سنة أولى تمرد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد دلومي
    أديب وكاتب
    • 04-12-2008
    • 23

    سنة أولى تمرد

    أذكر أني كنت في الصف السادس ابتدائي من عام خمسة و ثمانين تسع مائة وألف يوم افرغوا المدرسة على بكرة أبيها (وأمها أيضا) وأخرجونا الى الطريق العام , لم نكن نعرف ماذا يحدث لكن كطفل في الثانية عشر من عمري كنت سعيدا جدا لأني سأتخلص من حصة الحساب ومن الطرح والجمع والضرب والقسمة وباقي القسمة والمسائل التي يشتري فيها تاجر أمتار من قماش ليبيع جزء منها ونحسب نحن ما بقي كنت أخطئ في الحساب دائما وهذا ما جعلني عرضة للضرب على الرأس والطرح أرضا وتقسيم جسدي الى خرائط ملونة زرقاء وحمراء , ربما كنت اسعد التلاميذ في ذلك اليوم الشديد الحر من شهر ماي , وزعوا علينا باقة من الزهور وقصصات ورق , والنجباء فينا وضعوا بين أحضانهم حمامات بيضاء وبما أني لم اكن من النجباء ولا من المميزين بل واحد من المتمردين الذين يثيرون الشغب فقد أخروني مع المؤخرين وأعطونا أعلاما صغيرة وقالوا لنا لوحوا بها عندما يمر موكب الرئيس من هنا , كنا فرحين لأننا سنرى فخامة الرئيس يمر من أمام أعيننا ونحن الذين لم نره إلا في نشرات الأخبار وقد زادت فرحتنا عندما وعدونا أن الرئيس سيقدم هدايا للأطفال , حلمت بأن يقدم لي كرة مصنوعة من جلد بدلا من كرة المطاط التي كانت عندي وحلم اصدقائي بدرجات نارية وبعضهم بالبسة جديدة يسلمها فخامته على الأطفال بعدما يحضنهم ويقبلهم مثل اطفاله تماما ’ أما زميلاتنا فرحن يحلمن بدمى ذات شعور ذهبية وعيون زرقاء وفساتين أفراح وووو .... كانت أحلام الطفولة تكبر في أنفسنا , ومرت اللحظات ونحن ننتظر وبين الفينة والأخرى نلاحظ سيارة الإسعاف تنطلق بصفيرها الحاد ’ كان بعض الأطفال يتهاوون من شدة والحر والوقوف الطويل فتحملهم سيارات الإسعاف الى المصح القريب , وبدأ القلق يتسرب الى نفسي عندما استبد بي الضمأ والجوع ولم تعد الهدية تهمني ولا حتى الرئيس لقد تعبت وكدت أهوى وامتزج العرق في يدي بقماش العلم فصار اللون الأخضر منه يقارب السواد أما الابيض اصفر لونه وذبل وانكمش بين يدي , حاولت المقاومة ولم استطع من شدة التعب وطال الإنتظار وما جاء الرئيس المنتظر وكلما حاولت الفرار أو التملص من بين الصفوف وجدت عيون المعلمة تطاردني وكأنها تقرأ أفكاري ’ ولم أجد بد من الإعتراف لها بضمأي الشديد وتعبي وجوعي فنهرتني بقسوة وكادت تسحق أذني بين اصابعها وطلبت مني أن أصبر كما يصبر الجميع والا كنت عبرة للأخرين , مرت ساعتين على الوعد المحدد ولم يأتي الرئيس ولم يعد صبري يطيق صبرا على صبري , أشعة الشمس تشوي الوجوه حتى الحر تحالف مع سيادة الرئيس والجوع والعطش ’ ولم تستوعب رأسي الصغيرة هذا الإنتظار للرئيس حاولت أن أفهم لما كل هذا ..؟ وهل يرضى الرئيس بتعب أطفال تحت القيض بلا أكل أو شرب ؟ اسئلة كثيرة بقيت عالقة في ذهني لم افك رموزها الا بعدما كبرت .. مرت ثلاث ساعات وبين لفينة والأخرى يخر تلميذ أو تلميذة من شدة التعب والدوار بل حتى بعض المعلمات سقطن وأصبن بالدوار , لم أعد أحتمل وشعرت بأن ريقي قد جف في حلقي , كنت أحلم بكرة فصرت أحلم بكوب ماء ’ أحلام الطفولة كلها راحت في شربة ماء وراحت الهدايا تتهاوى واحدة بعد الأخرى كلها في جرعة ماء أو قضمة خبز , ولم أعد أحتمل هذا الإنتظار الجائر ولم أعد شغوفا برؤية الرئيس وصرت أتمنى ان تبتلعه الارض قبل أن يصل أو تطوى به , نظرت شمالا.. نظرت يمينا وأطلقت سقاي للريح طائرا الى البيت وكلما إقتربت من بيتنا شعرت بالأمان ’ صارت أمي حلم وصار البيت حلم وصارت قطعة الخبز مع الجبن حلم أما شربة الماء فحلم الأحلام , وقفت أمام باب بيتنا دفعته بقوة ارادت أمي ان تصفعني لكن لما رأت حالتي المزرية وضعت يدها على فمها من الدهشة ’ وراحت تسقيني ماءا عذبا ببطء شديد كأنها عثرت علي تائها في الصحراء الكبرى ولما عادت لي الروح قدمت لي كوبا من عصير وقطعا من لحم الدجاج كانت تلك أعظم هدية نلتها في ذلك اليوم. أخذت قسطا من الراحة في البيت شاهدت بعض الرسوم المتحركة ’ كنت أتخيل بعض ابطالها الذين يمثلون دور الأشرار في الرئيس والمعلمين والمدير والوفد المرافق له ولحد الساعة لازلت أتخيل الوطن كله بسياسته ورجال حكمه وشعبه مجرد مجتمع من الرسوم المتحركة يحمه زعبور ويستوزره فرفور , بعد راحتي تلك أطفقت راجعا لأنتظر مع المنتظرين ولما وصلت علمت انهم دونوا إسمي مع الهاربين وأن المدير بنفسه سجل أسماء الهاربين من استقبال فخامته , كانت الساعة تشير الى الواحدة زوالا عندما راحوا يوزعون على التلاميذ الماء والأكل استثنوني انا والجماعة المارقة التي هربت لم أهتم للأمر كثيرا فقد اخذت حصتي من الأكل في البيت ’ والأكل الذي قدموه كان رديئا ولا يثير حتى شهية الضفادع .
    قبل الثانية زوالا سمعت صياحا وهتافا وضربا للدفوف وأناشيد إختلطت بالزغاريد .. ورحت أسمع هذه الكلمات "لقد جاء جاء" .... وما لاحضته أن الحمامات لم تستطع ان تطير فقد انهكها الإنتظار والعطش ومن يدري ربما مات بعضها
    كنت أنظر الى الطريق فلا ارى شيئا وما هي الا لحظات حتى ظهرت في الافق سيارات شكلت طابور طويل عريض ’ لتمر أمامنا مر البرق مخلفة عواصف من غبار كانت سيارات رائعة على كل حال لم ارها من قبل زجاجها أسود , لم أهتم للرئيس قدر أهتمامي للسيارات , ومضى سيادة الرئيس وحاشيته في لمح البصر وأنا الذي كنت أعتقد أنه سيمر بنا راجلا يقبل هذا ويمازح ذاك ويأخذ معنا صورا للذكرى ويوزع علينا هدايا ’ ورجعنا غلى صفوفنا في المدرسة و الكل يحكي عن الذي رآه فقد سمعت ان اصحاب الجهة اليمنى من الرصيف حصل لهم الشرف ورأوا يد الرئيس الكريمة تلوح لهم أما التعساء من الجهة اليسرى وكنت واحدا منهم فلم تتح لهم الفرصة لرؤية يده الكريمة .
    في اليوم التالي أستدعيت الى مكتب المدير ودون أي مقدمات صفعني وركلني وراح يضربني بعصاه في أنحاء متفرقة في جسدي بعنف وحقد وكأني سبب في خراب مالطا وانتكاسة الثورة الفلسطينية او لاني السبب في الفقر وغلاء المعيشة وقلة رواتب سلك التعليم ’ حتى أني لم أعد أقوى على البكاء , كان يضرب ويصرخ في وجهي قائلا : تريدون أن تتعلموا التمرد وأنتم في هذا السن تريدون الخروج عن النظام ’ كلمات لم أكن أفهم منها شيء ".... تمرد ..... نظام .. الحزب .." مصطلحات أسمع بها لأول مرة في حياتي ’ كل ما كنت أعرفه اني لم أكن مخطئا كل ما فعلته اني مارست حريتي في المحافظة على حياتي , مارست حريتي في ان لا اقف مثل البهلوان والمهرج ينتظر عاصفة من غبار ’ كان الضرب قاسيا وقاسيا جدا ’ لكني أدركت من صغري أن الرئيس ليس كما يقدموه في نشرة الأخبار ’ تعلمت من لحظتها ان أحقد عل كل ما يرمز للنظام , صرت أكره حتى الأناشيد المدرسية التي تتغنى بالوطن والنضال صرت أكرهها ولما ننشد جماعيا كنت أشتم وأسب وكنت أرفع صوتي بالشتم كلما رفع التلاميذ اصواتهم بالنشيد ’ وهكذا تعلمت أولى خطوات التمرد , وكانت أول خطوات المقاومة لما نجحت في الشهادة الإبتدائية وتوجهنا نحن الذي مرحت على ظهورنا عصى المدير الى سيارته المهترئة ورجمناها حتى صارت حطاما , كنت أشعر بمتعة وأنا اهشم زجاجها بقضيب من حديد .
    وكان ينظر الينا من نافذته يحاول ان يردعنا , وبين الفينة والأخرى يلوح لنا بالعصا فما كان علينا الا ان رجمنا زجاج مكتبه والمدرسة كلها , ولما سمعنا صفارات الشرطة تسربنا عبر الشوارع والأسواق منتظرين عامنا القادم لنلتحق بالصف السابع في المتوسطة والسنة أولى تمرد .
  • مصطفى بونيف
    قلم رصاص
    • 27-11-2007
    • 3982

    #2
    الأخ العزيز محمد دلومي
    اسمح لي أن أحييك على هذا السرد الجميل، وهذه الخفة الممزوجة بالبساطة التي جعلتني مشدودا إلى نهاية القصة التي تحوي الكثير من المعاني، التي إن صرحت بها سيخرب بيتك.
    شخصيا لدي عقدة لا تختلف عن عقدتك من النظام....

    لا تحرمنا من المزيد من قصصك ...
    ملحوظة تمنيت لو انك لم تذكر التاريخ في بداية القصة...أعتقد بأنه سيكون أفضل.


    تقديري
    [

    للتواصل :
    [BIMG]http://sphotos.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-snc3/hs414.snc3/24982_1401303029217_1131556617_1186241_1175408_n.j pg[/BIMG]
    أكتب للذين سوف يولدون

    تعليق

    • محمد دلومي
      أديب وكاتب
      • 04-12-2008
      • 23

      #3
      شكرا لردك يا صديقي وشكرا للملحوظة وكنت اتمنى لو جاءت قبل ان تنشر القصة في مجموعتي الأخيرة، المهم انها ملاحظة في محلها وان شاء الله سأحاول ان اصنع الجديد سيما و اني لم اكتب منذ عام تقريبا

      تعليق

      • فوزي سليم بيترو
        مستشار أدبي
        • 03-06-2009
        • 10949

        #4
        [align=center]
        أذكر أني كنت في الصف السادس ابتدائي في سنة ..... بلاش نعرف السنة
        وحصل معي نفس الشئ . لكني لم أهرب إلى البيت مثلك . صمدت حتى أغمي علي
        من شدة التعب والجوع والعطش .
        والله يا محمد دلومي إنت طلعت أجدع مني وأجرأ .
        لكن يا صاحبي محمد . المثل بيقول : بيموت الزمار وصباعه بيلعب .
        خرجت في يوم بمظاهرة لمساندة ثورة الجزائر ، وعينك ما تشوف إلاّ النور
        التقطني إثنين من عتاولة جيش البادية ، وفين يوجعك يا أبو الفوز . بالهراوة وبالشلاليط
        ومحسوبك بين إيديهم مثل العصفور . وبذلك أكون قد حصلت على فيزا القبول لدخول سنة أولى تمرد .
        وغدا قلمي ولساني يجاهران بالعصيان .
        والله يستر


        مقالك رائع ومكتوب بحرفية قلم ساخر
        أحييك
        فوزي بيترو

        [/align]

        تعليق

        • محمد دلومي
          أديب وكاتب
          • 04-12-2008
          • 23

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة فوزي سليم بيترو مشاهدة المشاركة
          [align=center]
          أذكر أني كنت في الصف السادس ابتدائي في سنة ..... بلاش نعرف السنة
          وحصل معي نفس الشئ . لكني لم أهرب إلى البيت مثلك . صمدت حتى أغمي علي
          من شدة التعب والجوع والعطش .
          والله يا محمد دلومي إنت طلعت أجدع مني وأجرأ .
          لكن يا صاحبي محمد . المثل بيقول : بيموت الزمار وصباعه بيلعب .
          خرجت في يوم بمظاهرة لمساندة ثورة الجزائر ، وعينك ما تشوف إلاّ النور
          التقطني إثنين من عتاولة جيش البادية ، وفين يوجعك يا أبو الفوز . بالهراوة وبالشلاليط
          ومحسوبك بين إيديهم مثل العصفور . وبذلك أكون قد حصلت على فيزا القبول لدخول سنة أولى تمرد .
          وغدا قلمي ولساني يجاهران بالعصيان .
          والله يستر


          مقالك رائع ومكتوب بحرفية قلم ساخر
          أحييك
          فوزي بيترو
          [/align]
          الأخ الغاليب فوزي ، حتى وان " كانت عينك ما تشوف إلا النور " إلا أنه في الأخير انتصرت حريتك، الكدمات وألم الضرب مضى عليه الزمن وأكل عليه الدهر وصارت نسيا منسيا، ولكن موقفك هاهو بعد عقود تتذكره لأنه كان بطوليا، فماذا لو مثلا ، أقول مثلا بقيت على الحياد تتفرج وانت ترى أقرانك في تلك الفترة يضربون بالهراوات لأنهم يؤمنون بقضية شعب يحبونه ويحبهم ..؟ الأكيد أنك ستندم طيلة ما بقي لك من العمر لأن الشجاعة خانتك لحظة لتخلد بها موقف يدوم العمر .
          سعيد جدا لأنك هنا وسعيد أـكثر لأنك من طينة الذين دخلوا سنة أولى تمرد فمرحبا بك في نادي المتمردين في سنتهم لاأولى الأبدية

          تعليق

          يعمل...
          X