهم النشيط، لذا يناشدنا الشاعر بالعمل على تعليم وتحرير المرأة الشرقية، فهي منشئة الأجيال، وصانعة الرجال، هي الرائد، إما إلى حياة كريمة، وإما إلى حياة سقيمة، فإذا استقام شأنها، استقام شأن الأمة.
ويفخر الأستاذ جورج فرح بوطنه وعراقة هذا الوطن الذي يعيش فيه، وهو يحب هذا المكان بكل جوارحه، فهو يعشق ويقدّس زيتون وكرمة وطنه، لأنه رمز وجوده وكيانه، فالوطن لديه ليس كلمة مجردة، ولا هو لفظة شاعرية في قصيدة مجنّحة، انه الحاضر، والمستقبل والتاريخ، وهو ليس إقليما من الأرض وحسب، فالوطن الحقيقي عند شاعرنا هو الفكرة التي يلدها الوطن، هو خاطر الحب لطبيعة وطنه، فبلد الشاعر هو كرامته وشرفه، وفي سبيل هذه الكرامة والشرف لا يبخل بشيء، فهو لا يبخل عليه بدمه إذا دعت الحاجة إليه، فهذا الوطن هو الخمر الذي يسكره حتى الثمالة، وهذا يتمثل برمزية الكرم:
"وانا...
مجنون زيتوني وكرمي،
وأنا
أهوى من الكرم خميله
وأنا
من خير كرمي كل خمري
وأنا خمري دمي
آبى بديله" (ص41)
ويولي شاعرنا موضوع الأمومة جانبا من شعره بمرثية لأمه الغالية على قلبه فيقول:
" أيظل كأس الحب يا أماه
يروي شاربه؟
أيظل يدفق بالحنان،
وان عدمنا ساكبه؟
أيظل يسقينا
فيروينا
وأنت الغائبة؟"(ص46)
وفي هذه المقطوعة تظهر محبة شاعرنا الغامرة لأمه، فما من محبة لديه في الدنيا تغمره بسعادة كمحبة أمه، إنها لون من ألوان غيث السماء ينزل على الأرض ليرويها، لان حب الأم هو الباقي، فعظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم مع أن كلمة الأم هي كلمة صغيرة لكنها مملوءة بالأمل والحب والانعطاف، وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبه، ويلمّح لنا الشاعر هنا بأن من يفقد أمه يفقد صدرا يسند إليه رأسه، ويدًا تباركه، وعينا تحرسه، لان الأم هي ينبوع الحنو والرأفة والغفران، ويعبّر الشاعر عن حبه وهيامه بالنساء وعدم قدرته عن الاستغناء عنهن وعن صحبتهن، فهو يقول:
"أيطيب لي من بعدهنّ العيش
لو أبعدتهنّ؟
بل كيف تعتمر القلوب بنبضها
من غيرهنّ؟
ولئن يكنّ السمّ في عقصاتهنّ،
وقرصهن " ص (63 -64)
ومن هنا، نرى بأن الشاعر شديد الشغف بصحبة النساء فهو يحب جمالهن، ويحب رقتهن وحيويتهن، ويحب حنانهن على الرغم من دهائهن وكيدهن في بعض الأحيان، وبالتالي فإن المرأة والجميلة خاصة لدى شاعرنا هي خمر وغذاء وفاكهة لا يستطيع كانسان أن يعيش بدونها، ولنستمع إلى قول الشاعر وهو يتحدث عن شوقه لمحبوبته:
"اشتاق لصوت اسمعه
قد بات فؤادي مولعهُ
فإذا ما غاب غدوت أنا
محزون القلب وموجعه" (ص80).
وهنا يصوّر شاعرنا محبوبته كأنها شعاع من أشعة السماء، تمنحه الطاقة والحيوية، فإذا غابت عنه ذبل إشراقه وذوى، فهي في منظوره بمنزلة الشعاع من السراج، وهي الرفيقة التي تنقذه من غربته كي لا يشعر بالوحدة القاتلة، فهو بحاجة إلى قلب المحبوبة الذي يمده بالقوة لأنها بركة على روحه يسكر من قلبها وبريقها.
وهكذا يتضح لنا أن شاعرنا قد كتب شعرا مفعما بالروح الإنسانية الآسرة التي تفيض جمالا وإشراقا، فطرق مواضيع يستسيغها الذوق السليم والعقل النيّر والوجدان الصافي، فكان بذلك مبدعا يحسّ بالجمال المتسارع الهش لانبلاج النهار، وباعثا لعظمة عاصفة العواطف الغنية بإيقاعها وموسيقاها وتموجاتها.
فللأستاذ الشاعر جورج جريس فرح أجمل التحيات، وأطيب التمنيات بالمزيد من العطاء والتوفيق، راجين له موفور الصحة والعمر المديد.
في ديوانه "همسات في العاصفة"
بقلم: د. منير توما[/align]
كان الأستاذ جورج جريس فرح قد أهداني مشكورا مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان "همسات في العاصفة" حيث لمست في قصائد المجموعة تلك الخصائص الإنسانية التي تنبض بها هذه القصائد من خلال حسّ شفاف يمتاز به الشاعر يعكس مدى إيمانه بالفضائل والقيم الإنسانية السامية كالمحبة والحرية والسلام والتسامح وما إلى ذلك من المعاني الرقيقة القريبة من القلب الإنساني.
ويبدو عشق الشاعر للحرية والإخاء الإنساني في أولى قصائد الديوان حيث ينشد قائلا:
"حر انا
كالطير في الأجواء
في الأرجاء
في بطن السماء...
كالنهر يجري هادرا
ما كَلّ من حِمْلٍ وناء...
حر أنا
في كلمتي
حر أنا
في فكرتي
لن تسلبوا حريتي
لن تقتلوا محبتي
للأرض والإنسان
في رفض المذلة والشقاء...". (ص11-13)
وفي هذا النص نجد أن وجدانيات الشاعر هي مشاعر مباشرة ذات حضور حال، ولهذا فإنها شديدة الذاتية حتى انه ليصعب في كثير من الأحيان التعبير عنها بالكلمات، الذي هو حال التصورات أو المشيئات، وعلى حين أن التصورات والمشيئات قد تظهر ثم توضع جانبا، لفترة قد تطول أو تقصر، فان الوجدانيات ما إن تظهر حتى تؤثر علينا على الفور، حيث تتجه إلى السيطرة على مجمل مسرح الشعور. والوجدانيات كلها أمور تخصنا في الصميم وتكون لنا نحن على الفور، إن ما هو وجداني هو أمر ذاتي حاضر حال لدى الشاعر وهو يخصنا، بأقوى معاني الكلمة، ويؤثر فينا على الفور. وتتجلى مدى إنسانية شاعرنا في حبه للسلام وبراءة الأطفال في كلماته التي يفصح فيها عن محبته لجمال الطبيعة وسعيه إلى طمأنينة النفس البشرية، حيث يقول:
" موطني الدنيا،
وحب الخلق ديني،
وسلام الأرض إيماني،
يقيني...
ضحكة الأطفال في عرفي أشجى
من رنين العود
واللحن الحنون،
ونعيق البوم
في الأجواء حرا،
هو أحلى من غنا الطير السجين
وورود الروض
فوق الغصن،
أبهى من ورود داخل الزقّ الثمين!". ( (ص14)
وكأني بالشاعر هنا يريد أن يقول بأنه حيث يكون سلام يكون الله، لأن أعز ما يجول في قلبه من الأماني، العيش بسلام، سلام نفسي، وسلام مع الغير، وكل هذا يتأتى من التماهي مع الطبيعة بكل جمالياتها التي تنعكس على النفس البشرية.
إن شاعرنا يرفض الشر الكائن في النفوس ويتبع الجمال والمحبة ويقدسهما، لان تكوينه النفسي قد طُبع على ذلك:
"هل أنا ذاك الذي
يغمض العين التي
ترنو إلى سحر الجمال
تجوب أروقة الخيال
وتسبر الأغوار في عمق النفوس
وفي العيون الحالمات...". (ص20)
وبهذا يتجسد حب شاعرنا وعشقه للجمال، لان الجمال هو التكوين العقلي للصورة أو سلسلة صور التي تلتقط جوهر الأشياء التي نتحسسها، إن الجمال ينتمي، بدلا من الصورة الداخلية إلى الشكل الخارجي الذي نجسده، فالحقائق العظمى هي خطأ إذا لم تتصل بالجمال، وهي تكسب طريقها بكل تأكيد وعمق إلى الروح عندما تزخرف بهذا لباسها الطبيعي واللائق، لذا فإن شاعرنا يرى أن الجمال هو الحقيقة لان ينبوع الجمال لديه هو القلب، والحقيقة هي الجمال.
ويبرز شاعرنا متفائلا حيث انه ينتظر تحقيق طموحاته في هذه الحياة، فالآمال ما زالت تداعب أحلامه بتحقيق وعد يرجوه ويسعى إليه رغم كل الظروف والمشقات فهو غير يائس يتخذ من الصبر وطول الأناة مسلكا وملاذا له في انتظار أن يصبح الحلم أو الوعد حقيقة:
"عديني يا سنين
ألا عديني،
وهاتي الوعد منك
وماطليني
عديني
ها انا بالوعد تمضي
بي الآمال
من حين لحين
فأخطو خطوة يوما
وأخرى
تكون متى تزينها ظنوني...
ويخطو الدهر
مسرعة خطاه
ويلطم موجك العاتي سفيني... (ص25).
وكلام الشاعر هذا يدعونا إلى الإيمان بصحة القول بأن هناك فرقا كبيرا بين من يُلطم اللطمة فلا يكون له وسيلة إلا البكاء، وتذكر اللطمة ثم البكاء، وبين من يلطم اللطمة فيستجمع قواه للمكافحة كشاعرنا، فالحياة كلها لطمات، واعجز الناس من خارت قواه من أول لطمة فهرب، ولو أنصف الناس لقوّموا الناس بمقدار كفاحهم، لا بمقدار فشلهم أو نجاحهم. فالأمل يشد العزائم، ويزين ما يلوح أمام النفس من أمور المستقبل والأمل هو مطية الإنسان إلى السعادة، فإذا وصل إليها فليبدأ أملا جديدا لأن أغلى ما في الحياة أمل وانتظار.
ويسخر شاعرنا من دعاة استخدام القوة لتحقيق السلام مصورا ذلك برمز الغراب الذي يدعو إلى تجنيد النسر وتجييشه لهذه المهمة، حيث يرمز النسر إلى القوة والبطش في حين يرمز الحمام إلى المسالمين من دعاة السلام الذين يمتازون بالوداعة وممارسة السياسة الهادئة الحكيمة بغية الوصول إلى السلام المنشود :
"ناعقا قال الغراب:
يا طيور
آن أن يرعى القضية
نسرنا حامي الحميّة
فهو أَولى بالوظيفة
من ذوي النفس الضعيفة
فيه لو رمنا الحقيقة
كل ما تبغى الخليقة
فالمعاني مطلبهْ
والبرايا ترهبهْ،
فاجعلوا النسر الإماما
واعزلوا الآن الحماما". (ص31(
ويأسف شاعرنا في نهاية الأمر لفشل سياسة القوة لتحقيق السلام ويتحسر على ما آلت اليه الأوضاع من سوء وضياع قائلا:
"عام مضى
أو بعض عام
والهمس في الأنحاء قام:
هل يا ترى ضاع السلام؟
حتى الأبد؟
من مُرجعٌ بيض الحمام؟
هل من مدد؟
من ذا الذي يأتي بها؟
من بعد طول غيابها؟
هل من أحد؟
هل من أحد؟!!!(ص32)
وينبري شاعرنا في قصيدة "الشرقية" متعاطفا ومدافعا عن المرأة في شرقنا، داعيا الى تحريرها ومنحها حقوقها المهضومة كي تقوم بدورها بكرامة، وتثبت ذاتها في هذا المجتمع الظالم لها الذي يلحق الغبن بها:
"ليست كما وصفوها
لكونها شرقية
لكنهم غيبوها
عن موكب البشرية
واليوم يطلب منها
أن تدحر الغربية
في العلم والفهم
حتى في جوهر الحرية
يا قوم لا تظلموها،
لا تجعلوها ضحية
فإن فيها كنوزا
وثروة وطنية". (ص34-35)
ومن ذلك، يتضح بجلاء أن شاعرنا يريد التأكيد بان المرأة الشرقية جديرة بأن تلقى التعاون التام والمؤازرة الكاملة، في تحقيق طموحها المشروع وتطلعها لان تكون الإنسان المبدع المعطاء، لان المرأة هي إنسانة مثل الرجل، وهبها الله مدارك مثل مداركه، واستعدادا مثل استعداده، فإذا تركت في حالة الجهل، يحرم المجتمع نصف إمكاناته، ويحرم الأولاد مدرستهم الأولى، ومعلمهم النشيط، لذا يناشدنا الشاعر بالعمل على تعليم وتحرير المرأة الشرقية، فهي منشئة الأجيال، وصانعة الرجال، هي الرائد، إما إلى حياة كريمة، وإما إلى حياة سقيمة، فإذا استقام شأنها، استقام شأن الأمة.
ويفخر الأستاذ جورج فرح بوطنه وعراقة هذا الوطن الذي يعيش فيه، وهو يحب هذا المكان بكل جوارحه، فهو يعشق ويقدّس زيتون وكرمة وطنه، لأنه رمز وجوده وكيانه، فالوطن لديه ليس كلمة مجردة، ولا هو لفظة شاعرية في قصيدة مجنّحة، انه الحاضر، والمستقبل والتاريخ، وهو ليس إقليما من الأرض وحسب، فالوطن الحقيقي عند شاعرنا هو الفكرة التي يلدها الوطن، هو خاطر الحب لطبيعة وطنه، فبلد الشاعر هو كرامته وشرفه، وفي سبيل هذه الكرامة والشرف لا يبخل بشيء، فهو لا يبخل عليه بدمه إذا دعت الحاجة إليه، فهذا الوطن هو الخمر الذي يسكره حتى الثمالة، وهذا يتمثل برمزية الكرم:
"وانا...
مجنون زيتوني وكرمي،
وأنا
أهوى من الكرم خميله
وأنا
من خير كرمي كل خمري
وأنا خمري دمي
آبى بديله" (ص41)
ويولي شاعرنا موضوع الأمومة جانبا من شعره بمرثية لأمه الغالية على قلبه فيقول:
" أيظل كأس الحب يا أماه
يروي شاربه؟
أيظل يدفق بالحنان،
وان عدمنا ساكبه؟
أيظل يسقينا
فيروينا
وأنت الغائبة؟"(ص46)
وفي هذه المقطوعة تظهر محبة شاعرنا الغامرة لأمه، فما من محبة لديه في الدنيا تغمره بسعادة كمحبة أمه، إنها لون من ألوان غيث السماء ينزل على الأرض ليرويها، لان حب الأم هو الباقي، فعظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم مع أن كلمة الأم هي كلمة صغيرة لكنها مملوءة بالأمل والحب والانعطاف، وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبه، ويلمّح لنا الشاعر هنا بأن من يفقد أمه يفقد صدرا يسند إليه رأسه، ويدًا تباركه، وعينا تحرسه، لان الأم هي ينبوع الحنو والرأفة والغفران، ويعبّر الشاعر عن حبه وهيامه بالنساء وعدم قدرته عن الاستغناء عنهن وعن صحبتهن، فهو يقول:
"أيطيب لي من بعدهنّ العيش
لو أبعدتهنّ؟
بل كيف تعتمر القلوب بنبضها
من غيرهنّ؟
ولئن يكنّ السمّ في عقصاتهنّ،
وقرصهن " ص (63 -64)
ومن هنا، نرى بأن الشاعر شديد الشغف بصحبة النساء فهو يحب جمالهن، ويحب رقتهن وحيويتهن، ويحب حنانهن على الرغم من دهائهن وكيدهن في بعض الأحيان، وبالتالي فإن المرأة والجميلة خاصة لدى شاعرنا هي خمر وغذاء وفاكهة لا يستطيع كانسان أن يعيش بدونها، ولنستمع إلى قول الشاعر وهو يتحدث عن شوقه لمحبوبته:
"اشتاق لصوت اسمعه
قد بات فؤادي مولعهُ
فإذا ما غاب غدوت أنا
محزون القلب وموجعه" (ص80).
وهنا يصوّر شاعرنا محبوبته كأنها شعاع من أشعة السماء، تمنحه الطاقة والحيوية، فإذا غابت عنه ذبل إشراقه وذوى، فهي في منظوره بمنزلة الشعاع من السراج، وهي الرفيقة التي تنقذه من غربته كي لا يشعر بالوحدة القاتلة، فهو بحاجة إلى قلب المحبوبة الذي يمده بالقوة لأنها بركة على روحه يسكر من قلبها وبريقها.
وهكذا يتضح لنا أن شاعرنا قد كتب شعرا مفعما بالروح الإنسانية الآسرة التي تفيض جمالا وإشراقا، فطرق مواضيع يستسيغها الذوق السليم والعقل النيّر والوجدان الصافي، فكان بذلك مبدعا يحسّ بالجمال المتسارع الهش لانبلاج النهار، وباعثا لعظمة عاصفة العواطف الغنية بإيقاعها وموسيقاها وتموجاتها.
فللأستاذ الشاعر جورج جريس فرح أجمل التحيات، وأطيب التمنيات بالمزيد من العطاء والتوفيق، راجين له موفور الصحة والعمر المديد.
تعليق