«نانوبيديا» -الحلقة السادسة
جيتو.. جمبو.. جيلوتين حارت فيها أفئدة اللغويين
بقلم :محمد الخولي
حارت في أصلها أفئدة اللغويين، منهم من أرجعها إلى لفظة «جت» العبرية التي تفيد معنى الطلاق أو هو الفصل أو الانفصال بين الأطراف، ومنهم من استقر على أن الكلمة أصلا في اللغة الإيطالية مستقى من لفظة جيدشيا التي تشير الى حي اليهود في أي مدينة.. ومنهم من توقف أيضا عند الأصول الإيطالية لنفس الكلمة ليرجع بها إلى لفظة كانت تستخدم قديما في مدينة البندقية لتشير إلى صهر المعادن أو مسابك تشكيل الحديد وهي لفظة «جيتو»®.
وفي هذا السياق كان البنادقة يشيرون إلى مصنع «الجيتو» الذي كان ينتج المدافع.. ويضيف المؤرخون أن يهود البندقية كان يطلب إليهم منذ عام 1516 أن يقيموا كجالية في جوار مصانع المدافع.. الجيتو وكان القوم يطبقون في ذلك تعاليم البابوات ـ البابا بولس السادس بالذات الذي أصدر مرسوما في عام 1555 بالفصل بين أتباعه المسيحيين وبين سائر أهل الملل والعقائد ومنهم اليهود بطبيعة الحال.
دخلت كلمة «جيتو» إلى اللغة الانجليزية منذ عام 1611 لتصدق أيضا على الأحياء التي اختارها اليهود ـ أو اختيرت لهم كي يقيموا فيها بمعزل عن الآخرين، وفي إطار نوع من الإدارة الخاصة أو التسيير الذاتي من حيث ممارسة الطقوس الدينية أو التعليم أو المهن والحِرف أو تنظيم العلاقات والفعاليات الاجتماعية.
وتراوحت هذه الأماكن بين شارع محدود يطلق عليه في المشرق مثلا اسم «حارة اليهود» وبين أحياء بأكملها تضم تجمعات حضرية حيث درج اليهود على الإقامة في المدن واحتراف مهن دقيقة ومريحة بدنيا ولكنها تدر أرباحا طائلة ومنها مثلا حرفة الجواهرجي وفي هذه الحالة كانت الحواضر الألمانية ـ فرانكفورت مثلا تضم «جودنستاد» ومعناها مدينة اليهود.
حالة عقلية ونفسية
وهناك من المحللين من يربط بين هذه الأوضاع وبين نزوع اليهود على مدى مراحل تاريخية شتى إلى الانعزال والتقوقع والانكفاء على الذات.. تأمل مثلا أحياء قاع اليهود في مدن اليمن القديمة.. تأمل أيضا ما ارتكبه يهود خيبر وبنو قينقاع إذ كانوا يحتمون بحصونهم وقلاعهم المعزولة ومنها كانوا يحيكون المؤامرات التي سجلها التاريخ ضد الإسلام والمسلمين..
تأمل في زماننا المعاصر ما يعلنه قادة المشروع الاستعماري الصهيوني من رغبة في تنقية إسرائيل بأسلوب التطهير العرقي لتصبح كيانا يهوديا خالصا ومتخلصا من سائر الأعراق والأديان..
ولا يهم بعد ذلك أن يتم طرد أو تشريد أو اغتيال الفلسطينيين وهم سكان البلاد الأصلاء.. وأما الخطط البديلة لتكريس المعزل ـ الجيتو اليهودي في إسرائيل فتحمل عنوان الترانسفير بمعنى الإزاحة الديموغرافية لعرب فلسطين إلى مواقع مجاورة..
إلى الشرق أو إلى الجنوب ما أمكن وهو ما يرادف خلق جيتو عربي ـ فلسطيني بديل.. تأمل أخيرا بناء سور عازل يكرس الجيتو الاستيطاني الاستعماري ليهود إسرائيل أو هو الجدار الحديدي الذي سبق ونادى به الإرهابي القديم، جابوتنسلي الذي كان من قادة حركة الاستيطان للمشروع الاستعماري في فلسطين.
يشير المحللون أيضا الى أن الجيتو لم تعد مجرد حي لليهود.. يضم أبنية وشوارع ومرافق وحارات.. لقد أصبحت الجيتو «حالة» أو «عقلية» أو أسلوبا للتفكير يقوم بالأحرى على أساس ابتزاز الشعوب وإرهابها فكريا وتحميل بعضها (الألمان بالذات) عقدة ذنب مزمنة ومطلوب إدامتها إزاء اليهود بدعوى أن أجيالا سبقت في تلك الشعوب مارست الاضطهاد بحق اليهود.
ويرتفع في هذا السياق شعار «معاداة السامية» الذي مابرح سيفا مشهرا في وجه أي منصف من الساسة أو الأدباء أو الفنانين.. وقد بلغ هذا الإمعان في الترهيب والتشهير الحد الذي دفع أكاديميا أميركيا ويهوديا أيضا الى نشر كتاب أصدره عام 2005 بعنوان «هذا الاستغلال لمعاداة السامية وهذا التشويه للتاريخ» .
وهو من تأليف البروفيسور نورمان فنكلشتاين الذي سبق وأصدر مع مطلع القرن الحالي كتابا ذاع صيته بعنوان لا تخفى دلالته وهو «صناعة الهولوكوست» ويقصد به بداهة الارتزاق والتربح من مقولة اضطهاد اليهود. من جانب آخر ـ كان من الطبيعي أن يتوسع استخدام لفظة «جيتو» بعيدا عن الاقتصار على السياق اليهودي..
وهكذا أصبح كل حي معزول جيتو.. وكل تفكير انعزالي جيتو.. ومن هنا يشير المحللون الأميركان مثلا إلى حي هارلم في مدينة نيويورك بأنه جيتو السود أو جيتو الزنوج الذين يسمونهم أحيانا بالأفرو ـ أميركيين من باب اللباقة والتخفيف.
جمبو:
بديهي أنها تنصرف الى كل ما هو كبير بل فائق الحجم.. سواء في مجال الطائرات العملاقة التي تتبارى في تصميمها وبناء صروحها مصانع الطائرات.. العملاقة أيضا في العالم.. أو سواء في أحجام بعض المأكولات التي يرد تصنيفها تحت هذا المسمى في قوائم الطعام ولاسيما «روبيان الجمبو» الذي مازال طبقا مفضلا ومرتفع الثمن كذلك لدى بعض الذواقة للأطعمة البحرية..
يعود أصل الكلمة إلى لغة البانتو في وسط وجنوب أفريقيا.. ومن المصادفات أنه ناشئ بدوره عن قوائم الطعام.. الشعبية طبعا فليس في غابات شعوب البانتو مطاعم فاخرة ولا قوائم مذهبة الحروف لصنوف الطعام..
قصاراهم أن يقدموا لزائريهم حساء سميكا مؤلفا من قرون البامية ممزوجة بأنواع الخضراوات ولا بأس من إضافة أي لحوم متوافرة أو أي أسماك تسمح بها الظروف، وهم يطلقون على هذا الخليط اسم «جمبو» وربما من واقع كل هذه المزيج من مواد الحيوان والنبات بدأت الكلمة تكتسب معنى الكثرة أو التعدد.. لكنها دخلت اللغات الأوروبية لتدل على معنى الضخامة أو حتى العملقة..
من خلال حادثة كان مكانها بالذات منطقة غرب أفريقيا وكان زمانها تحديدا هو أواخر عام 1869 وكانت مناسبتها الخاصة هي نجاح فريق من قناصي الحيوانات في اصطياد أضخم فيل شهده أهل المنطقة من الوطنيين وعاينه محترفو صيد الغابات من الوافدين من الأصقاع الشمالية في أوروبا أو أميركا: السكان الأفارقة لمحوا الفيل العملاق.. فكان أن حرك بين جوانحهم خوفا بل رعبا إزاء جرمه الهائل لدرجة أن صاح كبيرهم هاتفا وخائفا أيضا.
لقد تقمصته الجمبو.
وكان يقصد في لغتهم المحلية أن حلت في جسده الهائل الروح الشريرة التي يخشاها أهل الغابات. من ناحيتهم، الصيادون وتجار الحيوانات المأسورة سمعوا كلمة «جمبو» ولم يفهموا معناها الذي ينصرف إلى شياطين الغابة الأفريقية.. فتصوروا أنها اسم أطلقه المواطنون على الصيد الثمين.. السمين، هنالك حثهم كبيرهم على أن يبادروا بشحن زجمبوس إلى لندن .
حيث أودعوه نزيلا في حدائق حيوان جلالة الملكة ؟كتوريا وتوافد على مشاهدته آلاف الزائرين دون أن يتعرفوا على أصل تسميته التي أشرنا إليها، وهي التسمية التي لم تكن لتدخل قواميسنا المعاصرة لولا ذكاء متعهد أميركي شاطر اسمه تايلور بارنوم أراد أن يؤسس سيركا لألعاب الحيوان ورياضات البشر فكان أن اشترى الفيل الأفريقي العملاق في عام 1882 ونقله إلى سيرك فلادلفيا بأميركا.
وعلى طريقة الأميركان نظم حملة بروباجاندا للترويج لنجم نجوم السيرك.. الفيل.. جمبو.. الذي أصبح اسمه ذائعا وتداولته العائلات والأمثال الشعبية الأميركية عَلَما على كل ما هو ضخم وعملاق. ومازال الناس يتداولون اسم الروح الأفريقي الشريرة ـ جمبو بعد أن نسوا الفيل الأصلي فكان أن توسعوا في استخدام الاسم في أغراض شتى.. ابتداء من الطائرة العملاقة.. وليس انتهاء بأحجام الروبيان المشوية أو المقلية التي يسيل إزاءها اللعاب.
جيلوتين:
في متن العربية الشريفة، يقال «قصل» الشئ أي قطعة.. ويقال سيف قاصل بمعنى قاطع بتّار.. ومن هنا استقوا اسم المقصلة أي آلة القطع ـ شفرة السكين الحادة المرهفة التي تهوي على عنق المذنب فتفصل عنه الرأس في لحظة الإعدام والعياذ بالله..
ويشاء السميع العليم أن يكون الإعدام وأساليب تنفيذه موضع مداولة وحوار سياسي وقانوني في أروقة الجمعية الوطنية الفرنسية غداة ثورة الباستيل - ثورة فرنسا الكبرى في 14 يوليه عام 1789.. يومها حار القوم في كيفية إعدام من اتهموهم أيامها ـ حقا كان أو باطلا ـ بأنهم خصوم الثورة.. أعداء الشعب..
قال قائلهم: إن الإعدام يتم للمدنيين بواسطة المشنقة.. وقال آخرون انه يتم بالنسبة للعسكريين بإطلاق الرصاص بواسطة طابور من الجنود.. ولكن نائبا في البرلمان الفرنسي دفع بأن حكاية المشنقة تفتقر في رأيه إلى الرحمة بالمذنب المسكين وأن الأمر بحاجة إلى آلة رحيمة!
بمعنى شديدة الإرهاف تجهز على «الضحية» وتنهي المسألة في ثوان معدودات. هنالك برز اسم جوزيف أجناز جيولتين استمع إليه النواب الثائرون يوم 10 أكتوبر عام 1789 حين وقف خطيبا يروج للآلة «الرحيمة» التي اخترعها سيادته من أجل تنفيذ أحكام الإعدام التي كانت محاكم الثورة تصدرها بالجملة تحت طائلة اتهام أو شبه اتهام.
السيد جيلوتين لم يكن ضابطا فظا ولا كان ثورجيا محترفا.. ولا حتى قانونيا غليظ القلب.. كان طبيبا ينشد مزيدا من السرعة وقليلا من الألم في لحظة التنفيذ وهكذا استعاضوا عن الحبل والأنشوطة بالسكين القاطع يهوي لحظة الشد على الرقبة فيفصل الرأس الذي يسقط بدوره في سلة وسط تهليل(!) المتفرجين الذين كانوا وقتها يقبلون على مشاهدة تشغيل المقصلة بشغف شديد لزوم التسلية تارة ولزوم التشفي في ظالميهم من الكونتات والكهان والمركيزات وسائر أهل الارستقراطية تارة أخرى..
ولقد أبدع في وصف هذه المشاهد من أحداث الثورة الفرنسية الأديب الانجليزي الأشهر تشارلس ديكنز (ت 1870) في روايته التي حملت عنوان «قصة مدينتين» وقد دارت أحداثها بين لندن وباريس.
ويقال ان المشاهد الدموية التي أسفرت عنها حوادث الثورة الفرنسية كان قد استوعبها ضابط عربي شاب قاد ثورة في بلده ورفع رواية ديكنز في وجه زملائه رافضا أي عنف دموي بحق أركان النظام البائد قائلا لرفاقه: إن الدم لا يولد سوى الدم.. وهذا الثائر اسمه جمال عبدالناصر وكان من قراء ديكنز ومعجبيه.
المهم أن المقصلة الفرنسية الرهيبة ارتبطت دائما باسم مخترعها الدكتور جيلوتين.. والأهم أن لم تنافسها آلة مماثلة اسمها اللوازيت اخترعها أيضا الدكتور أنطوان لويز سكرتير كلية الجراحين الفرنسية..
بقيت جيلوتين مرتبطة باسم مخترعها الطبيب الثائر الذي توفي عام 1814.. عبثا حاول أبناؤه أن يفصلوا اسم أبيهم الراحل عن تسمية المقصلة الرهيبة.. لم يسمح لهم المسؤولون بهذا التغيير ولكن سمحوا لهم بشئ آخر هو:
أن يغيروا اسم عائلتهم ويتخذوا لأنفسهم لقبا جديدا وبعيدا عن حكاية سكين رهيب اسمها:«الجيلوتين».
جيتو.. جمبو.. جيلوتين حارت فيها أفئدة اللغويين
بقلم :محمد الخولي
حارت في أصلها أفئدة اللغويين، منهم من أرجعها إلى لفظة «جت» العبرية التي تفيد معنى الطلاق أو هو الفصل أو الانفصال بين الأطراف، ومنهم من استقر على أن الكلمة أصلا في اللغة الإيطالية مستقى من لفظة جيدشيا التي تشير الى حي اليهود في أي مدينة.. ومنهم من توقف أيضا عند الأصول الإيطالية لنفس الكلمة ليرجع بها إلى لفظة كانت تستخدم قديما في مدينة البندقية لتشير إلى صهر المعادن أو مسابك تشكيل الحديد وهي لفظة «جيتو»®.
وفي هذا السياق كان البنادقة يشيرون إلى مصنع «الجيتو» الذي كان ينتج المدافع.. ويضيف المؤرخون أن يهود البندقية كان يطلب إليهم منذ عام 1516 أن يقيموا كجالية في جوار مصانع المدافع.. الجيتو وكان القوم يطبقون في ذلك تعاليم البابوات ـ البابا بولس السادس بالذات الذي أصدر مرسوما في عام 1555 بالفصل بين أتباعه المسيحيين وبين سائر أهل الملل والعقائد ومنهم اليهود بطبيعة الحال.
دخلت كلمة «جيتو» إلى اللغة الانجليزية منذ عام 1611 لتصدق أيضا على الأحياء التي اختارها اليهود ـ أو اختيرت لهم كي يقيموا فيها بمعزل عن الآخرين، وفي إطار نوع من الإدارة الخاصة أو التسيير الذاتي من حيث ممارسة الطقوس الدينية أو التعليم أو المهن والحِرف أو تنظيم العلاقات والفعاليات الاجتماعية.
وتراوحت هذه الأماكن بين شارع محدود يطلق عليه في المشرق مثلا اسم «حارة اليهود» وبين أحياء بأكملها تضم تجمعات حضرية حيث درج اليهود على الإقامة في المدن واحتراف مهن دقيقة ومريحة بدنيا ولكنها تدر أرباحا طائلة ومنها مثلا حرفة الجواهرجي وفي هذه الحالة كانت الحواضر الألمانية ـ فرانكفورت مثلا تضم «جودنستاد» ومعناها مدينة اليهود.
حالة عقلية ونفسية
وهناك من المحللين من يربط بين هذه الأوضاع وبين نزوع اليهود على مدى مراحل تاريخية شتى إلى الانعزال والتقوقع والانكفاء على الذات.. تأمل مثلا أحياء قاع اليهود في مدن اليمن القديمة.. تأمل أيضا ما ارتكبه يهود خيبر وبنو قينقاع إذ كانوا يحتمون بحصونهم وقلاعهم المعزولة ومنها كانوا يحيكون المؤامرات التي سجلها التاريخ ضد الإسلام والمسلمين..
تأمل في زماننا المعاصر ما يعلنه قادة المشروع الاستعماري الصهيوني من رغبة في تنقية إسرائيل بأسلوب التطهير العرقي لتصبح كيانا يهوديا خالصا ومتخلصا من سائر الأعراق والأديان..
ولا يهم بعد ذلك أن يتم طرد أو تشريد أو اغتيال الفلسطينيين وهم سكان البلاد الأصلاء.. وأما الخطط البديلة لتكريس المعزل ـ الجيتو اليهودي في إسرائيل فتحمل عنوان الترانسفير بمعنى الإزاحة الديموغرافية لعرب فلسطين إلى مواقع مجاورة..
إلى الشرق أو إلى الجنوب ما أمكن وهو ما يرادف خلق جيتو عربي ـ فلسطيني بديل.. تأمل أخيرا بناء سور عازل يكرس الجيتو الاستيطاني الاستعماري ليهود إسرائيل أو هو الجدار الحديدي الذي سبق ونادى به الإرهابي القديم، جابوتنسلي الذي كان من قادة حركة الاستيطان للمشروع الاستعماري في فلسطين.
يشير المحللون أيضا الى أن الجيتو لم تعد مجرد حي لليهود.. يضم أبنية وشوارع ومرافق وحارات.. لقد أصبحت الجيتو «حالة» أو «عقلية» أو أسلوبا للتفكير يقوم بالأحرى على أساس ابتزاز الشعوب وإرهابها فكريا وتحميل بعضها (الألمان بالذات) عقدة ذنب مزمنة ومطلوب إدامتها إزاء اليهود بدعوى أن أجيالا سبقت في تلك الشعوب مارست الاضطهاد بحق اليهود.
ويرتفع في هذا السياق شعار «معاداة السامية» الذي مابرح سيفا مشهرا في وجه أي منصف من الساسة أو الأدباء أو الفنانين.. وقد بلغ هذا الإمعان في الترهيب والتشهير الحد الذي دفع أكاديميا أميركيا ويهوديا أيضا الى نشر كتاب أصدره عام 2005 بعنوان «هذا الاستغلال لمعاداة السامية وهذا التشويه للتاريخ» .
وهو من تأليف البروفيسور نورمان فنكلشتاين الذي سبق وأصدر مع مطلع القرن الحالي كتابا ذاع صيته بعنوان لا تخفى دلالته وهو «صناعة الهولوكوست» ويقصد به بداهة الارتزاق والتربح من مقولة اضطهاد اليهود. من جانب آخر ـ كان من الطبيعي أن يتوسع استخدام لفظة «جيتو» بعيدا عن الاقتصار على السياق اليهودي..
وهكذا أصبح كل حي معزول جيتو.. وكل تفكير انعزالي جيتو.. ومن هنا يشير المحللون الأميركان مثلا إلى حي هارلم في مدينة نيويورك بأنه جيتو السود أو جيتو الزنوج الذين يسمونهم أحيانا بالأفرو ـ أميركيين من باب اللباقة والتخفيف.
جمبو:
بديهي أنها تنصرف الى كل ما هو كبير بل فائق الحجم.. سواء في مجال الطائرات العملاقة التي تتبارى في تصميمها وبناء صروحها مصانع الطائرات.. العملاقة أيضا في العالم.. أو سواء في أحجام بعض المأكولات التي يرد تصنيفها تحت هذا المسمى في قوائم الطعام ولاسيما «روبيان الجمبو» الذي مازال طبقا مفضلا ومرتفع الثمن كذلك لدى بعض الذواقة للأطعمة البحرية..
يعود أصل الكلمة إلى لغة البانتو في وسط وجنوب أفريقيا.. ومن المصادفات أنه ناشئ بدوره عن قوائم الطعام.. الشعبية طبعا فليس في غابات شعوب البانتو مطاعم فاخرة ولا قوائم مذهبة الحروف لصنوف الطعام..
قصاراهم أن يقدموا لزائريهم حساء سميكا مؤلفا من قرون البامية ممزوجة بأنواع الخضراوات ولا بأس من إضافة أي لحوم متوافرة أو أي أسماك تسمح بها الظروف، وهم يطلقون على هذا الخليط اسم «جمبو» وربما من واقع كل هذه المزيج من مواد الحيوان والنبات بدأت الكلمة تكتسب معنى الكثرة أو التعدد.. لكنها دخلت اللغات الأوروبية لتدل على معنى الضخامة أو حتى العملقة..
من خلال حادثة كان مكانها بالذات منطقة غرب أفريقيا وكان زمانها تحديدا هو أواخر عام 1869 وكانت مناسبتها الخاصة هي نجاح فريق من قناصي الحيوانات في اصطياد أضخم فيل شهده أهل المنطقة من الوطنيين وعاينه محترفو صيد الغابات من الوافدين من الأصقاع الشمالية في أوروبا أو أميركا: السكان الأفارقة لمحوا الفيل العملاق.. فكان أن حرك بين جوانحهم خوفا بل رعبا إزاء جرمه الهائل لدرجة أن صاح كبيرهم هاتفا وخائفا أيضا.
لقد تقمصته الجمبو.
وكان يقصد في لغتهم المحلية أن حلت في جسده الهائل الروح الشريرة التي يخشاها أهل الغابات. من ناحيتهم، الصيادون وتجار الحيوانات المأسورة سمعوا كلمة «جمبو» ولم يفهموا معناها الذي ينصرف إلى شياطين الغابة الأفريقية.. فتصوروا أنها اسم أطلقه المواطنون على الصيد الثمين.. السمين، هنالك حثهم كبيرهم على أن يبادروا بشحن زجمبوس إلى لندن .
حيث أودعوه نزيلا في حدائق حيوان جلالة الملكة ؟كتوريا وتوافد على مشاهدته آلاف الزائرين دون أن يتعرفوا على أصل تسميته التي أشرنا إليها، وهي التسمية التي لم تكن لتدخل قواميسنا المعاصرة لولا ذكاء متعهد أميركي شاطر اسمه تايلور بارنوم أراد أن يؤسس سيركا لألعاب الحيوان ورياضات البشر فكان أن اشترى الفيل الأفريقي العملاق في عام 1882 ونقله إلى سيرك فلادلفيا بأميركا.
وعلى طريقة الأميركان نظم حملة بروباجاندا للترويج لنجم نجوم السيرك.. الفيل.. جمبو.. الذي أصبح اسمه ذائعا وتداولته العائلات والأمثال الشعبية الأميركية عَلَما على كل ما هو ضخم وعملاق. ومازال الناس يتداولون اسم الروح الأفريقي الشريرة ـ جمبو بعد أن نسوا الفيل الأصلي فكان أن توسعوا في استخدام الاسم في أغراض شتى.. ابتداء من الطائرة العملاقة.. وليس انتهاء بأحجام الروبيان المشوية أو المقلية التي يسيل إزاءها اللعاب.
جيلوتين:
في متن العربية الشريفة، يقال «قصل» الشئ أي قطعة.. ويقال سيف قاصل بمعنى قاطع بتّار.. ومن هنا استقوا اسم المقصلة أي آلة القطع ـ شفرة السكين الحادة المرهفة التي تهوي على عنق المذنب فتفصل عنه الرأس في لحظة الإعدام والعياذ بالله..
ويشاء السميع العليم أن يكون الإعدام وأساليب تنفيذه موضع مداولة وحوار سياسي وقانوني في أروقة الجمعية الوطنية الفرنسية غداة ثورة الباستيل - ثورة فرنسا الكبرى في 14 يوليه عام 1789.. يومها حار القوم في كيفية إعدام من اتهموهم أيامها ـ حقا كان أو باطلا ـ بأنهم خصوم الثورة.. أعداء الشعب..
قال قائلهم: إن الإعدام يتم للمدنيين بواسطة المشنقة.. وقال آخرون انه يتم بالنسبة للعسكريين بإطلاق الرصاص بواسطة طابور من الجنود.. ولكن نائبا في البرلمان الفرنسي دفع بأن حكاية المشنقة تفتقر في رأيه إلى الرحمة بالمذنب المسكين وأن الأمر بحاجة إلى آلة رحيمة!
بمعنى شديدة الإرهاف تجهز على «الضحية» وتنهي المسألة في ثوان معدودات. هنالك برز اسم جوزيف أجناز جيولتين استمع إليه النواب الثائرون يوم 10 أكتوبر عام 1789 حين وقف خطيبا يروج للآلة «الرحيمة» التي اخترعها سيادته من أجل تنفيذ أحكام الإعدام التي كانت محاكم الثورة تصدرها بالجملة تحت طائلة اتهام أو شبه اتهام.
السيد جيلوتين لم يكن ضابطا فظا ولا كان ثورجيا محترفا.. ولا حتى قانونيا غليظ القلب.. كان طبيبا ينشد مزيدا من السرعة وقليلا من الألم في لحظة التنفيذ وهكذا استعاضوا عن الحبل والأنشوطة بالسكين القاطع يهوي لحظة الشد على الرقبة فيفصل الرأس الذي يسقط بدوره في سلة وسط تهليل(!) المتفرجين الذين كانوا وقتها يقبلون على مشاهدة تشغيل المقصلة بشغف شديد لزوم التسلية تارة ولزوم التشفي في ظالميهم من الكونتات والكهان والمركيزات وسائر أهل الارستقراطية تارة أخرى..
ولقد أبدع في وصف هذه المشاهد من أحداث الثورة الفرنسية الأديب الانجليزي الأشهر تشارلس ديكنز (ت 1870) في روايته التي حملت عنوان «قصة مدينتين» وقد دارت أحداثها بين لندن وباريس.
ويقال ان المشاهد الدموية التي أسفرت عنها حوادث الثورة الفرنسية كان قد استوعبها ضابط عربي شاب قاد ثورة في بلده ورفع رواية ديكنز في وجه زملائه رافضا أي عنف دموي بحق أركان النظام البائد قائلا لرفاقه: إن الدم لا يولد سوى الدم.. وهذا الثائر اسمه جمال عبدالناصر وكان من قراء ديكنز ومعجبيه.
المهم أن المقصلة الفرنسية الرهيبة ارتبطت دائما باسم مخترعها الدكتور جيلوتين.. والأهم أن لم تنافسها آلة مماثلة اسمها اللوازيت اخترعها أيضا الدكتور أنطوان لويز سكرتير كلية الجراحين الفرنسية..
بقيت جيلوتين مرتبطة باسم مخترعها الطبيب الثائر الذي توفي عام 1814.. عبثا حاول أبناؤه أن يفصلوا اسم أبيهم الراحل عن تسمية المقصلة الرهيبة.. لم يسمح لهم المسؤولون بهذا التغيير ولكن سمحوا لهم بشئ آخر هو:
أن يغيروا اسم عائلتهم ويتخذوا لأنفسهم لقبا جديدا وبعيدا عن حكاية سكين رهيب اسمها:«الجيلوتين».
تعليق