التـراث السـردي وممـارسـة الحضـور فـي الكتـابـة:
يدخل العمل الأدبي في شجرة نسب عريقة وممتدة كالكائن البشري، فهو بذرةخصبة تؤول إلى نصوص تنتج عنه، كما أنه نتاج لما سبقه حاملا منه بعض الصفات الوراثية، وفي إشارة إلى حتمية التواصل واستحالة الانقطاع وإلى توكيد حساسية انبثاق روح الراهن والقادم من جسد الحكاية في مضمونها الإرثي الماضوي، قال كارل ماركس: "إنّ وعي الماضي يثقل كالكابوس على عقل الأحياء"(1)،ورؤى الكتاب المحدثة تحاول الاستفاقة غيرأن الكابوس يبقي جزءاً من الوضع الراهن وجزءاً من رؤى المبدعين. والنّص مهما كان نوعه كمدونة كلامية، و"حدث يقع في زمان ومكان معينين لا يعيد نفسه إعادة مطلقة مثله في ذلك مثل الحدث التاريخي"(2)، ورغم هذا فهو ذو وظائف متعددة، وينسج علاقات متشابكة مع غيره من النصوص ضرورة أواختياراً، ومنتج النّص ليس بعيدا-لحظة إنتاجه- عن تأثيرات نصوصه السابقة التي تختزنها ذاكرته "فأساس إنتاج أي نص هو معرفة صاحبه للعالم"(3)،كما أن القارئ لا يقرأ النص الجديد إلا مواجها إياه بنصوصه السابقة، والتي هي مزيج أجناسي متعدد، تتداخل وتتفاعل وتظهر تجلياتها في النص الجديد. ومن هنا كان التناص أوالتعالق "لا مناص منه لأنه لا فكاك للإنسان من شروطه الزمانية والمكانية ومحتوياتهما، ومن تاريخه الشخصي أي من ذاكرته"(4).
حين تختلط هوية الأجناس الأدبية تكون"الكتابة"هي الجنس وهوية ذاتها، تقابلها"القراءة"، فالكاتب قارئ متمرس حصيف ذواق له مجسّاته الخاصةالجاذبة المشاكسة تمارس "الحلول" في المقروء وربما التقمص الجميل، لذلك تتخم الذاكرة بالكثير والعسير مما لا يمكن رده إلى أصوله وحواضنه الصادر عنها. وهذا هو الشطراللاواعي في تناص الكتابة الإبداعية حينتذوب المرجعيات الثقافية المختلفة وتتداخل حتى تصبح عناصر إمداد وإغاثة للذاكرة الكاتبة، ويظهرذلك في متون النصوص وزوايا. أما الشطر الثاني من التناص فمقصديته تتجه إلى استعارة كيانات وهياكل وأصول لها مرجعياتها في الذاكرة والتراث والفكر والثقافة بقصد التواصل الديمومي مع ثوابتها وجدلياتها الخالدة، أوبقصد التعارض معها وإثبات تهافتها وانتهاء مدة صلاحيتها للمعاصرة والحداثة في عالم اليوم، أوبمقصديات أخرى تتعدد بتعدد الكتّاب وأساليب التناول وتقنيات الأداء وهو أمر أظنه صار حتميا في النص الحديث، حين أصبح "تداخل النصوص" هوأظهرالسّمات في نص الحداثة، وعلى الناقد أن يظل باحثا عن رفات تلك النصوص المهضومة في تقاطيع النص الجديد، وهل يمكن الحديث اليوم عن نصّ لا تربطه بغيره أواصر نسب سواء أكانت ظاهرة معلنة أم خفيّة متستّرة.
إن عملية إنتاج أي نص لا تنفصل عن معرفة منتج النص للعالم، وعن السياق الثقافي الذي ينتج فيه النص ويتفاعل معه النّاص، فكاتب النّص هو قارئ لمجموعة نصوص سابقة قبل مباشرة فعل الكتابة، وقبل أن يكتب فهو لابد أنه قرأ نصوص غيره -السابقة والمعاصرة- وهذه القراءة تشكل دعامة ثقافية و معرفية تُسند إنتاج النّص الجديد وتثريه، لذا كان التناص ضرورة لابد منها للكاتب، وليس له من سبيل للخلاص منه، طالماكان الكاتب مثقفاً له مرجعيته التي تتفاعل مع بقية المرجعيات،كما يتفاعل هو مع بقية الثقافات، ومن هنا أخذ حضورالنصوص السابقة في النصوص اللاحقة طريقتين هما(5):
أ- طريقة المحاكاة الساخرة: وتظهر في كتابات من يقدسون مرجعياتهم الثقافية المحافظة التي لم تعترضها هزات تاريخية عنيفة، تقطع بين تواصلها، وحازت الاحترام والتقديس، فإنها تظهركنصوص تراثية سابقة في النصوص الجديدة مجترة محافظة.
ب- طريقة المحاكاة المعارضة: وتظهر في كتابات من تعرضت مرجعياتهم الثقافية إلى تغيرات أدت إلى تحولات تاريخية واجتماعية عميقة، فإنهم غالبا ما يعيدون النظر في تراثهم الثقافي بمناهج نقدية. صار النص الأدبي في النقد الحديث عصارة من التفاعلات والتعالقات النصيّة التي تتم على المستويين المستويين؛ الدلالي والشكلي، ومن هنا لزم وجود آلية أوأداة ناجعة لمقاربة النص الأدبي واستنطاق سننه اللغوي وبنيته العميقة، والدخول إلى أغواره واستكناه دلالاته وتفاعلاته الداخلية والخارجية، لأن النص-مهماكان- فهو شبكة من التفاعلاتالذهنية، ونسق من المصادر المضمرة والظاهرة، التي تتوارى خلف الأسطر وتتمدد في ذاكرة المتلقي عبر آليات وطرائق مثل:المعرفة الخلفية وترسبات الذاكرة والخطاطات النصية والسيناريوهات التصوّرية والتداخل النّصي وتعدد الأصوات والأسلبة وغيرها، لذا بات من الصعب -إن لم نقل من المستحيل- الحديث عن إنتاج إبداعي أصيل خالص للمبدع عن النص الأب أوالنص الأصل(6).
ولمعرفة أهم المفاتيح والآليات الإجرائية التي يمكننا بواسطتها فهم النص الأدبي- المنتَج الجديد- ومعرفة طبيعة العلاقات التي ينسجها والأنماط التي يتعالق بها مع غيره من نصوص التراث السردي،كان لزاما علينا التعرض لمجموعة من المصطلحات والآليات النقدية التي اعتمدت في معالجة ظاهرة تعلق النصوص بعضها ببعض وهي: النص والاستلهام والتعالق والتناص والتداخل والتفاعل والحوارية والتعالي النصي...الخ، ونحن إذ نقف أمام بعض هذه المصطلحات، ذلك لأن قضية تحرير المصطلح أرّقت الباحثين والنقاد، وهي مؤشرعلى الدقة العلمية للمفاهيم ومدى فهمها وتمثلها، فكثير من المصطلحات لاتضبط ضبطا علميا يبين حدودها ومواقعها بين المصطلحات الأخرى التي تجاورها، وعملية "تحديد المصطلحات أمرمهم في مجال البحث العلمي، لأنه الوسيلة التي نستطيع من خلالها الوصول إلى تحديد دقيق للمفاهيم التي نناقشها، ومن ثَمَّ إلى الوصول إلى درجة أدق من درجات الفهم ثم هو في الوقت نفسه وسيلة لرصد التطور الداخلي في فرع من فروع المعرفة"(7).
وترجع أزمة المصطلح في الكتابات النقدية العربية المعاصرة لسببين اثنين:
أ– القطيعة مع المصطلح التراثي: والتي كانت قطيعة معرفية مع مصطلحات مستهلكة تمثلها كتابات البلاغيين العرب، في الوقت الذي تبحث فيه المصطلحات الجديدة - في صيغتها العربية - لنفسها عن جذور في المعاجم العربية والكتابات القديمة، دون أن تتواصل معها تواصلا حقيقيا.
ب– تعدد الترجمات للمصطلح: حيث نجد المصطلح الواحد مترجما عن الكتابات الغربية بأكثر من صيغة لدى المصريين والمغاربة والشاميين، فضلا عن الاختلافات اللفظية داخل المدرسة الواحدة.
يدخل العمل الأدبي في شجرة نسب عريقة وممتدة كالكائن البشري، فهو بذرةخصبة تؤول إلى نصوص تنتج عنه، كما أنه نتاج لما سبقه حاملا منه بعض الصفات الوراثية، وفي إشارة إلى حتمية التواصل واستحالة الانقطاع وإلى توكيد حساسية انبثاق روح الراهن والقادم من جسد الحكاية في مضمونها الإرثي الماضوي، قال كارل ماركس: "إنّ وعي الماضي يثقل كالكابوس على عقل الأحياء"(1)،ورؤى الكتاب المحدثة تحاول الاستفاقة غيرأن الكابوس يبقي جزءاً من الوضع الراهن وجزءاً من رؤى المبدعين. والنّص مهما كان نوعه كمدونة كلامية، و"حدث يقع في زمان ومكان معينين لا يعيد نفسه إعادة مطلقة مثله في ذلك مثل الحدث التاريخي"(2)، ورغم هذا فهو ذو وظائف متعددة، وينسج علاقات متشابكة مع غيره من النصوص ضرورة أواختياراً، ومنتج النّص ليس بعيدا-لحظة إنتاجه- عن تأثيرات نصوصه السابقة التي تختزنها ذاكرته "فأساس إنتاج أي نص هو معرفة صاحبه للعالم"(3)،كما أن القارئ لا يقرأ النص الجديد إلا مواجها إياه بنصوصه السابقة، والتي هي مزيج أجناسي متعدد، تتداخل وتتفاعل وتظهر تجلياتها في النص الجديد. ومن هنا كان التناص أوالتعالق "لا مناص منه لأنه لا فكاك للإنسان من شروطه الزمانية والمكانية ومحتوياتهما، ومن تاريخه الشخصي أي من ذاكرته"(4).
حين تختلط هوية الأجناس الأدبية تكون"الكتابة"هي الجنس وهوية ذاتها، تقابلها"القراءة"، فالكاتب قارئ متمرس حصيف ذواق له مجسّاته الخاصةالجاذبة المشاكسة تمارس "الحلول" في المقروء وربما التقمص الجميل، لذلك تتخم الذاكرة بالكثير والعسير مما لا يمكن رده إلى أصوله وحواضنه الصادر عنها. وهذا هو الشطراللاواعي في تناص الكتابة الإبداعية حينتذوب المرجعيات الثقافية المختلفة وتتداخل حتى تصبح عناصر إمداد وإغاثة للذاكرة الكاتبة، ويظهرذلك في متون النصوص وزوايا. أما الشطر الثاني من التناص فمقصديته تتجه إلى استعارة كيانات وهياكل وأصول لها مرجعياتها في الذاكرة والتراث والفكر والثقافة بقصد التواصل الديمومي مع ثوابتها وجدلياتها الخالدة، أوبقصد التعارض معها وإثبات تهافتها وانتهاء مدة صلاحيتها للمعاصرة والحداثة في عالم اليوم، أوبمقصديات أخرى تتعدد بتعدد الكتّاب وأساليب التناول وتقنيات الأداء وهو أمر أظنه صار حتميا في النص الحديث، حين أصبح "تداخل النصوص" هوأظهرالسّمات في نص الحداثة، وعلى الناقد أن يظل باحثا عن رفات تلك النصوص المهضومة في تقاطيع النص الجديد، وهل يمكن الحديث اليوم عن نصّ لا تربطه بغيره أواصر نسب سواء أكانت ظاهرة معلنة أم خفيّة متستّرة.
إن عملية إنتاج أي نص لا تنفصل عن معرفة منتج النص للعالم، وعن السياق الثقافي الذي ينتج فيه النص ويتفاعل معه النّاص، فكاتب النّص هو قارئ لمجموعة نصوص سابقة قبل مباشرة فعل الكتابة، وقبل أن يكتب فهو لابد أنه قرأ نصوص غيره -السابقة والمعاصرة- وهذه القراءة تشكل دعامة ثقافية و معرفية تُسند إنتاج النّص الجديد وتثريه، لذا كان التناص ضرورة لابد منها للكاتب، وليس له من سبيل للخلاص منه، طالماكان الكاتب مثقفاً له مرجعيته التي تتفاعل مع بقية المرجعيات،كما يتفاعل هو مع بقية الثقافات، ومن هنا أخذ حضورالنصوص السابقة في النصوص اللاحقة طريقتين هما(5):
أ- طريقة المحاكاة الساخرة: وتظهر في كتابات من يقدسون مرجعياتهم الثقافية المحافظة التي لم تعترضها هزات تاريخية عنيفة، تقطع بين تواصلها، وحازت الاحترام والتقديس، فإنها تظهركنصوص تراثية سابقة في النصوص الجديدة مجترة محافظة.
ب- طريقة المحاكاة المعارضة: وتظهر في كتابات من تعرضت مرجعياتهم الثقافية إلى تغيرات أدت إلى تحولات تاريخية واجتماعية عميقة، فإنهم غالبا ما يعيدون النظر في تراثهم الثقافي بمناهج نقدية. صار النص الأدبي في النقد الحديث عصارة من التفاعلات والتعالقات النصيّة التي تتم على المستويين المستويين؛ الدلالي والشكلي، ومن هنا لزم وجود آلية أوأداة ناجعة لمقاربة النص الأدبي واستنطاق سننه اللغوي وبنيته العميقة، والدخول إلى أغواره واستكناه دلالاته وتفاعلاته الداخلية والخارجية، لأن النص-مهماكان- فهو شبكة من التفاعلاتالذهنية، ونسق من المصادر المضمرة والظاهرة، التي تتوارى خلف الأسطر وتتمدد في ذاكرة المتلقي عبر آليات وطرائق مثل:المعرفة الخلفية وترسبات الذاكرة والخطاطات النصية والسيناريوهات التصوّرية والتداخل النّصي وتعدد الأصوات والأسلبة وغيرها، لذا بات من الصعب -إن لم نقل من المستحيل- الحديث عن إنتاج إبداعي أصيل خالص للمبدع عن النص الأب أوالنص الأصل(6).
ولمعرفة أهم المفاتيح والآليات الإجرائية التي يمكننا بواسطتها فهم النص الأدبي- المنتَج الجديد- ومعرفة طبيعة العلاقات التي ينسجها والأنماط التي يتعالق بها مع غيره من نصوص التراث السردي،كان لزاما علينا التعرض لمجموعة من المصطلحات والآليات النقدية التي اعتمدت في معالجة ظاهرة تعلق النصوص بعضها ببعض وهي: النص والاستلهام والتعالق والتناص والتداخل والتفاعل والحوارية والتعالي النصي...الخ، ونحن إذ نقف أمام بعض هذه المصطلحات، ذلك لأن قضية تحرير المصطلح أرّقت الباحثين والنقاد، وهي مؤشرعلى الدقة العلمية للمفاهيم ومدى فهمها وتمثلها، فكثير من المصطلحات لاتضبط ضبطا علميا يبين حدودها ومواقعها بين المصطلحات الأخرى التي تجاورها، وعملية "تحديد المصطلحات أمرمهم في مجال البحث العلمي، لأنه الوسيلة التي نستطيع من خلالها الوصول إلى تحديد دقيق للمفاهيم التي نناقشها، ومن ثَمَّ إلى الوصول إلى درجة أدق من درجات الفهم ثم هو في الوقت نفسه وسيلة لرصد التطور الداخلي في فرع من فروع المعرفة"(7).
وترجع أزمة المصطلح في الكتابات النقدية العربية المعاصرة لسببين اثنين:
أ– القطيعة مع المصطلح التراثي: والتي كانت قطيعة معرفية مع مصطلحات مستهلكة تمثلها كتابات البلاغيين العرب، في الوقت الذي تبحث فيه المصطلحات الجديدة - في صيغتها العربية - لنفسها عن جذور في المعاجم العربية والكتابات القديمة، دون أن تتواصل معها تواصلا حقيقيا.
ب– تعدد الترجمات للمصطلح: حيث نجد المصطلح الواحد مترجما عن الكتابات الغربية بأكثر من صيغة لدى المصريين والمغاربة والشاميين، فضلا عن الاختلافات اللفظية داخل المدرسة الواحدة.
(1) ـ نقلا عن: فرانك كيرمود، الإحساس بالنهاية، دراسات في نظرية القصة، تر:عدنان غزوان وجعفر صادق الخليلي، دارالرشيد للنشر، بغداد، ص:121 .
(2)- محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، ص:120.
(3)– المرجع نفسه، ص:123.
(4)– المرجع نفسه، ص:123.
(5) - ينظر: محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، صص: 119-135.
(6) – ينظر: رولان بارت، درس السيميولوجيا، تر:عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال، الدارالبيضاء، ص:87.
(7) - أحمد درويش، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، مكتبة الزهراء، القاهرة، ص:150.
تعليق