إضاءة تحليلية لرواية أمريكانللي للروائي المصري صنع الله إبراهيم
بقلم: مرتضى علي شرارة
تمهيد
بقلم: مرتضى علي شرارة
تمهيد
ينتمي صنع الله إبراهيم إلى جيل الستينات من الروائيين المصريين ،ذلك الجيل الذي شكّل مرحلة روائية أطلق عليها إدوارد الخرّاط (التيّار الواقعي الجديد) أو مرحلة (الحساسية الجديدة)، حيث أصدر إبراهيم روايته الأولى (تلك الرائحة) سنة 1966 إلى جانب قصص قصيرة أخرى سبق اهتمامه بها اهتمامه بالرواية[1].وجماعة الحساسية الجديدة هي الحركة التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تجاوزت الأنماط السردية السائدة في عصرها على مستويي الشكل والمضمون[2]،مرتكزة على التجريب على أنه قوام التجاوز ومنطلقة من فكرة جمالية الهدم إلى طوباوية الكتابات اللانهائية[3].وصنع الله ذاته يقرن بين مفهومي التجريب والتمرد إلى جانب مفهوم مصاحب لذلك المصطلحين هو المغامرة في الخروج على الكتابة البازاكية التي كانت سائدة فيالرواية المصرية في الخمسينات.[4] وإبراهيم لا يرفض صلة الرواية بالواقع وإحالتها عليه بقدر ما يرفض رؤية معينة للواقع تعبّر عنها الرواية.[5]وهو بالتالي ينتقد الواقعية الاشتراكية بشكل عنيف ويعتبرها ضربا من الرومانسية الثورية.*
وقد تمحور أدب صنع الله إبراهيم حول القضايا السياسية البارزة في فترة الستينات وما بعدها. ولا تكمن أهمية أدبه في أنه شاهد على الحراك الاجتماعي والتاريخي المصري والعربي فحسب، بل هو أدب يتبنى قيما جمالية ويكشف عن أيدولوجيا جمالية مناهضة للتسطيح ومناوئة لاختزال الواقع وتزييفه.[6]ولم يعثر إبراهيم على صوته الخاص -بعد بحث طويل على ما يبدو_ إلا عند ظهور شكل روايته الأولى (تلك الرائحة) حيث كانت رصدا لحياته اليومية التي عاشها بعيد خروجه من السجن، وهو بذلك توصّل إلى نوع من الكتابة ترفض الترهّل، وتنهل من الصوت الداخلي، وتتجاوز المواضعات المستقرة في الكتابة. فكانت كتابة صارمة بنائيا،مولعة بالتطثيف،دقيقة اللغة، متجنبة المجاز ، وكأنها بمثلبة كاميرا محايدة ترصد بأمانة ما ينعكس عل عدستها.[7]
كلمة في الرواية
إن رواية (أمريكانلي) هي من روايات التجريب التي تسعى إلى تقويض النمط والنموذج، وتجعل الكتابة داخل الجنس الأدبي مفتوحة كليا، تبحث بشكل متواصل عن شكل جديد و رؤية جديدة ، وبعبارة أخرى فهي تسعى -أي روايات التجريب - إلى خلخلة البنى السردية السائدة في الرواية العربية ، وزعزعة قوانين التلقي لدى القارئ العربي التي ربطته بالرواية العربية زمنا طويلا. هذا على صعيد الشكل والبنية ، أما على صعيد المرحلة ، فإنّ هذه الرواية تعتبر شكلا من أشكال التوسع في تناول القضايا ، حيث أن المتتبع لأعمال صنع الله إبراهيم الروائية يلحظ أنه قد تناول في أعماله الأولى (تلك الرائحة‘ نجمة أغسطس‘ اللجنة) قضايا داخلية متعلقة ببلده مصر ، ثم انتقل بعد ذلك إلى دائرة أوسع حيث تناول قضايا عربية في ( بيروت بيروت،وردة) ،وهاهو الآن يوسّع الدائرة، ويتجاوز الوطن العربي، فيتناول قضايا المجتمع الأمريكي في هذه الرواية التي أنا بصدد تحليلها.
قراءة في الرواية:
أوّلا : على صعيد الحكاية
هي قصة مؤرخ /أستاذ جامعي مصري ستيني تم انتدابه بغرض التدريس في إحدى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وبالتحديد في مدينة سان فرنسيسكو لمدة فصل دراسي واحد خلال العام 1998م ، حيث سيدرس مساقا حول تجربته الشخصية كمؤرخ عربي مصري والظروف المختلفة التي أسهمت في تكوينه الثقافي.ويكتشف أن طلابه من منابت وأيديولوجيات مختلفة تجمعهم الجنسية الأمريكية، وكذلك يزامل مجموعة من المدرسين من منابت وأيديولوجيات مختلفة أيضا ، من بينهم يهود تتفاوت مواقفهم من الصهيونية والقضية الفلسطينية.
من الأيام الأولى لوجوده في الجامعة يبدأ بتلقي رسائل وورود على صندوق بريده من شخص غامض ،فحواها الإعجاب والرغبة في اللقاء، بيد أنه لا يستطيع تحديد المرسل الذي بدأ ببعث تلك الرسائل على بريد المؤرخ الألكتروني في مرحلة لاحقة. وذات يوم تحدد له إحدى الرسائل موعدا للقاء، يذهب إليه لكن الطرف الآخر يتخلف عن الحضور. ويتكرر الأمر مرتين وينتهي بنفس النتيجة من عدم اللقاء مع ذلك الشخص الغامض الذي يرجح المؤرخ أنه امرأة بسبب بعض الإشارات التي وردت في رسائله.
تنشأ علاقة عابرة بين المؤرخ وإحدى طالباته والتي تكون بالأصل مرتبطة بصديق يسكن في ولاية أخرى، تنتهي العلاقة بهدوء بسبب علة نفسية لدى المؤرخ تقف دائما وراء إفشال علاقاته النسائية الأمر الذي أبقاه أعزب كما يتضح من اعترافاته لطلابه في معرض حديثه لطلابه عن تجاربه الشخصية والأكاديمية.
ثم ينتهي الفصل الدراسي دون أن يتعرف المؤرخ على المعجب الغامض الذي بعث آخر رسالة له عبر البريد الألكتروني وكانت مغايرة لكل رسائله السابقة، حيث انطوت على إهانة مفاجئة ومتوقعة للمؤرخ.
هذه الأحداث ببساطة ،والتي قدمها الراوي (الأنا الساردة) على شكل أشبه ما يكون باليوميات، بيد أن المؤلف حشد في ثنايا هذه الأحداث البسيطة الشيء الكثير من الوصف الدقيق للمجتمع الأمريكي والبيئة الأمريكية التي عاش فيها ، ذلك الوصف الذ ي جعل من المكان وكأنه البطل الحقيقي للرواية ، كذلك حشد الكاتب إلى جانب وصف المكان والشخوص كما كبيرا من التضمينات التاريخية والإعلامية والمواد التسجيلية المختلفة، وهو ما جعل الرواية كبيرة الحجم نسبيا،حيث تقع في 485 صفحة من القطع المتوسط.
ثانيا: على صعيد السرد والوصف
اهتم الكاتب كما أسلفت اهتماما كبيرا في وصف البيئة الأمريكية من خلال سارده ، فلم يكن يمر ذلك السارد على مكان إلا وصفه بإسهاب وبدقة تامة وبشكل محايد ، وكان وصفه للمكان وصفا تسجيليا توثيقيا سينمائيا ذا دلالات خصبة عميقة. كذلك فقد وصف الإنسان الأمريكي في مختلف مواقعه وظروفه ومستوياته، على مستويات الشكل والحركة والسلوك والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وردود الفعل المختلفة إزاء القضايا المختلفة ، وتناقضاته ، وسلبياته وإيجابياته، حيث رسم المؤلف صورة دقيقة جدا حية وحيوية لذلك الإنسان في ذلك المجتمع، وكان بمثابة العين الراصدة لكل تلك المشاهدات.
ويتجلّى في هذه الرواية ما يسمّى بـ (التبئير الخارجي ) الذي يتيح للراوي مسافة بينه وبين المادة القصصية التي يقدمها ، و تتجلى الحيادية في هذه الرواية من خلال عناية مؤلفها بالوصف على مستوى الشخوص والأشياء على نحو ما ذكرت سابقا ، ومرد ذلك انقطاع الراوي عن التبرير العاطفي والأيديولوجي، فهو يكتفي بتقديم المشهد دون تعليق. بيد أن ذلك يقودنا -كما يذكر محمد الباردي - إلى ملاحظة هيمنة الرؤية من الخارج والتي يترتب عليها عدم الوصول إلى العمق الحقيقي للأشياء والشخصيات حين يقدمها الراوي بتلك الطريقة.[8]
وتلك الحيادية التي تتجلى في ظاهرة التسجيل المهيمنة على السرد جعلت بعض النقاد يعتيرون الرواية "أقرب إلى مظهر (الرواية-الريبورتاج) أو (الرواية - التسجيل) مما قد ينقل بنيتها الروائية ببعض التفاصيل التي تبدو في الظاهر زوائد غير ضرورية ، على أن الغريب - كما يذكرمحمود أمين العالم حول رواية نجمة اغسطس وهي الرواية الشبيهة بهذه الرواية من حيث بنيتها - أن هذه الرواية لا تتمثل حقيقتها الفنية الخاصة إلا بهذه الزوائد نفسها"[9].
وقد تقاطع في الرواية خطابان : خطاب سردي روائي يشبه إلى حد بعيد النمط التقليدي، وخطاب وثائقي تسجيلي سبق ذكره ، يعتمد الأسلوب المباشر،مثلته نصوص ومعلومات تاريخية وهوامش طويلة ابتلعت أحيانا صفحة أو صفحات بأكملها . وقد تقاطع الخطابان الحكائي والوثائقي في شكل شريط سينمائي ، ولم تكن للخطاب الوثائقي علاقة بنائية مع النص الحكائي ، بل ساهم مساهمة فعالة في خدمة الرؤية العامة للرواية. حيث استطاع المؤلف أن ينتقي مادته التوثيقية الواسعة والغنية جدا انتقاء ذكيا ، وأن يركبها تركيبا فنيا في ثنايا السرد ليمنحها دلالتها العميقة.
ثالثا : على صعيد الشخصيات
تنوعت شخصيات الرواية ، عاكسة تنوع المجتمع الأمريكي الذي يضم منابت وأصولا وأيديولوجيات وأديانا شتى، الأمر الذي أثرى الرواية وعمّق فكرتها، كما أن ذلك التنوع في الشخصيات التي تعددت مرجعياتها التاريخية والفكرية والسياسية والدينية ساهم كذلك في إثراء الجانب التوثيقي في الرواية . فعلى سبيل المثال تناول الجانب التوثيقي في الرواية قضية الهنود الحمر في أمريكا تاريخا وحاضرا وكذلك قضية الزنوج[10]، والذي سوّغ ذلك التناول هو وجود طالبين أحدهما من الهنود الحمروالآخر من الزنوج في صف المؤرخ السارد.
وقد اهتمت الرواية بوصف بعض الشخصيات وصفا خارجيا دقيقا وكانت تتبع سلوكياتها وأعمالها العادية جدا ، ولم يكن هذا الوصف - باعتقادي - وصفا عبثيا حشويا بقدر ما كان وصفا دلاليا يصب في النهاية في خدمة فكرة الرواية ورؤيتها. بيد أن هذا الوصف الخارجي الدقيق لم يرسم ملامح محددة وعميقة لتلك الشخصيات ،ونستطيع أن نقول أن الكاتب عرّى شخصياته من انفعلاتها العاطفية ، والنفسية العميقة، رغم أنه قدم لها وصفا خارجيا وتتبع أفعالها اليومية العادية.
لم تهتم الرواية كذلك بتتبع الشخصيات وملاحقتها حتى نقطة تحديد مصير معين لها كما هي الحال في الرواية التقليدية، بل إنها وظفت كل شخصية بحسب حاجتها لها ، ثم غيبتها بعدما أدت دورها دون تبرير لذلك الغياب، بل إنها أحيانا وظفت غيابها المفاجئ لخدمة فكرة الرواية ، كما حدث في غياب الشخصيتين (روزيتا) و (فرناندو) وهما من طلاب الأستاذ المؤرخ ، حيث وظف غيابهما غير المبرر عن الصف منذ بداية الفصل وحتى النهاية ربما لتعزيز فكرة عدم الاستقرار والاضطراب التي تصيب نسبة من سكان أمريكا.
ومما يجدر ذكره في هذا المجال أن صنع الله إبراهيم قد خرج عن المفهوم التقليدي الروائي في تحديده لطبيعة الشخوص؛ ففي حين أن البطل (الشخصية الرئيسية) في الرواية التقليدية هو الشخصية المحورية المتميزة في علاقاتها بالشخوص الآخرين والتي تحمل صفات نفسية واجتماعية وفسيولوجية نموذجية، نجد أن روايات إبراهيم - ومنها هذه الرواية - يغيب عنها ذلك البطل التقليدي حيث أن الشخصية المحورية في كل رواياته هي (الأنا الساردة)، فنجد أن الراوي يؤدي وظيفتين: فهو من ناحية سارد للأحداث،وهو من ناحية أخرى موضوع للرواية.
ولعلنا نجد بعض العمق في شخصية (شرلي) في الرواية وهي الطالبة التي انتظمت في صف (الأنا) الساردة ، ثم قامت بينهما علاقة عاطفية ، لم ترق إلى مستوى العلاقة الجسدية الكاملة،بيد أنه ليس العمق الذي نجده عادة في رواية تقليدية، فهي شخصية ظهرت بعض ملامحها الداخلية من خلال حواراتها ومواقفها مع (الأنا) كملمح التناقض الذي تمثل بإعلانها في بادئ الأمرعن عدم نيتها لإقامة أية علاقة حميمة مع أحد غير صديقها الذي يدرس في ولاية أخرى، ثم استسلامها في نهاية الأمر للراوي والذي لم يستطع بدوره أن يكمل العلاقة الحميمة معها لسبب شخصي نفسي[11]. إلا أنها في المجمل تبقى شخصية مسطحة غامضة في جوانب كثيرة ، انسحبت من حياة الراوي انسحابا باهتا عاديا غير مبرر لأنها ببساطة كانت شخصية عادية وباهتة شأنها في ذلك شأن كل الشخصيات في الرواية.
وبالنتيجة فإن كل العلاقات بين الأنا والآخرين هي علاقات عابرة أدائية برجماتية نفعية من أجل ( خدمة أو متعة او معلومات) ولهذا فقد افتقدت إلى الحميمية والاستمرار والتطور والعمقن . ويبقى (الأنا) في النهاية وحيدا ، والأخرون في الخارج.[12]
رابعا: على صعيد الزمان
يلاحظ أن صنع الله إبراهيم في (أمريكانللي) يهشّم الزمن كسمة واضحة من سمات روايات التجريب؛ حيث يتقاطع الزمن السائد وهو زمن وجود الراوي في أمريكا عام 1998م مع زمن دراسته الأولى في مصر في الخمسينات والستينات، إضافة إلى أزمان متعددة تمثلها وقائع تاريخية متعددة في أمكنة متعددة في إطار ثقافات متعددة. ونحن هنا أيضا امام بانوراما تاريخية مبهرة.
خامسا : على صعيد علاقة الشخصيات مع المكان
يطغى على هذه الرواية - بل على كل روايات صنع الله إبراهيم - مفهوم (الرواية - الرحلة ) ، حيث تكون الشخصية المحورية وهي دائما (الأنا الساردة) ضيفة على المكان ، طارئة عليه ، تنتهي الرواية بمغادرته أو استعداده للمغادرة ، وهو في أثناء هذه الرحلة يقوم بدور المراقب المستكشف الباحث. و رواية (أمريكانلي) هي رحلة الراوي إلى المجتمع الأمريكي ، أو هي أشبه ما تكون بأدب الرحلات بيد أنه أدب رحلات حداثي تجريبي يتقاطع فيه الحكائي مع التوثيقي ، ويتقاطع فيه الماضي مع الحاضر، في توليفة متماسكة. وليس هذا وحسب، فبالإضافة إلى أن هذه الرواية هي رحلة إلى مجتمع آخر ‘ فهي في الوقت ذاته رحلة نحو الذات وهي رحلة في المكان والزمان ورحلة إلى المشاعر والأفكار.
سادسا: على صعيد البداية والنهاية
في هذه الرواية تشبه البداية النهاية ، حيث تبدأ الرواية بوصول بعد سفر ، وتنتهي باستعداد لسفر ، ضمن زمن دائري حيث العودة إلى نقطة البداية ، وحيث تتشابه الأفعال. وتشابه البداية مع النهاية ليس ملحظا مستغربا في روايات التجريب التي تنتمي إليها هذه الرواية ، حيث لا تقدم هذه الروايات الإطار الزمكاني ولا الشخصية كتمهيد للأحداث التي ستقع أثناء السرد.[13]
سابعا: على صعيد الحبكة
تغيب الحبكة عن هذه الرواية أو تكاد ، وهذا من سمات روايات التجريب التي تخرج على قواعد الرواية التقليدية التي تعتبر الحبكة ركنا أساسيا في العمل الروائي . ففي هذه الرواية نجد حكاية بسيطة جدا عفوية لا تعقيد فيها ولا تشابك ولا كثير تفرّع،وتنتهي كا بدأت ، وهي بذلك لا تحقق أي تشويق للقارئ ، في هذا المجال ، على أن هذه الرواية قد يكون فيها تشويق من نوع آخر لا يقوم على الحبكة ، وإنما يقوم على تقاطع الأزمنة وتعدد المواضيع ، إضافة إلى التضمينات المختلفة من تاريخية وسياسية وصحفية وغيرها ، حيث تقدم للقارئ مادة ثقافية غنية ودسمة ومتنوعة.
ثامنا : على صعيد اللغة الروائية
في الرواية لغتان : الأولى ، لغة سردية حكائية تميزت بجملها القصيرة ، وبساطتها ، وتجنبها للمجازات ، وابتعادها عن الشاعرية . واللغة الثانية : هي لغة تقريرية وثائقية أكاديمية ناسبت المواد التسجيلية والمناقشات الأكاديمية والثقافية ، والتضمينات التاريخية وغيرها. أو ربما نحن بإزاء لغات عدة في هذه الرواية تنوعت بتنوع الأزمنة أو بتنوع الثقافات والأيديولوجيات .حيث نحن أمام رواية في غاية التعقيد والتشابك، تسعى إلى احتواء تاريخ طويل ممتد.
تاسعا : على صعيد الرؤية
قدمت الرواية المجتمع الأمريكي كما هو بكل تناقضاته ومفارقاته وإيجابياته وسلبياته بحيادية تكاد تكون كاملة ، و هي ربما فعلت ذلك ليجري القارئ العربي مقارنة بين مجتمعه وذلك المجتمع ، ويعرف مدى النعيم أو الشقاء الذي هو فيه ، وربما لتبرهن للقارئ على أن هموم الناس تقريبا واحدة في كل مكان . أو ربما أرادت أن تغير نظرة الإنسان العربي إلى المجتمع الأمريكي على أنه خير مطلق ، وأنه مهد الحرية ، وعدم التمييز، واحترام الفرد ، وإلى ما هنالك من صور جميلة موجودة في أذهان أغلبية سكان العالم الثالث، وأرادت من هذا الإنسان العربي أو الشرقي أن يعرف الصورة الحقيقية للمجتمع الأمريكي ، وأن يكون موضوعيا في نظرته. أو ربما أرادت الرواية كل تلك الأمور التي ذكرتها جميعا وأكثر منها بكثير على نحو لا يمكنني إحصاؤه ، وهو الأمر المرجح ، ذلك أنها رواية غنية كما ونوعا ، ومتشعبة وممتدة ، ويجدر برؤيتها أن تكون واسعة وعميقة ومتعددة.
كلمة أخيرة
نحن أمام رواية بمثابة مرايا متعاكسة: مرآة أساسية هي عين الرواي ، حيث الزمن السائد والمكان السائد (أمريكا عام 1998م)، وهناك مجموعة من المرايا الأخرى ، مثل مرآة التضمينات التاريخية والفنية والتقارير الصحفية والمواد التسجيلية المختلفة ، أي مرآة الجانب التوثيقي ، ثم مرآة الذكرى ، حيث الرؤية العميقة والتي تساهم في رسم صورة أخرى لمكان وزمان آخرين، يشبهان الواقع السائد في مستويات ، ويناقضانه في مستويات أخرى. وصنع الله إبراهيم في كل ذلك يتجاوز الرصد الفردي والرؤية السطحية للواقع ، فيدعمها بامتدادات تاريخية ومواد تسجيلية تقريرية موازية، تقوم بإضاءة الجوانب المعتمة لذلك الواقع ، وبالتالي فإن النص يظهر كتكوين فني معقد ، ولكنه ذلك التعقيد الدال.[14]
بيد أن الرواية رغم غناها وعمقها وكرنفاليتها، تقع في إشكالية الجنس الأدبي، أي إلى أي مدى تقترب من جنس الرواية ،وإلى أي مدى تبتعد عنه. وسنجد أن المزاج التقليدي في إجابته عن هذا التساؤل سيضج بكثير من التحفظات في هذا المجال ،حيث سيجد - حين يعمل مبضعه التقليدي في جسم الرواية - كثيرا من الشواهد على خروج هذا النص على شكل الجنس الأدبي (الرواية) المألوف، وعلى كافة الصعد كما ظهر في متن هذا البحث. في حين سيجد المزاج المتوائم مع نظرية تداخل الأجناس الأدبية شواهد قوية على محاولة جريئة لتجسيد هذه النظرية ، وبالتالي الانطلاق إلى فضاء أوسع في عالم الرواية أو بالأحرى الأدب بشكل عام.
المصادر
1. إبراهيم ، صنع الله، أمريكانللي (أمري كان لي) ،دار المستقبل العربي،القاهرة،الطبعة ،2003.
2. الباردي ، محمّد، الرواية العربية والحداثة، الجزء الأول،دار الحوار،اللاذقية،الطبعة الأولى ،1993.
3. بدوي ، محمّد ، الرواية الجديدة في مصر: دراسة في التشكيل والإيديولوجيا ، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت ،الطبعة الأولى ،1993.
4. العالم ،محمود أمين ، ثلاثية الرفض والهزيمة:دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم تلك الرائحة نجمة أغسطس اللجنة ،دار المستقبل العربي، القاهرة، الطبعة الأولى ،1985.
[1] . محمد الباردي ،الرواية العربية والحداثة، الجزء الأول،دار الحوار،اللاذقية،الطبعة الأولى ،1993،ص53،21
[2] . المصدر السابق،ص61
[3] . المصدر السابق،ص71
[4] . المصدر السابق،ص72
[5] .المصدر السابق،ص76
[6] .محمد بدوي، الرواية الجديدة في مصر: دراسة في التشكيل والإيديولوجيا ، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت ،الطبعة الأولى ،1993، ص142
[7] . المصدر السابق ،ص143-144
[8] . الباردي،الرواية العربية والحداثة،ص203
[9] . محمود أمين العالم،ثلاثية الرفض والهزيمة:دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم تلك الرائحة نجمة أغسطس اللجنة ،دار المستقبل العربي، القاهرة، الطبعة الأولى ،1985، ص15
[10] .انظر: صنع الله إبراهيم، أمريكانللي (أمري كان لي) ،دار المستقبل العربي،القاهرة،الطبعة 1،2003،ص160-161،152
[11] . صنع الله إبراهيم، أمريكانللي (أمري كان لي)،ص466
[12] . العالم،ثلاثية الرفض والهزيمة:دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم تلك الرائحة نجمة أغسطس اللجنة،ص119
[13] . الباردي،الرواية العربية والحداثة،ص144
[14] . محمد بدوي، الرواية الجديدة في مصر: دراسة في التشكيل والإيديولوجيا ، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت ،الطبعة الأولى ،1993، ص168
تعليق