
حديقة عارية من كل شيء , قوارير من الطين الفاقد الهوية يجلس في الزوايا, بيت هارب من متحف التاريخ يقبع تحت سماء ملبدة بغيوم الذاكرة الرمادية , جدران يعتريها جنون العظمة من زمن الصمت تحمل في جعبتها جميع روايات الحب المأسوية التي دارت بين أفراد هذه العائلة , مجموعة من القطط الجالسة في أحظان امرأة على كرسي أحمر ينازع الموت منذ زمن..
لم تكن امرأة عادية أبداً, إنها عجوز تناهز السبعين من العمر, تصرفاتها عجيبة
تروض النسيان بين أثوابها, وتروي قصتها للقطط , لا تكلم الناس ألا حين المناسبات, ولا تصرخ بأحد ,ليست بالمجنونة ,فهي الأعقل بين جميع البشر,, ترتدي معطفا , من فرو الثعلب لا تنزعه عن جسدها ولا تغيّره
وكأنه يحمل معه ذكرى من ذاكراتها الضائعة. بالمدينة دار لكبار السن يحضرون أليها كل من خانهم الزمن في لحظة من العمر المر , كانت العجوز تأتيها كل عصر لتجلس مع احدي أصدقائها, تنظر أليهم بكل حب تبادلهم الصمت أحياناً والابتسامات المريرة أحياناً أخرى والدموع للحظات كثر, ثم ترحل تاركة وراءها ألف علامة للتعجب ,كانت تفعل ذالك من تلقاء نفسها,وكأنها ترفض أن يقول عنها الناس مجنونة وتركها أبنائها لسبب تقصير منها أو لإهمال لم تقصده يوماً
إنها فعلا المرأة الأغرب.ليست بالمجنونة بل الأعقل من بين جميع البشر ,تفضل الصمت دائما , على الحديث مع أحد , وردها الوحيدعندما يسألها أحدهم : تريق دمعة من عينيها ثم تطأطئ رأسها وترحل بكل وقار ملفوف بملامح الوجع .. تفضل الصمت بدلاً من الكلام. تسكن بيتا قديما هارباً من متحف التاريخ , فيه بئر قديمة شاهدة على أسراره, ومجموعة من الغرف الكبيرة التي تزورها الأشباح كل مساء , بهاأثاث وأشياء لوحات وصور, نقلت من متحف العصر. كانت شاهدة على حكايات وقصص ضيعها الزمن, وفي غرفتها , مذياع مفتوح لا يتعب ولوحات زيتية مبعثرة. في فضاء السقف نقوش دخلت مزاد الحضارة منذ قرن
تجلس كل يوم صباحاً على كرسيها الخشبي القديم وتحمل بين أحضانها أحيانا القطط وأحياناً مجموعة من ألبومات الصور, تتسلي بها, وكأنها أسرتها الوحيدة,
ليست بالمجنونة هي بل أعقل البشر, لا احد كان يزورها أبداً ,كنا دوماً نشاهد تاريخها المترامي عن بعد ,حين كنا نلعب الطابة قرب منزلها ,حتى حين كانت تسقط أحد الطابات هناك لم نمتلك في يوم الجرأة على الاقتراب أكثر من منزلها,قد تكون جميع الحكايات التي سمعنها عنها بالصغر كان لها أشد الأثر للذعر من دخول هذا البيت الصاخب بكل مجريات التاريخ القديم, ليس بالمجنونة هي بل أعقل البشر تأكدتٌ بعدما قصدتها , مدعياً أني صحفي مبتدئ , أود عمل لقاء خاص معها دون
النشر,وحضرتٌ منزلها ,ورأيتٌ ما أردت,فدهشت حد الوجع لما رأيت ,استقبلتني بكل هدوء ووقار , دعتني للجلوس أمامها, وما أن هممتٌ بالسؤال حتى سقطت من عينيها دمعة وطأطأت رأسها ثم أعطتني ذاك الكتاب الذي كان بين يديها ثم همت بالنوم ..؟؟
دهشتُ لما رأيت ولم أفهم شيئاً سوي أنها أعطتني تذكرة للعبور بين أروقة ذاكرتها بدأت ألتهم صفحات الكتاب بكل شهية , وما أن انتهيت منه سقطت من عيني دمعة أرجعتٌ الكتاب لحضنها, ثم رحلت بكل بصمت, كأني صدمت أو ثملت في ذاك الوقت, تلك المرأة التي أنشأت أجيال من دون شيء ,كانت دكتورة في الجامعة
عاشت حياتها بكل أمان, حب, وأمل, وفخر, ثم في لحظة ضاع منها كل شيء, كان زوجها قائد للجيش, مات وهو يدافع عن موقعه, أبنائها كانوا صغار السن حين ذاك, أصرفت عليهم كل شيء, كانت الأب, الأم,الخالة والأخت لهم كل شيء
أغدقت في تعليمهم كبروا ,تزوجوا ,تركوها ثم رحلوا مع أبنائهم , كأن شيء لم يكن ,فقدت هويتها ذاكرتها وتاريخها , وعاشت بذاكرة طفلة تحتضن الصور وتلعب صباحاً مع القطط ,لم يبقي غير هذا الجدران , وأكوام الذاكرة التي تلاحقها وهذا المعطف على جسدها التي احتفظت به من صبا عمرها ,أهدها إياه زوجها في عيدهم الأول معاً, بعض القطط التي فضلت العيش هنا هرباً من العالم الذي لا يرحم, ليست بالمجنونة هي بل أعقل البشر,فضلت العيش بطفولة ,مع هذه الجدران والصور ومعطف الفرو وصحبة القطط ربما أحبتها كثيراً لأنها لن تتركها وحيدة كما فعل أبنائها أو ربما لأنها لن تغدر بها كما يفعل البشر
ربما كان الزمن مجحفاً بشأنها ولكن القطط والصور أكثر وفاء.
تعليق