[align=justify]
حول عرض مسرحية " ناتان الحكيم " في غزة
بقلم : د . محمد أيوب
في حوالي الساعة الثامنة من مساء يوم الخميس الموافق الثامن من أكتوبر 1998م 17جمادى الآخرة 1419هـ بدأ عرض مسرحية ناتان الحكيم عل مسرح مركز رشاد الشوا الثقافي ، وقد رافقت عرض المسرحية ترجمة مبتسرة ، لكنها كانت كافية لاستفزاز مشاعر الجمهور ، ومنهم عدد كبير من المثقفين ، مما حدا بالكثيرين منهم إلى مغادرة مكان العرض في حركة احتجاجية صامتة ، وقد طلب مني بعض الأصدقاء أن نغادر المكان ، ولكني قررت البقاء لمتابعة المسرحية ، ومع ذلك فقد اضطررت إلى مغادرة المكان في آخر ربع ساعة من المسرحية .
المسرحية ـ والعهدة على المترجم لأنني أجهل الألمانية ـ تتحدث عن يهودي اسمه ناتان يعود إلى بيته في القدس فيجده وقد احترق وأكلته النيران ، ولا يشير المؤلف إلى الذي أحرق البيت ، ولكنه يشير إلى أنه أعاد بناء بيته ، وكأن المؤلف اليهودي جوتهولت إفرايم ليسينغ زعيم حركة التنوير اليهودية في ألمانيا يريد أن يقول لنا إن القدس هي موطن اليهود ، وهذا ادعاء توراتي قديم ، فالتوراة تخبرنا أن الرب منح أورشليم وما حولها ليعقوب ولنسله من بعده لأن الرب لم يستطع الانتصار على يعقوب ( إسرائيل أي مصارع الإله ) الذي صارعه طيلة الليل ، وهذا التقديم يتعارض مع موقف حركة التنوير اليهودية التي كانت تدعو إلى اندماج اليهود في المجتمعات الأوربية ، ولعل المسرحية بهذه المقدمة تشكل إرهاصا يمهد للحركة الصهيونية ، ومما يؤكد ذلك أن اليهود بعد كتابة هذه المسرحية بسنوات قليلة طلبوا من نابليون السماح لهم بالاستيطان في فلسطين ، كما اتصلوا بالسلاطين العثمانيين لنفس الغرض ، كما أن بداية المسرحية تشير إلى أن فارساً صليبيا أنقذ ريشا ابنة الحكيم اليهودي من الاحتراق ، تقوم الخادمة داجا بإبلاغ الحكيم ناتان بذلك ، تتعلق الفتاة بالفارس الصليبي وتعتقد أنه ملاك وليس إنسانا ، ولكن والدها يحاول إقناعها أنه إنسان وأن من الأفضل أن يكون إنساناً .
والمسرحية تحاول أن تقدم صورة مشوهة للقائد العظيم صلاح الدين الأيوبي ، فهو إنسان لا هم له إلا جمع المال بغض النظر عن مصدر هذا المال ، لأنه يفتقر إلى المال والسلاح والخيل ولا يجد إلا الله الموجود ، وإذا كان حال صلاح الدين كذلك فكيف استطاع أن يحقق انتصاراته العظيمة على الصليبيين ، تلك الانتصارات التي لم تشر إليها المسرحية لا من قريب ولا من بعيد ، وصلاح الدين إنسان محدود الذكاء في نظر مؤلف المسرحية الذي لا يشير إلى ذلك صراحة بل يغمز من طرف خفي و الحذق يفهم ، فهو يقول لنا أن أخته سيتا ـ ولا أدري من أين جاء المؤلف بهذا الاسم الذي أعتقد أنه ليس عربياً ـ قد هزمته في لعبة الشطرنج ، فهل يعقل أن من أدار كل هذه المعارك ضد الصليبيين بكفاءة عالية لا يستطيع أن يمارس لعبة الشطرنج ، والمسرحية تغمز على العرب من طرف خفي حيث تشير إلى أن نساء هم هن اللاتي يخططن للقادة ، فأخت صلاح الدين تريد أن تتنصت على ما سيدور بين أخيها وبين ناتان وكأنها لا تثق بحصافة رأي أخيها القائد ، ولكن صلاح الدين يقوم بزجر أخته ومنعها من التنصت من خلف الستار ، وتقوم بوضع خطة لجباية الأموال ، والأنكى من ذلك كله أن المسرحية تقدم صلاح الدين على أنه إنسان شاك لا يعرف إن كانت ديانته وعقيدته صحيحة أم لا ، ولا يملك إلا أن يسأل ذلك اليهودي ناتان عن أي الديانات هي الأصح ، إنسان شاك مهتز العقيدة بهذه الصورة كيف يمكنه أن يدافع عن الإسلام بهذه البسالة.
يرد ناتان على تساؤل صلاح الدين بأن يقص عليه قصة رجل لديه خاتم حقيقي يريد أن يورثه لأولاده الثلاثة ، ولما كان الرجل ( الذي يرمز إلى الإله ) لا يريد أن يغضب أياً من أبنائه ، فقد صنع خاتمين مزيفين وأعطى كل ابن من أبنائه خاتما ، ولكن واحداً منهم فقط هو الذي أخذ الخاتم الحقيقي ( الدين الحقيقي ) ويتابع المترجم فيقول إن من حق كل ابن أن يعتقد أنه صاحب الخاتم ( الدين ) الحقيقي ، ولكنه يردف قائلا : إن الرجل أعطى الخاتم الحقيقي إلى أحب الأبناء إلى قلبه ، وفي هذا إشارة واضحة يمكن لأي إنسان مطلع أن يدرك أنها إشارة إلى أن الديانة الحقيقية هي الديانة اليهودية ، فأحب الأبناء إلى الأب في الديانة اليهودية هو الابن البكر الذي له حق الإرث عن والده ( حق البكورية )، وكما ورد في القرآن الكريم من ذكر لشعب الله المختار وأن الله فضل بني إسرائيل على العالمين ، ويشير المؤلف بموت الرجل إلى موت الإله الذي بشر به فلاسفة تلك الفترة وخصوصاً الألمان منهم ، ومما يؤكد هذا التوجه أن المؤلف نفسه كتب كتاباً عن تطور البشرية من مراحل الديانات إلى مرحلة المجتمع المنظم طبقا لقوانين مقدسة من وجهة نظره وذلك في كتابه تثقيف البشرية سنة 1780م .
والمؤلف يطعن في ذمة صلاح الدين وفي إنسانيته ، كما يطعن من طرف خفي في نسبه ، فهو لم يطلق سراح الفارس الصليبي إلا لأنه يشبه أخاه ، ويركز على ذلك حين يجعل صلاح الدين يكتشف أن الميدالية المعلقة في رقبة الفارس الصليبي تشبه تلك المعلقة في رقبة أخ وأخت صلاح الدين ، وكأن المؤلف يريد أن يقول إن أخوة صلاح الأشقاء هم أخوة الفارس ، وبهذا يمكن أن يستنتج المشاهد أن صلاح الدين من أصل أوربي أو أن أخوته هؤلاء ليسوا من دمه وفي هذا طعن في انتمائهم و انحدارهم من صلب أب واحد ، وأخيرا يحاول المؤلف أن يؤكد ذلك بجعل صلاح يتحالف مع الصليبيين ، وفي هذا ما فيه من تزوير للتاريخ، ذلك أن التاريخ لم يذكر أن صلاح الدين قد تحالف مع الصليبيين ، وإن كان صلاح الدين ـ ولأسباب محض تكتيكية ـ قد وافق على هدنة مع الصلبييين الذين قاموا بخرقها حين اختطفوا أخت القائد صلاح على طريق الكرك .
إن محاولة الإساءة إلى القادة العرب والمسلمين ونبش قبور الموتى منهم في هذا الوقت بالذات أمر يخلو من البراءة ، إن الإساءة إلى صلاح في هذه المسرحية ـ بغض النظر عن الادعاء القائل بأن فيها دعوة إلى التسامح والتعايش السلمي بين الأديان ـ تتزامن مع محاولات لصوص الأمة العربية ورجعيوها الإساءة إلى ذكرى القائد الراحل جمال عبد الناصر طيب الله ثراه ، إن شبح جمال عبد الناصر وشبح صلاح الدين الأيوبي ما زالا يؤرقان أعداء الأمة العربية سواء أكان هؤلاء الأعداء داخل أو خارج الأمة العربية ، ومن هنا تأتي الحملة الشرسة على رموز هذه الأمة لسلخها عن ماضيها وتشكيكها في ذمم الصادقين من قادتها ، إن أمة لا تحترم ماضيها العريق والتليد لا تستطيع أن تبني حاضرها أو أن تشق طريق مستقبلها .
قد يرى البعض أن المسرحية أنصفت صلاح الدين ، وهو حر في رأيه ، كما أنني حر في رأيي ، وأنا أرى أن المسرحية شوهت صورة صلاح كرمز عربي إسلامي ، ولعل أبسط مثال على ذلك هو الإشارة إلى اختيار الحافي مسئولا عن جباية الأموال لصلاح الدين ، وأن الحافي كان صديقاً ـ أثناء فقره ـ لناتان ، وتطلق المسرحية على الحافي ( وهو شحاذ أيضا ) لقب الدرويش إمعاناً في الإساءة إلى صلاح الدين ، ويفاجأ ناتان بعد عودته إلى القدس حين يرى آثار النعمة تبدو على الحافي وحين يعرف أنه أصبح بمثابة وزير لمالية صلاح الدين ، ولا يشير المؤلف إلى الدولة الأيوبية التي أنشأها صلاح الدين ، يصبح الحافي غنيا وفي هذا إشارة إلى سوء ذمته المالية وإلى غفلة صلاح الدين ، وفي هذا ما فيه من إساءة إلى رموز أمتنا العربية الأحياء منهم والأموات على حد سواء .
إن المسرحية ليست بريئة ولا تخلو من الشبهات ، ولا أدري كيف تم اختيار هذه المسرحية بالذات ولا من وراء اختيارها ، يظهر سوء نية المؤلف في اختياره لشخصياته وفي الصفات التي حاول إلحاقها بكل منهم ، فناتان اسم يهودي وهو حكيم يلجأ إليه صلاح الدين للاستئناس برأيه ، والحافي كلمة عربية تحمل ما تحمله من معاني التخلف والانحطاط ، وصفة الدرويش تحمل معنى البله والغفلة ولا تدل بحال من الأحوال على الطيبة ، والحافي عربي أولا وأخيراً ، وربما كان الشخصية العربية الوحيدة في المسرحية ، وقد جعله المؤلف يقف شبه عارٍ على خشبة المسرح ، و يقرر المؤلف إعادته إلى الصحراء ، وفي هذا ما فيه من دعاية صهيونية تؤكد على أن أصل العرب وموطنهم الصحراء وأن مآلهم ومرجعهم إلى الصحراء ، أما سيتا فاسم غير عربي ، ولا يغرنا ما حاول المؤلف الإشارة إليه حين جعل صلاح الدين والفارس يكتشفان تزييف اليهودي للحقيقة ، وذلك حين يقول إنه ( الحكيم ) التقط فتاة مسيحية ولقنها الديانة اليهودية ، ربما كانت الفتاة تشير إلى فلسطين وإلى قناعة الصليبيين بأن فلسطين أرض مسيحية ، وفي هذا ما فيه من تناقض في مواقف المؤلف ولعله أراد أن يذر الرماد في العيون وألا يستعدي عليه المجتمع المسيحي الذي يعيش بين ظهرانيه في عصر الغيتو اليهودي. وأود قبل الختام أن أشير إلى أن سوء من عرف بالمسرحية يتضح من خلال تحريف اسم المؤلف بكتابته على أنه جوتهولد إبراهيم ليسينغ بينما ورد اسمه في الموسوعة العربية على أنه جوتهولت إفرايم ليسينغ ، وهو من مواليد 1927م وكذلك من خلال الادعاء أن هذه المسرحية هي أهم أعماله، في حين أن له مسرحيات أخرى منها (سارة سامبسون) 1755 و( أميليا جالوتي ) 1779م ،وأن له دراسة نقدية في التاريخ والأدب وله كتاب من أهم الكتب الحديثة في علم الجمال، كما ادعى التعريف المرافق للدعوة أن المسرحية تنحصر في قصة رجل يريد أن يورث أبناءه الثلاثة خاتماً ثميناً ، في حين أن اقصة كانت مضمنة ضمن المسرحية على لسان ناتان .
أما من حيث التكنيك والإخراج فإن المسرحية لا تقدم أي جديد لمسرحيينا الشبان ، وهي لا تقدم لهم شيئاً يمكن أن يستفيدوا منه ، فلا إضاءة ولا ديكور ولا إبداع في الإخراج ، فالمسرحية تنتمي إلى المسرح الذهني ، وقد كانت شخصياتها أقرب إلى الأبواق أو الدمى التي تنفث الأفكار لتدس السم في الدسم ، وفي النهاية فإن البطل الحقيقي في المسرحية هو ناتان وما عداه شخصيات ثانوية بما فيهم صلاح الدين الأيوبي ، وكلي أمل أن يشاهد المسرحية كل من يعرف الألمانية في الضفة الغربية ليرى ما لم أستطع رؤيته بسبب جهلي باللغة الألمانية . [/align]
حول عرض مسرحية " ناتان الحكيم " في غزة
بقلم : د . محمد أيوب
في حوالي الساعة الثامنة من مساء يوم الخميس الموافق الثامن من أكتوبر 1998م 17جمادى الآخرة 1419هـ بدأ عرض مسرحية ناتان الحكيم عل مسرح مركز رشاد الشوا الثقافي ، وقد رافقت عرض المسرحية ترجمة مبتسرة ، لكنها كانت كافية لاستفزاز مشاعر الجمهور ، ومنهم عدد كبير من المثقفين ، مما حدا بالكثيرين منهم إلى مغادرة مكان العرض في حركة احتجاجية صامتة ، وقد طلب مني بعض الأصدقاء أن نغادر المكان ، ولكني قررت البقاء لمتابعة المسرحية ، ومع ذلك فقد اضطررت إلى مغادرة المكان في آخر ربع ساعة من المسرحية .
المسرحية ـ والعهدة على المترجم لأنني أجهل الألمانية ـ تتحدث عن يهودي اسمه ناتان يعود إلى بيته في القدس فيجده وقد احترق وأكلته النيران ، ولا يشير المؤلف إلى الذي أحرق البيت ، ولكنه يشير إلى أنه أعاد بناء بيته ، وكأن المؤلف اليهودي جوتهولت إفرايم ليسينغ زعيم حركة التنوير اليهودية في ألمانيا يريد أن يقول لنا إن القدس هي موطن اليهود ، وهذا ادعاء توراتي قديم ، فالتوراة تخبرنا أن الرب منح أورشليم وما حولها ليعقوب ولنسله من بعده لأن الرب لم يستطع الانتصار على يعقوب ( إسرائيل أي مصارع الإله ) الذي صارعه طيلة الليل ، وهذا التقديم يتعارض مع موقف حركة التنوير اليهودية التي كانت تدعو إلى اندماج اليهود في المجتمعات الأوربية ، ولعل المسرحية بهذه المقدمة تشكل إرهاصا يمهد للحركة الصهيونية ، ومما يؤكد ذلك أن اليهود بعد كتابة هذه المسرحية بسنوات قليلة طلبوا من نابليون السماح لهم بالاستيطان في فلسطين ، كما اتصلوا بالسلاطين العثمانيين لنفس الغرض ، كما أن بداية المسرحية تشير إلى أن فارساً صليبيا أنقذ ريشا ابنة الحكيم اليهودي من الاحتراق ، تقوم الخادمة داجا بإبلاغ الحكيم ناتان بذلك ، تتعلق الفتاة بالفارس الصليبي وتعتقد أنه ملاك وليس إنسانا ، ولكن والدها يحاول إقناعها أنه إنسان وأن من الأفضل أن يكون إنساناً .
والمسرحية تحاول أن تقدم صورة مشوهة للقائد العظيم صلاح الدين الأيوبي ، فهو إنسان لا هم له إلا جمع المال بغض النظر عن مصدر هذا المال ، لأنه يفتقر إلى المال والسلاح والخيل ولا يجد إلا الله الموجود ، وإذا كان حال صلاح الدين كذلك فكيف استطاع أن يحقق انتصاراته العظيمة على الصليبيين ، تلك الانتصارات التي لم تشر إليها المسرحية لا من قريب ولا من بعيد ، وصلاح الدين إنسان محدود الذكاء في نظر مؤلف المسرحية الذي لا يشير إلى ذلك صراحة بل يغمز من طرف خفي و الحذق يفهم ، فهو يقول لنا أن أخته سيتا ـ ولا أدري من أين جاء المؤلف بهذا الاسم الذي أعتقد أنه ليس عربياً ـ قد هزمته في لعبة الشطرنج ، فهل يعقل أن من أدار كل هذه المعارك ضد الصليبيين بكفاءة عالية لا يستطيع أن يمارس لعبة الشطرنج ، والمسرحية تغمز على العرب من طرف خفي حيث تشير إلى أن نساء هم هن اللاتي يخططن للقادة ، فأخت صلاح الدين تريد أن تتنصت على ما سيدور بين أخيها وبين ناتان وكأنها لا تثق بحصافة رأي أخيها القائد ، ولكن صلاح الدين يقوم بزجر أخته ومنعها من التنصت من خلف الستار ، وتقوم بوضع خطة لجباية الأموال ، والأنكى من ذلك كله أن المسرحية تقدم صلاح الدين على أنه إنسان شاك لا يعرف إن كانت ديانته وعقيدته صحيحة أم لا ، ولا يملك إلا أن يسأل ذلك اليهودي ناتان عن أي الديانات هي الأصح ، إنسان شاك مهتز العقيدة بهذه الصورة كيف يمكنه أن يدافع عن الإسلام بهذه البسالة.
يرد ناتان على تساؤل صلاح الدين بأن يقص عليه قصة رجل لديه خاتم حقيقي يريد أن يورثه لأولاده الثلاثة ، ولما كان الرجل ( الذي يرمز إلى الإله ) لا يريد أن يغضب أياً من أبنائه ، فقد صنع خاتمين مزيفين وأعطى كل ابن من أبنائه خاتما ، ولكن واحداً منهم فقط هو الذي أخذ الخاتم الحقيقي ( الدين الحقيقي ) ويتابع المترجم فيقول إن من حق كل ابن أن يعتقد أنه صاحب الخاتم ( الدين ) الحقيقي ، ولكنه يردف قائلا : إن الرجل أعطى الخاتم الحقيقي إلى أحب الأبناء إلى قلبه ، وفي هذا إشارة واضحة يمكن لأي إنسان مطلع أن يدرك أنها إشارة إلى أن الديانة الحقيقية هي الديانة اليهودية ، فأحب الأبناء إلى الأب في الديانة اليهودية هو الابن البكر الذي له حق الإرث عن والده ( حق البكورية )، وكما ورد في القرآن الكريم من ذكر لشعب الله المختار وأن الله فضل بني إسرائيل على العالمين ، ويشير المؤلف بموت الرجل إلى موت الإله الذي بشر به فلاسفة تلك الفترة وخصوصاً الألمان منهم ، ومما يؤكد هذا التوجه أن المؤلف نفسه كتب كتاباً عن تطور البشرية من مراحل الديانات إلى مرحلة المجتمع المنظم طبقا لقوانين مقدسة من وجهة نظره وذلك في كتابه تثقيف البشرية سنة 1780م .
والمؤلف يطعن في ذمة صلاح الدين وفي إنسانيته ، كما يطعن من طرف خفي في نسبه ، فهو لم يطلق سراح الفارس الصليبي إلا لأنه يشبه أخاه ، ويركز على ذلك حين يجعل صلاح الدين يكتشف أن الميدالية المعلقة في رقبة الفارس الصليبي تشبه تلك المعلقة في رقبة أخ وأخت صلاح الدين ، وكأن المؤلف يريد أن يقول إن أخوة صلاح الأشقاء هم أخوة الفارس ، وبهذا يمكن أن يستنتج المشاهد أن صلاح الدين من أصل أوربي أو أن أخوته هؤلاء ليسوا من دمه وفي هذا طعن في انتمائهم و انحدارهم من صلب أب واحد ، وأخيرا يحاول المؤلف أن يؤكد ذلك بجعل صلاح يتحالف مع الصليبيين ، وفي هذا ما فيه من تزوير للتاريخ، ذلك أن التاريخ لم يذكر أن صلاح الدين قد تحالف مع الصليبيين ، وإن كان صلاح الدين ـ ولأسباب محض تكتيكية ـ قد وافق على هدنة مع الصلبييين الذين قاموا بخرقها حين اختطفوا أخت القائد صلاح على طريق الكرك .
إن محاولة الإساءة إلى القادة العرب والمسلمين ونبش قبور الموتى منهم في هذا الوقت بالذات أمر يخلو من البراءة ، إن الإساءة إلى صلاح في هذه المسرحية ـ بغض النظر عن الادعاء القائل بأن فيها دعوة إلى التسامح والتعايش السلمي بين الأديان ـ تتزامن مع محاولات لصوص الأمة العربية ورجعيوها الإساءة إلى ذكرى القائد الراحل جمال عبد الناصر طيب الله ثراه ، إن شبح جمال عبد الناصر وشبح صلاح الدين الأيوبي ما زالا يؤرقان أعداء الأمة العربية سواء أكان هؤلاء الأعداء داخل أو خارج الأمة العربية ، ومن هنا تأتي الحملة الشرسة على رموز هذه الأمة لسلخها عن ماضيها وتشكيكها في ذمم الصادقين من قادتها ، إن أمة لا تحترم ماضيها العريق والتليد لا تستطيع أن تبني حاضرها أو أن تشق طريق مستقبلها .
قد يرى البعض أن المسرحية أنصفت صلاح الدين ، وهو حر في رأيه ، كما أنني حر في رأيي ، وأنا أرى أن المسرحية شوهت صورة صلاح كرمز عربي إسلامي ، ولعل أبسط مثال على ذلك هو الإشارة إلى اختيار الحافي مسئولا عن جباية الأموال لصلاح الدين ، وأن الحافي كان صديقاً ـ أثناء فقره ـ لناتان ، وتطلق المسرحية على الحافي ( وهو شحاذ أيضا ) لقب الدرويش إمعاناً في الإساءة إلى صلاح الدين ، ويفاجأ ناتان بعد عودته إلى القدس حين يرى آثار النعمة تبدو على الحافي وحين يعرف أنه أصبح بمثابة وزير لمالية صلاح الدين ، ولا يشير المؤلف إلى الدولة الأيوبية التي أنشأها صلاح الدين ، يصبح الحافي غنيا وفي هذا إشارة إلى سوء ذمته المالية وإلى غفلة صلاح الدين ، وفي هذا ما فيه من إساءة إلى رموز أمتنا العربية الأحياء منهم والأموات على حد سواء .
إن المسرحية ليست بريئة ولا تخلو من الشبهات ، ولا أدري كيف تم اختيار هذه المسرحية بالذات ولا من وراء اختيارها ، يظهر سوء نية المؤلف في اختياره لشخصياته وفي الصفات التي حاول إلحاقها بكل منهم ، فناتان اسم يهودي وهو حكيم يلجأ إليه صلاح الدين للاستئناس برأيه ، والحافي كلمة عربية تحمل ما تحمله من معاني التخلف والانحطاط ، وصفة الدرويش تحمل معنى البله والغفلة ولا تدل بحال من الأحوال على الطيبة ، والحافي عربي أولا وأخيراً ، وربما كان الشخصية العربية الوحيدة في المسرحية ، وقد جعله المؤلف يقف شبه عارٍ على خشبة المسرح ، و يقرر المؤلف إعادته إلى الصحراء ، وفي هذا ما فيه من دعاية صهيونية تؤكد على أن أصل العرب وموطنهم الصحراء وأن مآلهم ومرجعهم إلى الصحراء ، أما سيتا فاسم غير عربي ، ولا يغرنا ما حاول المؤلف الإشارة إليه حين جعل صلاح الدين والفارس يكتشفان تزييف اليهودي للحقيقة ، وذلك حين يقول إنه ( الحكيم ) التقط فتاة مسيحية ولقنها الديانة اليهودية ، ربما كانت الفتاة تشير إلى فلسطين وإلى قناعة الصليبيين بأن فلسطين أرض مسيحية ، وفي هذا ما فيه من تناقض في مواقف المؤلف ولعله أراد أن يذر الرماد في العيون وألا يستعدي عليه المجتمع المسيحي الذي يعيش بين ظهرانيه في عصر الغيتو اليهودي. وأود قبل الختام أن أشير إلى أن سوء من عرف بالمسرحية يتضح من خلال تحريف اسم المؤلف بكتابته على أنه جوتهولد إبراهيم ليسينغ بينما ورد اسمه في الموسوعة العربية على أنه جوتهولت إفرايم ليسينغ ، وهو من مواليد 1927م وكذلك من خلال الادعاء أن هذه المسرحية هي أهم أعماله، في حين أن له مسرحيات أخرى منها (سارة سامبسون) 1755 و( أميليا جالوتي ) 1779م ،وأن له دراسة نقدية في التاريخ والأدب وله كتاب من أهم الكتب الحديثة في علم الجمال، كما ادعى التعريف المرافق للدعوة أن المسرحية تنحصر في قصة رجل يريد أن يورث أبناءه الثلاثة خاتماً ثميناً ، في حين أن اقصة كانت مضمنة ضمن المسرحية على لسان ناتان .
أما من حيث التكنيك والإخراج فإن المسرحية لا تقدم أي جديد لمسرحيينا الشبان ، وهي لا تقدم لهم شيئاً يمكن أن يستفيدوا منه ، فلا إضاءة ولا ديكور ولا إبداع في الإخراج ، فالمسرحية تنتمي إلى المسرح الذهني ، وقد كانت شخصياتها أقرب إلى الأبواق أو الدمى التي تنفث الأفكار لتدس السم في الدسم ، وفي النهاية فإن البطل الحقيقي في المسرحية هو ناتان وما عداه شخصيات ثانوية بما فيهم صلاح الدين الأيوبي ، وكلي أمل أن يشاهد المسرحية كل من يعرف الألمانية في الضفة الغربية ليرى ما لم أستطع رؤيته بسبب جهلي باللغة الألمانية . [/align]