مكابرة !

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • علي عكور
    عضو الملتقى
    • 04-08-2008
    • 18

    مكابرة !



    مُكابَرَة !!
    بَعدَ أنْ أنهينا ترتيبَ حقيبَة سَفرِها , وقفنا لنمارسَ طقوسَ الوداعِ البليدَة , وقفنا أمامَ بعضِنا تفصلُ بينَنا خُطوَةٌ , ثُمّ بنصفِ خطوةٍ منّي و أخرى مِنْها التَحمنا كغمامتين في سماءِ الفراقِ , لا تلبثانِ أنْ تنفصلا لتكملَ كلُّ واحدَةٍ مسارَها بِمُفرَدِها ! .
    ككلِمَةٍ تَحتضِنُ معناها , فتَحتْ ذراعَيْها و احتضنَتني بقوّة , و في صَقيعِ الوداعِ و نَفْحِ رياحِهِ البارِدَة تَدثّرتُ بِمِعطفِ كبريائي , كُنْتُ متماسِكًا أمامَها و ثابتًا كأشجارِ الصّنَوبَرِ المُعمّرة . ذرَفَتْ دَمعَة تلألأتْ على خَدّها فَمسَحتُها بشالِ الصّوفِ المُلتَفّ حَولَ عُنقي . غارَتْ عينُها الأخرى فذرفتْ دَمعَةً حَرّى فَمسَحتُها بِطَرَفِ إصبَعي. ثمَ هطلَتْ دموعُها هطولًا ليُعشِبَ الألمُ في صدري و يُغطي مساحاتٍ شاسِعَة !!.
    كُلّما امتَدّتْ لحظَةُ العناقِ اشتَدّ عَصْفُ الريحِ حولي و اهتزّت الأرضُ ؛ بيدَ أنّني شَجَرَةُ صَنوبَرٍ غائِرَةُ الجذورِ تَشمَخُ في وجهِ العاصِفَةِ دونَ انْحناءٍ , و تزدادُ ثباتًا إذا مادت الأرضُ تحتَها . التَقَتْ أعيُنُنا فامتَدَّ بينَها جسْرٌ لا مَرئيٌّ عَبَرتْ عليْهِ عرباتُ الحُزنِ لركضِ خيولِها وقعٌ في آذانِنا . استمرتْ عيناها تنثُرُ حروفَها المتلألئة على صَفحَةِ خدّها , و في المقابِل كانت عيناي تقرأ بطلاقَة , بدا الأمرُ أشبَه بكرنفالٍ خرجَت الدموعُ لترقصَ في صَخَبِهِ ؛ بَيْنَما ـــ إمعانًا في الثبات ـــ فَرضْتُ حَظرَ تجوالٍ على دموعي .
    أخذتْ حقيبةَ يدِها الجديدَة , و أمسكتُ أنا بطرفِ حقيبةِ سَفَرِها و سحَبْتُها خلفي , ثمّ ركبنا السيارَة نطوي الإسفلتَ المُمتدِّ للّحاقِ بالطائرَة . في الطريقِ إلى المطار كانَ الصمتُ سيّدًا نحنُ عبيدُه . ثمّة كلماتٍ تقال غيرَ أنّ حروفها تتهشّمُ كالأغصانِ المُحترقَة . اقتربنا كثيرًا من المطار فمدّتْ جسورَ الكلام :
    ــــــ كيفَ سَتتدبّرُ أمورَك في غيابي ؟
    ـــــــ لستُ طفلًا , لطالَما تدبّرتُ أموري بنفسي قبلَ أنْ تدخلي حياتي .
    قُلتُها و أنا أتصنّعُ ضِحكَة أشبَه بضحكَةِ مُهرّجٍ أبْلَهٍ . نظرتْ إلىّ ثمَّ أمطرتْ برقّةٍ و حنانٍ :
    ـــــــ أنت طفلي , و تظلُّ كذلكَ مهما كَبُرْتَ و كابَرتْ .
    رغمَ أنّني اغتسلتُ بكلماتِها من الداخِل , إلّا أنّني أخفَيْتُ ذلك بلؤمِ طفلٍ يُخفي قطعَةَ حلوى عنْ أعيُنِ أمّهِ . ركنْتُ السيارَة جانبًا , و ترجّلنا منْها, أخذنا الحقيبَة و اتجهنا نحو الصالَة . قبلَ أن ندخلَ رفعتُ رأسي و قرأتُ اللوحَةَ في الأعلى : ( ا ل م غ ا د ر و ن ) .. قرأتُها في داخلي مقطعَة الحروفِ , تمامًا كأشلاءِ منْ يتناثرونَ بشَظيّةِ الفراق .. عينايَ ورقَةٌ صفراءُ تقرأ حتْفَها في أعيُنِ الخريفِ . أنهيتُ إجراءات السفرِ ببُطءٍ شديد . أمسكتُ يدَها و سرنا نحو رجل الأمنِ ليدقّقَ أوراقها الثبوتيّة . طلبتُ منْه أنْ يسمحَ لي بمرافَقتِها بضعَ خطواتٍ ففعل بلُطفٍ . خطونا قليلًا ثمّ توقفنا إلى اليمين , وقفنا أمام بعضنا , و كنخلتَينِ مائلتَين على بعضِهما , مالتْ رؤوسنا لتبادلِ الوصايا الأخيرَة , قبلَ أنْ ينبُتَ نداءُ الرحلَة شجرَةً دخيلَةً بيْنَنا . نظرَ إليَّ رجلُ الأمنِ و انفصلتْ يدانا و افترقنا .
    في طريقِ العودَة , ملأتُ مَقعدَها الفارغ بنظراتي , ثمّ أخرجتُ منْ درجِ السيارَة عطرها القديم . أفرغتُ ما تبقى من قارورَة العطرِ في فضاءِ السيارَة , و على امتدادِ الطريقِ كنتُ أحاولُ أنْ أدخلَ أكبرَ قدرٍ من العطرِ في صدري , ربّما كيلا أختَنِقَ في غيابِها , و ربّما لأختَنقَ فعلًا !!
    رأيتُ الطريقَ يمتدُّ أمامي خيوط دُخانٍ , و الإسْفَلتُ يتناسلُ تحتي كفراغٍ تركَتْهُ خلْفَها . بعدَ سَيْرٍ متواصلٍ مملٍّ , نَبّهني زِحامُ السياراتِ و أبواقُها أنني وصلتُ إلى المدينَة. المدينَةُ تزدحمُ و تختَنِقُ , و أودُّ لو أمنَحُها قليلًا من فراغي الروحيّ , الذي قلّبني حبّةً في خَيْطِ مسْبَحتِه . أطفأتُ المُحركَ و ترجّلْتُ من سيارتي , و عندما انتَصبْتُ واقفًا سمعتُ أزيزَ الطائِرَةِ فلاحتْ صورتانِ : وجْهُهَا و هي مُعلَّقةٌ بينِ السماءِ و الأرض , و أشجارُ الصّنَوبَرِ تطعَنُ صدرَ الريحِ بأغصانِها , .. اشتدّ الأزيزُ غيرَ أنّني لَمْ أُعرهِ اهتمامي و مَضَيْتُ .
    ارتَقيتُ الدرجَ و سَمعتُ وقعَ خطواتِها يصعدُ معي , فقرّرتُ أن أستخدمَ المصعدَ صعودًا و نزولًا في المراتِ القادِمَة , أدخلتُ لسانَ البطاقَةِ المُمَغنطةِ في فمِ البابِ الخشبيّ فقرأها و انفتحَ بهدوءٍ , غيرَ أنّني سحبتُهُ منْ مقبَضِهِ و أغلقتُهُ بشدّةٍ , عُدتُ إلى الخلفِ خطوتينِ أو أكثَر , بقيتُ خارجَ الشقّةِ مُتكئًا على جدارِ الشقَّة المقابِلَةِ , أرعبتني فِكرَةُ أنْ تكونَ خلفَ البابِ في استقبالي كما اعتادتْ أنْ تفعلَ . و أرعبَتني أكثَر حقيقَةُ ألا تكونَ خلفَ البابِ في استقبالي .
    تملّكني الشرودُ للحظَة , ثمّ انتبَهتُ و مسحتُ حروفَ هاجِسِها عنْ صفحَةِ وجهي , انتصَبْتُ و اقتَربْتُ من البابِ و فتحتُه . دخلتُ بخطواتٍ تكادُ تجِفُّ و تَتَيبّسُ كلّما تقدّمْتُ , و في لحظَةٍ تشبِهُ عَودَةَ الإبصارِ لضريرٍ فقدتُ السيْطرَة على حرَكَةِ عيْنَيَّ , و اتّسعَ مَجالُ الرؤيَةِ : شالُها الأحمَرُ يلْتفُّ على ذراعِ المقعدِ قصيدَةً تطوّقُ شاعِرَها , عِطرُها يقفُ بجانبِ قلمِ الكحلِ و طلاءِ الأظافِرِ كأنهم يحيكون مُؤامَرة , قلمُ الروجِ مائلٌ على طرفِ المرآةِ , سُتْرتُها ينبعثُ منها عطرٌ مثلَ جرعَةِ مورفين زائدَةٍ , خزانَة الملابسِ كهفٌ مظلمٌ و ثيابها بداخلِهِ أشباحٌ يرقصون , كلمَة ( أحبُّكِ ) مكتوبَةٌ بقلمِ الروجِ على المرآةِ كأنّ حروفَ الأبجديّة تناسَلَتْ مِنْها , كتابُها ينامُ على طرفِ السريرِ , و حروفُه أطفالٌ يتامى يخرجونَ رؤوسَهم منْ بينَ الصفَحاتِ ينتظرونَ بلَهفَةٍ عَودَة أمّهم , حذاؤها الأنيقُ بكعبهِ العالي تجمّدتْ خطوتُه , كرسيُّها يفتحُ ذراعَيْهِ بانتظارِها , دفترُ خواطرِها منزوٍ في طرفِ المنضدَة مثلَ فكرَةٍ مهملَةٍ لم تجدْ من يكتبُ عنْها ..
    ازدحمتْ الأفكارُ و اختَنقَ مرورُها في رأسي , لمْ تكنْ عرباتُ الأفكارِ تسيرُ إلّا في شارعِها , كلُّ فكرَةٍ ترتطمُ بالأخرى لتتناسَل . انتفضَ هاتفي النقّالُ عندما بلّلَه الرنين , أخرجني رنينُ نغمتِها مما يصطخبُ بروحي , سألتني : ماذا تفعلُ ؟ قلتُ بتردّدٍ : أقرأ في كتاب ..
    في المساءِ ذهبتُ إلى غرفَةِ النّومِ , وقَفتُ أمامَ السريرِ أصارُعُ فكرَةَ أنّني سأصابُ بالأرقِ في أوّلِ ليلَةٍ لغيابِها . تماسَكتُ و سخرتُ منْ أفكاري المُبالغِ فيها . سرتُ بخطواتٍ منهكةٍ نحو السرير بَيْدَ أنّ قدميَّ تعثّرتا بشيءٍ على الأرض , اختلَّ توازني و كدتُ أسقطُ كالأطفال , نظرتُ خلفي مثل جريحٍ في ساحةِ حربٍ , .. نظرتُ خلفي , .. لا شيْء سوى حقيبَة يدِها !!


    ـــــــــــ
    كنتُ قد نشرتُها بعنوان ( عند المغيب, تسطع أكثر ) و لا أدري أيّ العنوانين أنسب .






  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    الزميل القدير
    علي عكور
    هلا وغلا بك زميلي
    أسعدني التعرف بك من خلال نصك
    ( وعند المغيب, تسطع أكثر ) واللبيب بالإشارة يفهم
    نص جميل جدا
    أحببته وعشت لحظاته
    تخيلت كل تلك اللحظات المرعبة للغياب
    ولأني فارقت الكثيرين من الأحبة أعرف وجدا معنى هذا الشعور
    رحلة جميلة كانت بين أسطر نصك الذي تمكنت منه كثيرا بسردك الشفاف
    ودي الأكيد لك


    أكره ربيع

    أكره ربيع فاجأني ربيع حين كنت ساهمة بملامح وجهه يرمقني عميقا أحسست بالجليد يقتحم جسدي، فارتعشت مذعورة، وعيناه الثاقبتان تخترقان قفصي الصدري المحموم كتنور مسجور، وأنا أتفحص تلك القسمات الحادة، التي..... !! كم كان عمري حين أنجبته خالتي خمسة سنين؟ غضة طرية كورقة وردة لم تتفتح أوردتها بعد! أذكر أني كنت في المرحلة التمهيدية لا
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • عبدالمنعم حسن محمود
      أديب وكاتب
      • 30-06-2010
      • 299

      #3
      الأستاذ / على
      جميل هذا النص بتفاصيله الرقيقة
      وتصوير بارع للحظات الوداع
      وضخامة الشعور بالفقد
      مع تحياتي
      التواصل الإنساني
      جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


      تعليق

      • محمد فطومي
        رئيس ملتقى فرعي
        • 05-06-2010
        • 2433

        #4
        أستاذ علي عكور .
        طاب مساؤك.
        دفق شاعريّ حزين نصّك هذا.
        كم هو رائع أن نقرأ نصوصا تنتصر للودّ الذي يجمع بين الزّوجين.فبالإضافة إلى أسلوبك العذب،فإنّ حميميّة العلاقة الزّوجيّة تكاد تكون نادرة و غير مطروقة.
        لست هنا لأجد مبرّرات لهذا العزوف،لكنّي على الأقلّ أشكرك على التّفرّد و التّجديد.
        مودّتي لك.
        مدوّنة

        فلكُ القصّة القصيرة

        تعليق

        • علي عكور
          عضو الملتقى
          • 04-08-2008
          • 18

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
          الزميل القدير
          علي عكور
          هلا وغلا بك زميلي
          أسعدني التعرف بك من خلال نصك
          ( وعند المغيب, تسطع أكثر ) واللبيب بالإشارة يفهم
          نص جميل جدا
          أحببته وعشت لحظاته
          تخيلت كل تلك اللحظات المرعبة للغياب
          ولأني فارقت الكثيرين من الأحبة أعرف وجدا معنى هذا الشعور
          رحلة جميلة كانت بين أسطر نصك الذي تمكنت منه كثيرا بسردك الشفاف
          ودي الأكيد لك


          أكره ربيع

          http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=67177
          الأستاذة , عائدة
          شكرًا لهطولِ حرفكِ الجميل .

          امتناني الكبير .

          تعليق

          • علي عكور
            عضو الملتقى
            • 04-08-2008
            • 18

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة عبدالمنعم حسن محمود مشاهدة المشاركة
            الأستاذ / على
            جميل هذا النص بتفاصيله الرقيقة
            وتصوير بارع للحظات الوداع
            وضخامة الشعور بالفقد
            مع تحياتي
            الأستاذ الكريم
            عبد المنعم حسن
            شكرًا لتفضّلك و قراءة النص .

            امتناني العظيم .

            تعليق

            • علي عكور
              عضو الملتقى
              • 04-08-2008
              • 18

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
              أستاذ علي عكور .
              طاب مساؤك.
              دفق شاعريّ حزين نصّك هذا.
              كم هو رائع أن نقرأ نصوصا تنتصر للودّ الذي يجمع بين الزّوجين.فبالإضافة إلى أسلوبك العذب،فإنّ حميميّة العلاقة الزّوجيّة تكاد تكون نادرة و غير مطروقة.
              لست هنا لأجد مبرّرات لهذا العزوف،لكنّي على الأقلّ أشكرك على التّفرّد و التّجديد.
              مودّتي لك.
              أهلا أستاذي محمد
              شكرًا لإضاءتك الجميلة .

              عميقُ حبي .

              تعليق

              • فايزشناني
                عضو الملتقى
                • 29-09-2010
                • 4795

                #8
                أستاذ علي بكور
                هلكتني ياطيب بروعة هذه الصورة المتخمة بالمشاعر
                وتعبت وأنا ألاحق عباراتك الجميلة بين السطور
                وصف ولا أحلى في حالة الوداع و ساعات الوحدة والغياب
                وكانك تقول أن الأشياء تكاد تنطق شوقاً إليها
                استمتعت كثيراً بحروفك
                وأتمنى أن أقرأ لك باستمرار
                مع كل الود
                هيهات منا الهزيمة
                قررنا ألا نخاف
                تعيش وتسلم يا وطني​

                تعليق

                • علي عكور
                  عضو الملتقى
                  • 04-08-2008
                  • 18

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة فايزشناني مشاهدة المشاركة
                  أستاذ علي بكور
                  هلكتني ياطيب بروعة هذه الصورة المتخمة بالمشاعر
                  وتعبت وأنا ألاحق عباراتك الجميلة بين السطور
                  وصف ولا أحلى في حالة الوداع و ساعات الوحدة والغياب
                  وكانك تقول أن الأشياء تكاد تنطق شوقاً إليها
                  استمتعت كثيراً بحروفك
                  وأتمنى أن أقرأ لك باستمرار
                  مع كل الود
                  أهلًا أستاذي فايز
                  يسعدني أنْ أكسبك قارئًا حصيفًا
                  محبتي و امتناني .

                  تعليق

                  يعمل...
                  X