الموقـف الثقـافي مـن السـرد التراثي عربيًّا:
لقد تضافرت ظروف متعددة لتجعل من الحضارة العربية حضارة الشعر دون غيره من الفنون والألوان الأدبية الأخرى، فقد اختُزلت الهوية الثقافية العربية ضمن نمط مهيمن وحيد هو الفن الشعري ليكون الطابع المميز والممثل الأبرز لهذه الثقافة، فالشعر ظل"مستأثراً بالمعاني الفنية، منفرداً بالتعبير عنها، فكانت اللغة الغنائية الوحيدة التي يتغنى بها الرجل في ألامه وآماله، وفي حبه وبغضائه، وفي نشواته العصبية المختلفة لا تشركها في ذلك لغة غيرها"(1)، ورغم عمق التحولات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي مست البنى المركزية للمجتمع العربي، إلا أنّ الجانب الإبداعي ظل مؤطراً ضمن نسق واحد هو الشعر، وبقيت الأنساق الإبداعية الأخرى -رغم أهميتها- هامشية، ويبدو أن ذلك "عائد في الدرجة الأولى إلى ارتباط البنية اللغوية الأدبية ارتباطاً لغوياً عضوياً بالدين، وعلى الأخص بلغة القرآن الكريم وبيانه، وساعد في إبطاء هذا التحوّل ارتباط البنية اللغوية، الأدبية، الدينية بالنظام السياسي والصراع الدائم بين هذا النظام والخارج العدو"(2).
لقد أدت الكثير من العوامل الدينية والسياسية إلى تعزيز الأفق الإبداعي ذي البعد الواحد في الثقافة العربية ومنحته المشروعية ثم التطور والتنامي والانتشار، حتى أن الشعر ظل ينوط بنفس وظيفة الأسطورة في سبيل تحصين الذات والحفاظ على فرادتها في مواجهة الطوارئ الخارجية ووفق المعنى الذي حدده كلود ليفي شتراوس وهو: "إقامة قصر إيديولوجي"(3).
لم تكن النقلة الثقافية المهمة التي أثارها النص القرآني من خلال تضمنه الجانب السردي، كافية لزحزحة الشعر عن مركزه الريادي، بل بقيت هذه الطاقة الإبداعية الجديدة هامشية، كما أنّ المقاربة التراثية للنص القرآني بقيت حبيسة التغني بإعجازه ومفارقته للغة البشرية، إضافةً إلى أن الفقهاء والمفسرين رسخوا منظورا جديداً يحمل رؤية استعلائية على النص السردي، انطوى على رفضه وازدرائه، ولعل مرد ذلك إلى قناعة "طلب السند" التي تنشد الحقيقة قبل أي قيمة جمالية، مما أشاع رفضاً دينياً تاماًللسردكحقل إبداعي، ولم يُحمل السرد القرآني إلاعلى الحكمة والموعظة والعبرة وضرب المثل من خلال وقائع الماضي، وساعد هذا المنظور الديني على تخصيب أرضية ثقافية ترفض وتناوئ الحقل السردي وتقرن عملية الحكي بالعوام والجهالكطبقة هامشية قي المجتمع، لا تحوز الحقيقة ولا تمتلك اللغة الأدبية التي استحوذ عليها الشعر.
ولم يتقبل النقد العربي أن يرتبط النص السردي بهامشيات الواقع، لأنّ اللغة العربية وفق منظوره ذات بعد تقديسي مرتبط بالدين لا يمكنها أن تلامس التفاصيل"المبتذلة"للواقع، وعليها أن تتعالى دائماً، وأن تظل ملامسة لأفق مثالي يتغنى بالأمجاد والمآثر. بيد أنّ السرد العربيكان نتاجاً تاريخياً لحركة التحديث والتطور الاجتماعية، فحتم الظرف التاريخي تنامي هذا الحقل، لأنه إفراز طبيعي لمسار مجتمع بكامله، رغم هيمنة ثقافة الإقصاء لهذا النمط الإبداعي والحط من قيمته. حيثلم يمر وقتكبير حتى أصبح البعض من الشعراء الكبار يشتغل على آلية السرد كالمعري في رسالة الغفران، لأنّ وعي أبي العلاء بأزمة الشعر في عصره ووعيه بالنوع القصصي في الوقت نفسه حفزاه إلى إعلان القطيعة بينه وبين الشعر ليختار طريق القص(4).
ولم يكن ذلك إلا عن وعي معرفي وذوق جمالي نفضا الغبار عن طاقة إبداعية خلاقة. تجلت أكثرفي السفرالسردي الكبير"ألف ليلة وليلة" الذي لم يختزل بين طياته ليالي شهرزاد مع ملكها شهريار فقط، بل كان مختزلاً في متنه هموم الذات العربية وثقافتها، بل والثقافة الإنسانية قاطبة، وبلورالموقف الفكري العربي من الحقل السردي كحقل معرفي وإبداعي بدأ في الرسوخ،كان مستثيرا للمخيلة العربية وغير العربية، فقد حفز هذا النص المفكرين على النسج على منواله مثلما فعله الجهشياري، الذي قام "بتأليف كتاب اختار فيه ألفسمر من أسمارالعرب والعجم والروم(...)واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ماحلا بنفسه(...)فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة،كل ليلة سمر تام(...)ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتمة ألف سمر"(5).
لم يكن الاهتمام المحتفي بهذا الأثر السردي الخالد من البعض دليلا على اندثار الحكم على اندثار الحكم المعياري القديم، فقد بقيت بعض الأقلام النقدية العربية متحفظة إزاءه، وأحيانا رافضة له رفضاً مطلقاً تماشيا مع الموقف من السرد عموما، فالمسعودي مثلاً وصف الليالي بأنها "أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة نظمها من تقرب للملوك بروايتها"(6)، مبدياً رفضه لهذا الأثر كونه مفارقاً للواقعية التي كرستها النزعة الشفاهية، فوسمها بـ"خرافات"لأنها تناقض الحقيقة في منظومة الفكر ذات الحس الديني ولم يكن المسعودي وحده في هذا الرأي فقد ارتفعت أصوات كثيرة تتناغم معه كابن النديم، بل مازال-حتى في أيامنا هذه- من يرى ضرورة منع الكتاب من الطبع والنشر، والتناول لدى القراء.
إن مقاربة الموقف النقدي العربي القديم لنص الليالي انسجم بدوره مع منطق المخزون الشفهي الذي لايكلف نفسه عناء البحث والقراءة والنظر في النصوص، بل يؤسس أحكامه ومنطقه بتسرع وارتجالية على أحكام مسبقة كثيراً ما تكون نتيجة لسيطرة الثقافة الدينية، ثقافة الحسم النهائي في الأشياء بحثا عن الحقيقة واليقين، لاثقافة القراءة والشك والسؤال التي تبقي أفق المعنى مفتوحا، كما استجاب الموقف النقدي العربي في مقاربته لهاجسهالأول وهو الشعر، الذي شكل طاقته المحورية، معاضَداً في ذلك بمنظومة فكريّة دينية وسياسيّة وجهت الآفاق الإبداعية وجهة واحدة ممثلة في الشعر، وأقصت في غمرة ذلك الاهتمام عدة أنماط إبداعية أخرى غير الشعر، وتأثر بهذا الموقف النثرالعربي والحقل السردي بشكل خاص"رغم كونه في واقع الحال الإنتاج الأكثر إبداعاً، والأكثر جماعية في تاريخ ثقافتنا"(7).
ــــــــــــــــــــــ الهوامش ــــــــــــــــــــــــ
(1) - أبو عثمان الجاحظ، مجموع رسائل الجاحظ، تقديم وتعليق: محمد طه الحاجري، دارالنهضة العربية، بيروت،ص:17.
(2) - أدونيس (علي أحمد سعيد)، صدمة الحداثة، دار العودة، بيروت، ص:307.
(3)- محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، تر: هاشم صالح، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ص:141.
(4) - ينظر: ألفت كمال الروبي، تحول الرسالة وبزوغ شكل قصصي في رسالة الغفران، مجلة فصول، مجلد13، ص:77 .
(5)- محمد بن إسحاق النديم، الفهرست، حققه وقدم له: مصطفى الشويمي، الدارالتونسية للنشر،المؤسسة الوطنية للكتاب، ص:558.
(6)- أبو الحسن بن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، موفم للنشر، ص:292.
(7)- سعيد يقطين، الرواية والتراث السردي، ص:269.
نقلا بتصرف : عن عبد الوهاب شعلان ، مجلة الموقف الأدبي، ع412 آب2005
لقد تضافرت ظروف متعددة لتجعل من الحضارة العربية حضارة الشعر دون غيره من الفنون والألوان الأدبية الأخرى، فقد اختُزلت الهوية الثقافية العربية ضمن نمط مهيمن وحيد هو الفن الشعري ليكون الطابع المميز والممثل الأبرز لهذه الثقافة، فالشعر ظل"مستأثراً بالمعاني الفنية، منفرداً بالتعبير عنها، فكانت اللغة الغنائية الوحيدة التي يتغنى بها الرجل في ألامه وآماله، وفي حبه وبغضائه، وفي نشواته العصبية المختلفة لا تشركها في ذلك لغة غيرها"(1)، ورغم عمق التحولات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي مست البنى المركزية للمجتمع العربي، إلا أنّ الجانب الإبداعي ظل مؤطراً ضمن نسق واحد هو الشعر، وبقيت الأنساق الإبداعية الأخرى -رغم أهميتها- هامشية، ويبدو أن ذلك "عائد في الدرجة الأولى إلى ارتباط البنية اللغوية الأدبية ارتباطاً لغوياً عضوياً بالدين، وعلى الأخص بلغة القرآن الكريم وبيانه، وساعد في إبطاء هذا التحوّل ارتباط البنية اللغوية، الأدبية، الدينية بالنظام السياسي والصراع الدائم بين هذا النظام والخارج العدو"(2).
لقد أدت الكثير من العوامل الدينية والسياسية إلى تعزيز الأفق الإبداعي ذي البعد الواحد في الثقافة العربية ومنحته المشروعية ثم التطور والتنامي والانتشار، حتى أن الشعر ظل ينوط بنفس وظيفة الأسطورة في سبيل تحصين الذات والحفاظ على فرادتها في مواجهة الطوارئ الخارجية ووفق المعنى الذي حدده كلود ليفي شتراوس وهو: "إقامة قصر إيديولوجي"(3).
لم تكن النقلة الثقافية المهمة التي أثارها النص القرآني من خلال تضمنه الجانب السردي، كافية لزحزحة الشعر عن مركزه الريادي، بل بقيت هذه الطاقة الإبداعية الجديدة هامشية، كما أنّ المقاربة التراثية للنص القرآني بقيت حبيسة التغني بإعجازه ومفارقته للغة البشرية، إضافةً إلى أن الفقهاء والمفسرين رسخوا منظورا جديداً يحمل رؤية استعلائية على النص السردي، انطوى على رفضه وازدرائه، ولعل مرد ذلك إلى قناعة "طلب السند" التي تنشد الحقيقة قبل أي قيمة جمالية، مما أشاع رفضاً دينياً تاماًللسردكحقل إبداعي، ولم يُحمل السرد القرآني إلاعلى الحكمة والموعظة والعبرة وضرب المثل من خلال وقائع الماضي، وساعد هذا المنظور الديني على تخصيب أرضية ثقافية ترفض وتناوئ الحقل السردي وتقرن عملية الحكي بالعوام والجهالكطبقة هامشية قي المجتمع، لا تحوز الحقيقة ولا تمتلك اللغة الأدبية التي استحوذ عليها الشعر.
ولم يتقبل النقد العربي أن يرتبط النص السردي بهامشيات الواقع، لأنّ اللغة العربية وفق منظوره ذات بعد تقديسي مرتبط بالدين لا يمكنها أن تلامس التفاصيل"المبتذلة"للواقع، وعليها أن تتعالى دائماً، وأن تظل ملامسة لأفق مثالي يتغنى بالأمجاد والمآثر. بيد أنّ السرد العربيكان نتاجاً تاريخياً لحركة التحديث والتطور الاجتماعية، فحتم الظرف التاريخي تنامي هذا الحقل، لأنه إفراز طبيعي لمسار مجتمع بكامله، رغم هيمنة ثقافة الإقصاء لهذا النمط الإبداعي والحط من قيمته. حيثلم يمر وقتكبير حتى أصبح البعض من الشعراء الكبار يشتغل على آلية السرد كالمعري في رسالة الغفران، لأنّ وعي أبي العلاء بأزمة الشعر في عصره ووعيه بالنوع القصصي في الوقت نفسه حفزاه إلى إعلان القطيعة بينه وبين الشعر ليختار طريق القص(4).
ولم يكن ذلك إلا عن وعي معرفي وذوق جمالي نفضا الغبار عن طاقة إبداعية خلاقة. تجلت أكثرفي السفرالسردي الكبير"ألف ليلة وليلة" الذي لم يختزل بين طياته ليالي شهرزاد مع ملكها شهريار فقط، بل كان مختزلاً في متنه هموم الذات العربية وثقافتها، بل والثقافة الإنسانية قاطبة، وبلورالموقف الفكري العربي من الحقل السردي كحقل معرفي وإبداعي بدأ في الرسوخ،كان مستثيرا للمخيلة العربية وغير العربية، فقد حفز هذا النص المفكرين على النسج على منواله مثلما فعله الجهشياري، الذي قام "بتأليف كتاب اختار فيه ألفسمر من أسمارالعرب والعجم والروم(...)واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ماحلا بنفسه(...)فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة،كل ليلة سمر تام(...)ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتمة ألف سمر"(5).
لم يكن الاهتمام المحتفي بهذا الأثر السردي الخالد من البعض دليلا على اندثار الحكم على اندثار الحكم المعياري القديم، فقد بقيت بعض الأقلام النقدية العربية متحفظة إزاءه، وأحيانا رافضة له رفضاً مطلقاً تماشيا مع الموقف من السرد عموما، فالمسعودي مثلاً وصف الليالي بأنها "أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة نظمها من تقرب للملوك بروايتها"(6)، مبدياً رفضه لهذا الأثر كونه مفارقاً للواقعية التي كرستها النزعة الشفاهية، فوسمها بـ"خرافات"لأنها تناقض الحقيقة في منظومة الفكر ذات الحس الديني ولم يكن المسعودي وحده في هذا الرأي فقد ارتفعت أصوات كثيرة تتناغم معه كابن النديم، بل مازال-حتى في أيامنا هذه- من يرى ضرورة منع الكتاب من الطبع والنشر، والتناول لدى القراء.
إن مقاربة الموقف النقدي العربي القديم لنص الليالي انسجم بدوره مع منطق المخزون الشفهي الذي لايكلف نفسه عناء البحث والقراءة والنظر في النصوص، بل يؤسس أحكامه ومنطقه بتسرع وارتجالية على أحكام مسبقة كثيراً ما تكون نتيجة لسيطرة الثقافة الدينية، ثقافة الحسم النهائي في الأشياء بحثا عن الحقيقة واليقين، لاثقافة القراءة والشك والسؤال التي تبقي أفق المعنى مفتوحا، كما استجاب الموقف النقدي العربي في مقاربته لهاجسهالأول وهو الشعر، الذي شكل طاقته المحورية، معاضَداً في ذلك بمنظومة فكريّة دينية وسياسيّة وجهت الآفاق الإبداعية وجهة واحدة ممثلة في الشعر، وأقصت في غمرة ذلك الاهتمام عدة أنماط إبداعية أخرى غير الشعر، وتأثر بهذا الموقف النثرالعربي والحقل السردي بشكل خاص"رغم كونه في واقع الحال الإنتاج الأكثر إبداعاً، والأكثر جماعية في تاريخ ثقافتنا"(7).
ــــــــــــــــــــــ الهوامش ــــــــــــــــــــــــ
(1) - أبو عثمان الجاحظ، مجموع رسائل الجاحظ، تقديم وتعليق: محمد طه الحاجري، دارالنهضة العربية، بيروت،ص:17.
(2) - أدونيس (علي أحمد سعيد)، صدمة الحداثة، دار العودة، بيروت، ص:307.
(3)- محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، تر: هاشم صالح، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ص:141.
(4) - ينظر: ألفت كمال الروبي، تحول الرسالة وبزوغ شكل قصصي في رسالة الغفران، مجلة فصول، مجلد13، ص:77 .
(5)- محمد بن إسحاق النديم، الفهرست، حققه وقدم له: مصطفى الشويمي، الدارالتونسية للنشر،المؤسسة الوطنية للكتاب، ص:558.
(6)- أبو الحسن بن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، موفم للنشر، ص:292.
(7)- سعيد يقطين، الرواية والتراث السردي، ص:269.
نقلا بتصرف : عن عبد الوهاب شعلان ، مجلة الموقف الأدبي، ع412 آب2005
تعليق