كل عام وأنتم بخير
الآخرة مشروع مؤجل
الجوع .. البرد .. الحرمان ..
الكبت .. الدموع .. الفقر ..
القهر .. الألم .. السجن ..
كل هذه المصطلحات لم تدخل قاموس الباشا .. ولا لمسها .. ولا عرف ماهيتها ..
لماذا ؟
لأن أباه واصل ..
وواصل ليس اسم أبيه .. بل صفة له .. وابن الواصل طبعا واصل ..
لذلك يبتسم للباشا معظم الوزراء .. ونخبة الضباط ..ويركض خلفه المحافظون وكبار المدراء .. في حين تتقي شره البقية الباقية ..
لمع نجمه فجأة اثر حصوله على ترخيص لاستيراد سيارات الميكرو باص إلى البلد.
الباشا الشاب حلّ ازمة المواصلات في كافة المحافظات مما حدا بأجهزة الاعلام لاستضافته على صفحاتها وشاشاتها .. وحلّ أيضا مشكلة مستقبله بتعمير جيوبه ورصيده في البنك في الوقت ذاته..
هذه الصفقة وضعته في بداية الطريق نحو القمة .. وثبتت أقدامه في مؤسسات الدولة التي منحته الضوء الأخضر وشرعية الكسب ..
الباشا لايتعامل بالتهريب .. ولابسرقة الآثار ولا دفن المخلفات النووية ..
انه متفرغ لاستيراد حاجيات الوطن والمواطن وطلبات السوق .. وما أكثرها ..
تميز الباشا بالشفافية والذكاء وبعض الخصال الحميدة .. فلم يرتد كازينو .. ولااستورد مواد معطوبة أو أغذية فاسدة وحين اقترح عليه أبوه ذات يوم قائلا:
ـ لماذا لاتترشح لمجلس الشعب ؟
أجابه ببرود ولامبالاة :
ـ فعلا لماذا أترشح ؟
ـ كي تتمتع بالحصانة .
ـ حصانتي هي جيبي ومخي .
ـ واذا تعرضت للمساءلة ؟
وقال دون أن يلتفت الى والده :
ـ أنا لاأشتغل في الممنوع في الليل والعتمة بل بشفافية وتحت ضوء الشمس .
بالمقابل لم تطأ قدمه مسجدا .. ولاصام يوما .. ولافكر بالحج قط .. ورغم تكدس الرزم في حسابه لم يتبرع الى جمعية خيرية أو دار للايتام أو العجزة .
وهمس له خاله ذات مرة :
ـ هذه الأموال ياابن أختي بحاجة الى زكاة .
- لا ياخال هذه الأموال بحاجة إلى ذكاء
ولكن الله تعالى قال ...
قاطعه الباشا على الفور .. ونهض مبتعدا وهو يقول :ولكن الله تعالى قال ...
ـ لا أنا ولا الله تعالى نحب الربا ياخالي .
لحق به خاله وأمسكه من ذراعه وقال :
ـ الزكاة فرض وليست ربا .
فزفر الباشا معلنا نفاذ صبره وقال بهمس:
ـ ياخالي العزيز .. الزكاة التي تتحدث عنها هي عن الأموال التي وهبني إياها الله لكنني عمري ماطلبت منه شيئا .
ـ ولاك اعمل شيء لآخرتك .
فأجاب الباشا بكل ثقة مبتسما :
ـ الآخرة مشروع مؤجل .
عند قص الشريط الحريري لافتتاح البرج الضخم الذي شيده من ستة وخمسين طابقا فوجئ بأمر لم يخطر له من قبل .. فكل مدعو إلى حفل الافتتاح كان يعلق زوجته تحت ابطه ..الا هو كان وحيدا عازبا ..
لقد جاوز عمره الثلاثين فكيف غفل عن هذا الامر .. بل حتى لم تكن له علاقة بامرأة قط طيلة هذه السنين.. إن جمع المال قد استهلك أجمل وأشهى وأعنف أيام حياته .. وقال لنفسه :
ـ ومع هذا ليس الوقت متأخرا بعد ..
قبل أن يختار من يتزوج .. قرر اقامة علاقة جسدية مع امرأة.. يجري فيها بعض التطبيقات العملية ويتدرب فيها قليلا على المعاشرة الجنسية.. ليعرف ما الممنوع وما المسموح في حياة السرير .
وجد صعوبة في انتقاء المرأة الأولى لأن بصمات أول تجربة تبقى محفورة في ذهن الرجل .
أخيرا جاءته المرأة حسب الطلب ..
جلست أمامه تعرض بضاعتها ..
نهدان متمردان أنهكا أزرار القميص الشفاف ..وساقان عاجيان يسيلان من الظهر نحو الكعبين في دقة وتناغم ..
شفتان ممتلئتان تدثرتا تحت غطاء أحمر اخاذ وقد ابتعدتا عن بعضهما عمدا للاثارة وسمحتا للؤلؤ الأبيض البراق برؤية النور.
كان لسانها يقوم بجولة بين الفترة والفترة على شفتيها لشحذ الغريزة ثم يختفي فجأة ليعود من جديد بجولة أخرى كحارس السجن الذي لاينام ولا يدعك تنام ..
أما العينان فيبدو أنهما أتعبتا الخالق في صياغتهما..
بؤبؤان أخضران يستظلان بكحل فرنسي أسود.. عينان عميقتان ترسلان نداءات استفزاز وتحريض وتلوحان برموش منتصبة لماعة ..
على الرقبة الناعمة المنحوتة من أندر أنواع العاج يستريح عقد من الألماس يضيء كالمنارة للتائه ليدله من أين يبدأ الغطس..
أما قوامها فقد استعار نخلة من العراق وزنبقة من الشام وامتد في الأفق كصفصافة أندلسية تتمايل مع ادنى نسمة لتغني لحنا طازجا لم تحتكره اسطوانة بعد .
لو أن الله أطلق هذه المعجزة مبكرا لفاضت دواوين عمر بن أبي ربيعة .. وكنا عذرنا نزار قباني على ضياعه خمسين سنة في سيناء المرأة .
تمددت المرأة المعجزة على الأريكة .. فلم تكفها ..
تناولت سيكارة ودفنتها بين شفتيها ونظرت الى الباشا وقالت :
ـ ولّع لي ..
خرج الباشا من بين ألسنة النيران التي يتخبط بها وأشعل لها السيكارة وسألها :
ـ ماذا تشربين ياسيدتي ؟
ـ الموجود.
ـ كل شيء موجود .. اختاري ..
ـ مشروبك المفضل
شعر الباشا بالحرج والارتباك وقال كالمذنب :
ـ الحقيقة انا لاأشرب .
ـ يعني "عدي " عايش على المطر.
فرقعت منها ضحكة مولولة ..أذهلت الباشا وزلزلته .. فزاد من ارتباكه واحمراره هذا الموقف الجديد .. فازداد بللا على بلل.. واحراجا على احراج..
تسلمت هي المبادرة وقفزت وجلست في حضنه وغرست رأسه في صدرها وصاحت:
ـ اشرب ياباشا اشرب ..جاءك الغيث ..
كان من المفروض من الباشا الذي لم يلمس امرأة قط في حياته أن يفرغ غريزته في بنطاله أمام هذه الهجمة البطولية من امرأة تلك مهنتها وتجيد حرفتها..
لكن لاشيء لدى الباشا يتحرك تحت الحزام .
حاول تخليص رأسه قليلا من بين نهديها لالتقاط الأنفاس لكنها أعادته الى الأعماق وقهقهت :
ـ اشرب ياباشا .. فقد استجاب الله لصلاة الاستسقاء ..
نزعت أزرار قميصها .. وأطلقت حمامتين بيضاوين بمنقارين أشقرين .. وركض فم الباشا خلفهما يلتقط نعم الله المباحة للمؤمنين .. وزخ طوفان نوح من رأسه حتى سرواله ركعت المرأة الأمنية على ركبتيها تنتزع أزرار قميص الباشا بشفتيها .. حتى أخرجته عاري الصدر كجندي غر في درس الرياضة الصباحية..
انسالت هي بجسدها اللدن نحو القاع مرسلة يديها الغضتين الى زناره فنزعت الحزام وطوقت به عنق الباشا وشدّته اليها نحو الأرض على السجادة الرمادية وهي تتمايل تحته كالأفعى ..وترسل فحيحا أنثويا تستغيث وتستفز ..
عام هو بثقله فوق بحرها وخبط بيديه ورجليه ..وعربد وأزبد بأنفاسه وشخيره .. في حين كانت تأتيه من تحته صرخات الاستفزاز والاثارة :
ـ آي ياباشا .. اوه ياباشا ..
وفي هذه المعمعة استطاعت يدها أن تنتزع آخر ورقة توت تسترجسدها لتظهر حورية مفصلة مقاييسها على طلب أهل الجنة .. وتقول:
ـ دورك ياباشا .. اخلع بالتي هي أحسن .
وأسرع الباشا ينزع ماعليه من الخرق .. لتظهر في النهاية خرقة اخرى ..
نعم نعم ..خرقة أخرى..
كانت رجولته خرقة متدلية مكسورة الخاطر.
فوجئت البطلة بهذا المشهد الذي تتعرض له لأول مرة في حياتها العادية والمهنية وأربكها هول المفاجأة وهي لاتدري ماتفعل .. تحسست جبين الباشا فوجدت حرارته طبيعية ثم تحسست وتحسست فلم تجد شيئا طبيعيا سوى حرارته ..
زحفت عارية الى علبة السكائر واستلت واحدة منها ..وولعتها بنفسها وجلست تحت سحب الدخان حائرة تتلاطمها الأسئلة والاحتمالات وتنظر الى الباشا المهزوم برمحه المنكسر وقد سارع الى تغطية عورته وستر عيبه .
أنهت السيدة " المصونة" وللمرة الأولى " مصونة " سيكارتها .. وبعد ان تأكدت من اعلانه الانسحاب والاقرار بالهزيمة سارعت لجمع آلياتها المتناثرة هنا وهناك ولبست ثيابها بقلق يشغلها تساؤل خطير :
ـ" هل سيدفع الفاتورة ؟ أم يتذرع بما قد كان" ؟
لكنها ما إن ارتدت آخر قطعة حتى كان يمد لها يدا معمرة بالنقود وكلمة واحدة :
ـ شكرا.
ـ علام ؟
ـ على حضورك .
ـ هل أترك لك نمرة تلفوني ؟
وهبط عليه السؤال قاتلا .. فأيا يكون الجواب سيصيبه في مقتل .. ولذا أعطاها جوابا رماديا لاأسود ولا أبيض :
ـ كما تشائين ؟
فوضعت كرتها الفيزيت بلطف على الطاولة وبكل لباقة وأدب دسّت رزمة النقود ـ وكانت أكثر من المتفق عليه ـ في حقيبتها وانسلت خارجة تتمشور الأسئلة في رأسها وأولها :
ـ لماذا دفع كل هذا المبلغ رغم انه لم ينلها ؟
جلس الباشا بعد رحيلها مع خيبته حائرا يتحسس ما في بنطاله .. ويتحسس جبينه .. دون أن يعثر على اجابة مقنعة.. من يستشير ؟ ومن يسأل ؟ ثم ماذا يقول ؟
راح يلوم نفسه على تأخيره في معاشرة النساء ، وكيف فاته هذا الأمر الطبيعي والضروري .. ووقعت عيناه على كرت الفيزيت الذي تركته المومس على الطاولة .. فتساءل هل يعيد الكرّة أم يكتفي بما قد كان ؟ ولم تسعفه الجرأة فرمى الكرت بعيدا .. هل يستعين بالحبوب المنشطة .. أم بالسحر والشيوخ والأحجبة ؟ واختنق دماغه من زحام الأسئلة حتى أعياه التفكير.. ونام .
توجه في اليوم التالي الى شركة الطيران وابتاع تذكرة الى لندن على أول طائرة مقلعة ليعرض نفسه على أفضل أطباء العالم لضمان النتيجة أولا.. ولستر الموضوع ثانيا .
وطالت اقامته هناك مابين المعاينة والتحاليل والتصوير والكشف السريري وبسط يديه على أقصى مدى في المصاريف ليحصل على نتيجة مرضية ..
واجتمعت أخيرا لجنة الأطباء حول سريره وأعلمته بالفاجعة:
ـ للأسف ليس المرض نفسيا بل عضوي .. والطب عاجز عن المساعدة .
صعق تماما لدى سماعه الكلمات المقتضبة والحازمة والنهائية .. وصاح:
ـ هل هذا معقول ؟ أنتم خيرة أطباء الدنيا تقولون هذا ؟ أنت تزرعون القلب والكلى والأطراف وتعجزون عن زرع ....
صمت .. ثم أجهش بالبكاء والعويل ..دافنا وجهه بين يديه ..فانفض الأطباء من حوله وابتسامة حيرى على وجوههم .
عاد الى الوطن .
في حقيبته الجلدية الصغيرة مأساته على الورق وفي حقيبته الكبيرة ملابسه وعلب الأدوية المهدئة وخيبته "من دون كوي"وحسرات من كافة المقاييس.
وفي رأسه ثقب أسود يبتلع حاضره ومستقبله .. وكل ماملكت يداه .
وقف قبالة آخر انجازاته .. برج بستة وخمسين طابقا .. وتأمله من الأعلى الى الأسفل وبالعكس وقال متحسرا :
ـ " استطعت بطموحي وأموالي أن أوقف هذا البرج وعجزت عن ايقاف مافي بنطالي ؟ أهي سخرية القدر؟ .."
ورنت كلمة القدر في أذنيه فصرخ :
ـ آخ ..
وخبط على رأسه بقبضته بعنف وقسوة .. وعاد يصيح :
ـ يارب .. يارب ..
وانطلق الى خاله .. وأفشى سره اليه واشتكى وبكى .. وطلب المساعدة وايجاد الحل .
ـ حل ماذا ؟ سأله خاله بلا اكتراث .
ـ حل لحياتي .. كيف سأعيش ؟ ولمن أترك كل هذا العز .. اذا لم تكن لدي زوجة وأولاد وأحفاد ؟
ـ حاول أن تتأقلم مع وضعك الجديد .. وسترى أن الأمور عادية وعلى مايرام .
واشتاط غضبا .. وعلا صوته :
ـ كيف ياخالي سأعيش مع عاهتي ؟
سكب له خاله قدح شاي .. وقدم له قطعة حلوى ثم اقترب منه وقال بهمس :
ـ اسمع ياباشا .. لو أن أطباء لندن الذين عالجوك ـ لنفترض مثلا ـ أوجدوا لك العلاج ولكن قالوا لك بالمقابل ستفقد بصرك أو ستصاب بالشلل ..هل كنت توافق ؟
انتفض الباشا وهب في وجه خاله :
ـ اعوذ بالله .. ماهذا الهراء ؟
ـ اذن كيف يعيش الأعمى والمشلول والأبكم .. وغيرهم من ذوي العاهات .
ـ لا .. لالا انما يأخذوا كل أموالي .. وممتلكاتي .. أنا موافق .
ـ تأخرت ياباشا .
دهش من كلام خاله .. واستفسر منه :
ـ قلت لي تأخرت .. يعني كان في حل ؟
ـ ربما .
انتصب الباشا على قدميه وصاح غير مصدق :
ـ كيف قل لي بربك كيف ؟
غرس الخال بصره في وجه الباشا وقال بجدية وحزم :
ـ لم اكن اسمع منك من قبل هذه الكلمة ..
ـ أية كلمة ؟
ـ الرب.. كنت تلهث خلف الأموال .. وتكدس الرزم .. والرب يرى ذلك ولم يزعجك فلماذا تزعجه الآن ؟
قال خاله ذلك وتناول فنجان الشاي بهدوء وارتشف قليلا .. ثم فتح الجريدة وراح يقرأ بلا مبالاة .. فشعر الباشا بضآلته وانكسار عنفوانه .. وقال بتوسل :
ـ ياخال .. اسعفني أنا أذوب كل لحظة وأتحطم كل ثانية .. قل شيئا.
تلكأ الخال قليلا وهو يفكر كيف سيشرح له وبم يبدأ؟
أخيرا حزم أمره وقال :
ـ المؤمن يابن أختي يتقبل البلاء .. ويرجع أمره الى الله على انه امتحان لايمانه وصبره على البلاء .. فتهون عليه المصيبة بذكر الله ويرتضي بمشيئة الرب ويدعوه :
" رب اني لاأسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه ".
وصاح الباشا على الفور :
ـ أنا مستعد ياخال للصلاة و الصوم الزكاة والحج و ....
وقاطعه خاله بحدة :
ـ ليس الله لاعبا احتياطيا يجلس على مقاعد الطوارئ .. ولاسيارة اسعاف نطلبها عند الأزمات ..ولكي أريحك أكثر سأسألك : لو أن الله ـ جدلا ـ جاءك في المساء وقال لك "ياباشا مشكلتك عويصة وليس لها حل عندي " فهل ستصلي وتصوم وتزكي ؟
ـ معقول ياخال ؟ الله قادر على كل شيء خلق الكون والبشر والسموات وال...
ـ ومع ذلك تركك كما أنت .. فهل ستصلي وتصوم وتزكي ؟
سكت الباشا وأطرق برأسه تثقله الحيرة .. وتركه خاله لمستنقعه وتناول الجريدة من جديد وراح يقرأ ببرود .. ولما طال صمت ابن اخته وأدرك عجزه عن الاجابة .. قرر أن يرأف بحاله فاقترب منه وقال :
ـ يبدو لي ياباشا ان الله منح كل انسان سلة معينة عندما خلقه ووضع له في السلة مجموعة غير مكتملة .. أي سلة فيها مال انما بدون صحة .. وسلة فيها طول وجمال انما بدون ذكاء .. وسلة فيها فقر انما معها ذكاء وعافية وهكذا ..
وهذا النقص متعمد من الله تعالى..
سأله الباشا:
ـ أي ان الله يتسلى بالناس كي لايمل وحيدا في عليائه ؟
ـ ربما كان كلامك صحيحا لو أن الله ضابط دورة أغرار في الجيش .. لكن لله حكمة في ذلك .. هي الايمان فلعل الايمان هو التعويض الطبيعي لهذا النقص في السلة ..
الإيمان هو الذي يجعل المحروم والمظلوم والمعدوم والمعاق يتأقلمون مع الحياة .. ويتقبلون أوضاعهم ويستسيغون مأساتهم .. لأن شركة الضمان ـ وهي الملائكة ـ ستعوضهم في الآخرة التي تعتبرها أنت مشروعا مؤجلا ..
ـ وان لم تكن هناك آخرة ؟
ـ للذين يعتقدون بوجودها تكون الحياة لديهم مقبولة ومستساغة نوعا ما رغم عللهم الأبدية .. أما منكروها فتجدهم أكثر احباطا ونزقا وسوداوية وتغلب عليهم النزعة الشريرة والحقد على الدنيا بمن فيها .. ويتعرض معظمهم للقرحة والسكتة القلبية والانهيار والجنون أو الانتحار .
بدا أن الباشا لم يكن بحاجة الى هذه الفلسفة التي يتشدق بها خاله فسأله :
ـ وأنا ؟
ـ أنت الباشا .
ـ أقصد وضعي وحالتي .
ـ عد إلى سلتك.
ـ ورجولتي ؟
ـ جرب الرافعات التي أوقفت البرج الشاهق الذي شيدته .. فربما أوقفت لك ماتريد .
لاحظ الباشا ان خاله قد قال كل مالديه وبدأ يتهكم فنهض وخرج .. وأمام باب العمارة كان سائقه في انتظاره متكئا على حافة السيارة يحملق في سيقان النساء الغاديات من أمامه ويتلمط شهوة فيهن .. فأثار هذا حنقه فصب عليه جام غضبه وصرخ فيه :
ـ هات المفاتيح .. أنت مطرود.
ـ خير ياسيدي .. ماذا فعلت ؟
ـ اخرس .. واركض خلف العاهرات ..
"شفّط " الباشا بالسيارة تاركا السائق على الرصيف ..
وعلى الطرف الآخر لمح مراهقا وفتاته يلعقان الآيس كريم بحيوية ويضحكان .. فامتعض لهذا المشهد وحقد عليهما .. وتحسر على أيام صباه التي قضاها خلف الآلة الحاسبة .. مطمورا تحت الرزم .
وبدأت الأفكار المختلفة تزحف نحو دماغه كالسرطان :
هل يجمع معارفه من الضباط والوزراء والمدراء وباقي الحكومة التي تبتغي رضاه ويطلب منهم المساعدة ؟ وحل المعضلة التي هو فيها ؟ ولكن ماذا سيقول لهم ؟
ـ "اجعلوا هذا الأبله ينتصب .. "
وهل هذا شغل الحكومة ؟
أم يكتم الأمر ويعقد زواجا صوريا أمام الناس .. ولكن ماذا لو طالبت الزوجة بحقها الأنثوي ؟
استغرب الباشا من الخالق كيف لم يفطن لهذا الأمر فيجعل للرجل رجولة احتياطية كما جعل للمرء عينين اثنتين واذنين اثنتين ورئتين وكليتين ويدين ورجلين اذا ما تعطلت احداهما استعان بالأخرى ..
لكنه تساءل بنفس الوقت كالأبله:
ـ واذا لم تتعطل ؟ مذا يفعل برجولة زائدة ؟
داخ من سيل الأسئلة .. الأسئلة العقيمة ..مثله ..
بل هو أشد عقما منها ..
إنه مخصي بالفطرة ..
وراهب دون ايمان ..
وقد سدت في وجهه كل الآحتمالات .
لا الله يفاوضه .. ولا الطب يخصبه .. ولا الحكومة تنجده ..
ولولا أن
الآخرة لديه مشروع مؤجل ..
لكانت حوريات الجنة خير عزاء له .
تعليق