اغتصاب ..
منتصفُ الليل . فندقٌ متواضع في قلب مدينة غريبة . حجرةٌ ضيّقة يتوسّطها سرير خشبي و نافذة تآكلت من فرط القِدم فكانت تحدثُ أزيزا مزعجا كلما تحرّكت الريح . أفاق مذعورا يصّبب عرقا . لمح من بين جفونه المنتفخة من أثر النوم و التعب , و من خلف زجاج النافذة , شبحا يحدّق فيه بعيون ملؤها الغضب و الكره ..خفق قلبه بشدّة و ارتعدت فرائصه . فرك عينيه بكفّيه و أمعن النظر . أحس بجفاف في حلقه , و تيار بارد يسري في شرايينه . انتصب واقفا و قد جحظت عيناه حين تعرّف في الشّبح على ملامح زوج خالته .
نفس الكابوس يعاوده منذ شهور , منذ قرّر الرحيل من هناك . وجد في السفر سبيله الوحيد للخلاص و الفكاك من شرنقتها الحريريّة الخانقة . قرّر المضيّ صوب أفقٍ بعيدة و مجهولة .. هل كان يستطيع غير ذلك ؟ ماذا يمكن أن يفعل و قد تشابه عليه البشر واختلطت في ذهنه المفاهيمُ و الصور ؟
هذا الصباح لفظته الحافلة في مدينة أخرى , أبعد هذه المرّة .
هامَ على وجهه مستنفرًا خطاه كهاربٍ من وباء يخشى أن لا شفاء منه سوى التمرّغ فيه .
جاب الشوارع و الأزقة مشتّتَ الفكر , مبعثرَ الشعور, يغالب نفسا أثقلها الهم و يتحاشى النظرَ في وجوه المارّة مخافة أن يكتشفوا عُرْيَ ذاته , أو يفضحوا ما وراء وسامته و أناقته و قسماته البريئة . يغضّ الطّرف كلما صادفته أنثى.. أعيذني منك ..و من نعيم جنّتك المستعرة... كل النساء لبِسْنَ ملامحكِ ! . تبّا لك...لمَ لا تيسّرين الأمر عليّ ؟ لمَ تصرّين على ملاحقتي ؟ إني راحل صوب أرضٍ محايدة أدفن في تربتها عفونة سوءتي , و أستتر تحت سماءٍ أخرى لم تشهد وضاعة فعلتي و بشاعة جرمي .
أراد التملّص من شِرك غواية نصبته له عيناها ذات ليلة من ليالي الصيف المثيرة , المغرية بالطيش و الجنون ..
تحاصره صورتها أنّي يمّمَ أفكاره , تلاحقه كظلّه ,تركض خلفه شياطين فتنتها , تغريه بأن يعود أدراجه , أن يرتمي في وهج أحضانها و ينهل من كنوز جسدها المرمري .. من خلف كتفه , تطلّ أفعى رقطاء يقطر السمّ من أنيابها و يضطرم اللّهب في عينيها , تفحّ في أذنه .... " فعلتَ ذلك دائما , لمَ تتراجع الآن ؟ "
ينتفض . يلعنها في سره و يلعن الساعة التي شهِدَتْ , على يديها , بدء مأساته و ثورة جحيمه , يوم كان فرخا خفيف الزغب مَرْخيّ الجناحين يحلم بالتحليق في عوالم الفحولة ..دون أن يعي منها سوى شذرات تصله من رفاق الحيّ و المدرسة أو أخيلة تغذيها مراهقة كانت تطرق أبوابه على استحياء .
مدلّل خالته الصغرى كان , منذ حداثة سنه , المفضّل عندها , وحده من يستأثر باهتمامها و حبّها و حنانها . يرافقها إلى الحلاقة و السوق و تصطحبه في الزيارات و المناسبات و عكس كل خالاته , كانت مرحة حدّ التصابي , مستهترة , تعشق البهرجة و المظاهر ..حتى الزواج لم يغيّر شيئا من طبعها .
" حبيب خالتك أنت ..اقترب ..تعالى في حضني . من أغضبك ؟ "
وهكذا , يحتمي بصدرها دائما كلما تضايق أو ضايقه أحد . و حتى لماّ كبر " حبيب خالته " و أصبح شابا يلفت الأنظار , وسيم , جذّاب ,قويّ البنية , شديد الاعتناء بهندامه و مظهره , يبدو بطوله الفارع و صدره العريض و عضلاته المفتولة أكبر من سنّه بكثير .. فقد ظلّ قريبا منها , ملازما لها .
كثيرا ما كان يغلبه الارتباك و هي تتعمّد أن تلتصق به أو تلامس جسده بجرأة غريبة , أو تضع ذراعها في ذراعه و هما يسيران في الشارع فيحسبهما الرائي حبيبين أو زوجين حديثي الزواج ..بعدها تحوّل الارتباك إلى إحساس بالزّهو و هو برفقة امرأة جميلة أنيقة تلاحقها العيون , ثم أصبح يشعر برعشة لم يألفها كلما تابعته بنظرتها أو اقتربت منه .
إلى أن كان حفل زفاف أخته .
تلألأت الأضواء و عبق المكان برائحة العطور و رنين الضحكات و تفتق الأهواء .حسناوات غاية في الأناقة و التبرّج يرقصن على وقع موسيقى صاخبة , و تألّقت خالته في ثوب حريري بديع كشف مفاتن جسدها فبدت أجمل من قبل , فتنة تسير على قدمين , تدور بين المدعوين توزّع الحلوى و الابتسامات و هو إلى جانبها , في كامل أناقته , يساعدها و قد لعبت برأسه بضع كؤوس من الخمرة احتساها في غفلة من الجميع ..
و في آخر الليل لا يذكر كيف انتهى به الحال على انفراد معها , في غرفة , بالطابق الأول لتغتنم الفرصة و..ترتمي في أحضانه .
أسقط في يده.. ماذا يفعل ؟ كيف يتصرّف ؟ أين المفرّ و قد أُضيئت كل الحواس المطفأة في شعاب جسده الفتيّ القويّ ..؟ ماذا يفعل أمام امرأة مهووسة , صارخة الأنوثة تجيد كل فنون الإشعال و طقوس الإغراء ؟
تكاد تردعه رعشة الخوف و يثنيه الخجل لكن أوار الرغبة يستعر في دمه و أمواج الشهوة تجرفه نحو الأعمق فيغرق في شذى أنفاسها..و في لهب السرير .
مذعورا كان حين أفاق من سكرة النشوة . لمْلَمَ براءته المُراقة فوق شراشف السرير و عفّته المسفوحة بسكين جنونها , و هرول خارجا متعثّرا في عرقه و خجله وذهوله .
ولكنه استعذب التجربة , انتشى باللذة فأصم أذنيه عن صوت العقل , و انقاد وراء نزوته و استهتار امرأة صار اليوم يمقتها بقدر ما كان يعشقها . انغمس الاثنان في أتون الشهوة أياما بل سنوات . و لأن زوج خالته , بحكم اشتغاله بالتجارة , كثير الغياب و الأسفار فقد كانت الأجواء مهيأة للقائهما و خلوتهما دون رقيب , بل إن الزوج كان يترجّاه أن يهتم ببيته في غيابه و يعتني بخالته .
إلى أن حدثت هزّة .. مفاجئة , عنيفة , صادمة .
توفى زوج خالته في حادث سيارة ..شعر بالأسف من اجله , و لكن الغريب ما حصل له لحظة كانوا يدلون بالجسد الهامد في الحفرة الضيّقة المظلمة . لا يدري ما الذي أصابه . أجهش بالبكاء فجأة و لم يستطع التوقّف .. أحس بفزع شديد و انتابه التوتّر و الضيق و راح يحدّث نفسه .. " أ أكون قتلته ؟ .."
بدأت معاول الندم تحفر في جدران روحه . داخَلَهُ شعور بالخزي و غزت فكره مشاعر سلبية قاتلة تمنّى لو كان يستطيع توجيهها نحو أي عامل خارجيّ .. كم سيكون مرتاحا لو يقنع نفسه بأنه الضحية فيتحرّر من وخز سهام سامة بدأت تنغرز في صدره و ظهره , و رأسه..
و لكن عذابه كان يزداد يوما بعد يوم . تقاذفته الهواجس و مزقت قلبه نوازع اللذة من جهة و مرارة الإثم و الإحساس بالذنب من جهة أخرى . غير أنّه وجد نفسه مرّة أخرى منساقا وراء هواه , مَقودا بعصا غريزته العمياء و إلحاح شهوته , فعاود الرجوع إلى وكر المتعة و لكنّه ما كاد يقف بالباب حتى أحاطته المخاوف و الوساوس من كل جانب , أحس بضيق شديد في صدره فنكس رأسه و هرول راجعا و صوت يتردّد في أذنيه دون انقطاع .. " غدرتَ بالرجل حيّا , كيف تجرأ على الغدر به ميّتا ؟ "..
تبًا لي ! منتهى الفظاعة و الجبن و الخسّة أن أغدر بميّت !
بعد أيام , و الفجر يمسّد بالضياء وجه المدينة , حمل حقيبته و رحل .
تعليق