السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فنحنُ اخترعنا التراقصَ تحتَ النُجومِ
وجَرِّ الغيومِ … لقُرصِ السماءْ
ونحنُ الذينَ سرقنا رداءَ المحيطِ
وعِشنا بدونِ رداءْ
ومُذ ذاكَ زدنا وزاد بهاءْ
وعلمَنا المستحيلُ المُسنُّ النبوغَ
وكُلَّ فنونِ النَّقاءْ
آخـــر حكــــايا شــهرزاد
قراءة لقصيدة الشاعر و الناقد
صادق حمزة منذر
قراءة لقصيدة الشاعر و الناقد
صادق حمزة منذر
الحكايا هي زاد المسافر و معينه في حله و ترحاله , وهي مخزون ثقافي , فكري وجداني يحتوى أفراحه و أتراحه مشاعره و تجاربه و كل ما استبطنته ذاكرته و أحتضنته ذاته.
و كانت شهرزاد الحكاية و القصيدة و التي تتجلى لنا كأنثى لتفصح عن نفسها وعن صراعها من أجل البقاء و كأنها في بحر متلاطم الأمواج تبحث فيه عن قارب نجاة أو جذع شجرة لتكون فرعه وتستمر الحياة ….وهي ليست وحدها في هذه المعاناة بل يرافقها طيفها و الذي هو منها و إليها, فهي الأم الحامل بالحبيب الذي تصبِغ عليه أنوثتها ليكون الابن و الأب و الشاعر بالكلمة و المعنى , يسهب في وصف معاناته الداخلية, في بحث دءوب عن طيف هو لأنثى في خياله استحوذت عليه و لازمته لتكون كلمَته شعره , قصيدته , حكاياه وهو شهريار الملك و المتحكم بالكلمة و في الكلمة يطوعها ليحييها أو يلغي وجودها ويجعل منها جثة هامدة .
فشهرزاد الحكاية هي قصيدة حياة و ملحمةٌ عبر تاريخ الإنسانية تطفو داخلنا لتغوص في بحر لجي ظلامه دامس, تصارع الموج بحثا عن حياة تكون فيها ذاتها , كأنثى و كأم و كمعنى ناقص يبحث عن الكمال في حبيب هو مفقود موجود وهو البحث عن الزوجية التي تصبو لها النفس لأنها فطرية فينا لا نستطيع تجاهلها و لا الاستغناء عنها, فهي منظومة يسير بمقتضاها الكون و إن تخلى أحد عناصره عن دوره اختل توازنه.
كذلك الإنسان, تعيش فيه هذه المنظومة وهو يستشعر أبعادها دون أن يستطيع التعبير عنها أو لنقل يعبرُ عنها بطريقته فيكون هذا التعبير هو بصمة حياة أو أثر مسافر على أديم الأرض و صفحة الزمان.
هكذا كانت شهرزاد حكايا و قصيدة يترنم بها الشعراء و تحكيها قصص ألفُ ليلة و ليلة و كأنها شراب معتق يلتجي إليه المسافر ليروي عطشه يسكرَه ,فتكون القصيدة خمرة لحن و الحكاية معاناة وجدان .
فقصيدة الشاعر و الأديب صادق حمزة منذر, "آخر حكايا شهرزاد" حوارية تمزج بين الحكاية ليكون شهريارها المتحكم في أحداثها و صورها, وبين القصيدة ليكون الشاعر المرهف الحس و الذي يتحسس هذا الوجود الأنثوي في داخله, ليَرسم ملامحه ويصوغ كيانه ليكون نصفه الآخر المحبب إلى نفسه , يسكن إليه و يعانق وجوده ,ليثمر تواصلا شاعريا يبدع بالكلمة و المعنى ويرسم أرق المشاعر و أروعها لتعزف لنا القصيدة لحن الخلود الآدمي في أبهى معانيه و الذي لا يكتمل حتى يتوحد الشاعر مع نصفه الثاني فيتناغم معه ويعزف لنا سيمفونية وجودية, تلتحم مع المنظومة الكونية فتكون القصيدة كوكبا لتطوف بنا عبر الزمان و التاريخ, لها ماض و حاضر و مستقبل, ينصهر في بلاغة الكلمة, ليكون لها بيان و استرسال, له حكايا نابعة من الوجدان الإنساني و كأنها سيل جارف يشق عباب الحياة ليرتمي في أحضان بحر الشعر, وتذوب فيه القصيدة و تصبح ماء زلالا يرتوي منه كلَّ مسافر نالت منه دروب الحياة فتشققت أرضه من العطش.
فكما يبحث الشاعر عن نصفه الآخر يرسم ملامحه و يشكل وجدانه , تنشد الكلمة رديفتها ليكتمل المعنى فتُعبِّر عن نفسها و تعبُر إلى ما وراء السطور وتكتمل في فكر المتلقي, فكلنا معانٍ تبحث عن كلمات لنتعلق بها و نعانق وجودها فتفصح عن ألمها و سعادتها, حزنها و فرحها, جمالها و قبحها, فكلنا مفردات ترصع سطور الحكايا على أديم الأرض و صفحات الزمان .
و كان آدم و كانت له حواء رديفته, نصف التفاحة و الذي لا يكتمل وجوده إلا بها فمنذ الخلق الأول و نحن نبحث عن الآخر لنشاركه السعادة و نتمسك بلحظاتها حتى لا تتسلل من بين أصابعنا فيطرق الحزن بابنا و يقفَ عنده .
هو الوجع الذي يلازمنا لفقد نستشعره داخلنا و لا نستطيع التخلص منه و لا إدراك معانيه لأن الكلمات ترحل عنا و ترافق من غادرنا وجوده و تبقى الحكايا سطورا معلقة في داخلنا , لها انتظار و شوق, يرتحل بنا إلى المجهول بحثا عن المفقود الموجود نراه أمامنا و لا نطوله فهو القريب البعيد
و يستلمنا الخيال بكل سحره ليطير بنا على أجنحته و يخترق بنا وجودنا الإنساني, و ينتفي الزمان و المكان وتتراءى لنا رسوم و شخوص نألفها و نتمنى قربها و نُصبغ عليها من وجودنا , شوقَنا , لهفتنا و كأننا نترك الألم و الحزن لنلتجئ إليها فتكونَ الدفء الذي نرتمي بين أحضانه فتغسلُنا العبرات و تعبر بنا إلى عالم النقاء, إلى عالم الروح الذي لا يعرف الحزن, لكنه يعيش السعادة و لحظة الفرح كما خلقت فيه, فهو لا يعرف الماضي و لا المستقبل .
هكذا كانت آخر حكايا شهرزاد بدايتها خيالُ أنثى يخاطب نصفه الحاضر و الملحِ على الغياب وهو في نفس الوقت خيال الشاعر الذي تنطق فيه الحبيبة , فيرسم الجمال الأنثوي على صفحات هي غيرها, لا تشبه الواقع لكنها تتجاوزه إلى ما بعده, لتوحي لنا بالأمومة و براءة الطفولة و تواضع الكبرياء فللألم جذور تمتد من داخل الإنسان, لتحيط واقعه فيثور لأنها لا تترك له متنفسا سوى الخيال و كأن الواقع يضيق عليه فيلتجي إلى الطبيعة و فضائها الفسيح , ليستعمله كصفحة بيضاء شفافة يدون عليها كل أحلامه. ربما هي أحلام الطفولة أو ذكريات ماضٍ سحيق, لها كمون داخله يستخرجها كلما شعر بالضيق ووجع الحياة الخانق , فهو نوع من الهروب الجميل إلى الطبيعة الذاتية الغافيةُ فينا لنعيش بعدا داخليا يتواصل مع بُعْدا آخر له مفرداته و معانيه في الطبيعة الكونية ,فيصبح للمحيط رداء و للمستحيل نبوغ و فنون و نقاء.
و كأن الشاعر يتجاوز نفسه, إلى ما وراءها ليجد نصفه الجميل المبدع به و فيه بالكلمة و المعنى ,فيسمو وهو لا يدري, ما تخبئه المعاني من كلمات تخرج لنا حاملة محملة , بأجمل الصور الناطقة بمشاعر اختزلها في وجدانه, ليبوح بها قلمُه في لحظة صفاء أو لحظة حزن و معاناة أو كأنها لحظة استفاقة بعد نسيان, فيصبح الكون غيره و الطبيعة أخرى, لا يتواجد فيها غير الشاعر و رسومَه التي تحرك كلماته لتجعل لها روحا ووجدانا و قلبا نابضا بحياةٍ تخَيّل الشاعر محيطها الطبيعي, ليحتضنه مع حبيبته و التي هي جزء منه فهي النصف الآخر من التفاحة و الذي يتطابق معه على مستوى المشاعر, ليكون هو المعنى وهي الكلمة الحامل, فهو الوالد و المولود وتكون الأنثى هي الأم المختزلة في رحمها و فكرها, كل معاني حبيبها و تتكلم "هي" في خطاب رائع و راق لتقول :
هي
لاعبِ الريشة فوق الهواءْ
وصمِّمْ نساءً تفوقُ النساءْ
وفوقَ الأثيرِ ادْعُنا
أن نعودَ صغاراً .. صغاراً بلا كبرياءْ
وحطمْ بِحَرفِك كلَّ دُعاةَِ الكلامِ .. وبدِّل أُصولَ الغناءْ
وصمِّمْ نساءً تفوقُ النساءْ
وفوقَ الأثيرِ ادْعُنا
أن نعودَ صغاراً .. صغاراً بلا كبرياءْ
وحطمْ بِحَرفِك كلَّ دُعاةَِ الكلامِ .. وبدِّل أُصولَ الغناءْ
و كأن الأنثى تسمو بمشاعرها و روحها ,إلى رحابة الفضاء , فتنفصل عن الواقع ليصبح الحبيب هو الرسام و المصمم ,لأجمل ما في النساء لتدعوه بعدها إلى زمان غير الزمان ,إلى واقع مختلف, تثور فيه الكلمة لتشكل واقعا جديدا ,يحتضن فضاء آخر, تتزاوج فيه المشاعر, لتُقيم صرح علاقة لها سمو الروح, فيسعد بها الجسد . فالتواصل الزوجي على مستوى المشاعر , يتجسد أيضا على مستوى الكلمة و الحرف و تصبح نون الجماعة, هي المهيمنة على الخطاب, فيكون للشاعر روعة المشاعر و الحرف, في التحام وجودي بين آدم و حواء , ليتكلم على لسان حبيبته التي تخاطِبُه كأجمل ما يكون الخطاب, في رحلة بين الأرض و السماء , فتارة تحتضنهم السماء و أخرى المحيط, في تواصل رائع مع المستحيل, الذي لا يخضع لا للزمان و لا للمكان, و كأنه الحكمةُ التي يصل إليها المبدع مع نصفه الأنثوي, بعد أن تخلى عن الأصول الموروثة و قواعد دعاة الكلام, فيكون العلم و النبوغ و الفن و النقاء ,هما الشجرة و الثمرة لهذا التلاقي المنشود و الذي هو نماء و بهاء.و يقول الشاعر
فنحنُ اخترعنا التراقصَ تحتَ النُجومِ
وجَرِّ الغيومِ … لقُرصِ السماءْ
ونحنُ الذينَ سرقنا رداءَ المحيطِ
وعِشنا بدونِ رداءْ
ومُذ ذاكَ زدنا وزاد بهاءْ
وعلمَنا المستحيلُ المُسنُّ النبوغَ
وكُلَّ فنونِ النَّقاءْ
تعليق