من خلف الستار
المهام العظيمة التي يجب على (عم هاني) أن يؤديها للبشرية غداً عليها أن تنتظر قليلاً.
جسده لا يعترف بشيخوخة تفصل بابهامها كهرباء الرغبة.
عارياً كطفلٍ يحبو يستقبل بأنينه حافة المساء.
بعشرين امرأة يتقافزن فوق أصابعه يرفع بهن الغطاء، يندسُّ تحته، رأسه ورجلاه في موضعٍ واحد، يمس بظهره قوس العالم، يتربع فوقه، ويعلن عن شهوته، يتصفحها ببطء شديد صفحة صفحة كصحيفة من دخان.
الدخان بطبعه انتهازي بإحكام.
ينتهز الدخان لحظات تثاؤبه ويغمض عينه مع عينيه، ينام في مساماته، يشاطره هذيانه، ويتناول معه أرز أحلامه البائتة..
المرأة التي تخبئ في ثوبها سبعاً وستون سنة من النساء غالباً ما تنسى جسدها في جسده.
وحده والسرير عاريان، معلقٌ معها في القاع، يتفلى بجمرٍ لا يشبع، الغطاء من فوقه لا يثبت على حال. ينزاح جانباً، ترتطم يداه بكرسي موضوع بجوار فراشه تجلس عليه أشياؤه العظيمة التي تنتظره من أجل عيون البشرية. الكرسي يحدق برهبة.
يعتصر (عم هاني) ألم الارتطام في داخله، يمد لسانا جهة المرأة التي تختصر سنين وحدته، يسبح في ما يسيل له اللعاب في جسدها الذي يجيد لعبة الانحناء.
نظيفاً ومحفوفاً ونافراً يستأسد الزائد منه من الأطراف، يمزق عرينه ويرميه عميقاً في بحيرات الانزلاق.
عشرون امرأة وأخرى تختصر كل النساء يعجزن عن غسل أنينه، فيخرجن من تحت غطائه الخشن يائسات..
يتقلب بفمه الكبير الذي يبتلع نصف وجهه، يقضم ثلث ابتسامته عندما تخرج نسائه من رماد فراشه. الفراش العاجز عن استدعاء امرأة حقيقية تمضغ بلا كلل أهوال العالم بفم واحد، وتفج رأسه بفأسٍ رفيع في الربع الأخير من كل ليل، وترسم في أحلامه صورة لا تشبهها، ثم تنتظر واضعة يدها على خدها كي يحضر ويتبختر كفارسٍ عربي في صالة قدومها.
امرأة حقيقية لديها معملاً لتفريخ البيض المسلوق على نار العشق.
امرأة تكمن زينتها في داخلها، وتدرك أن الجمال هو ما تقبله الحواس وترضى عنه.
تهش عن حنجرته النمل الأبيض، تطلق ضفادعها حرة فوق سرته، وتذيب بحرارتها جليد الهذيان.
امرأة تشبه (رميساء) عندما كانت قبل نصف قرن من الزمان، أحلامها هي أحلامه، وكوابيسها ليست بكوابيسه، تصحو عندما ينام، وتنام عندما يصحو..
أبحر (عم هاني) في محيط أمنياته، وكاد أن يغرق وهو يتطلع لامرأة كونية تحترق في آخر كل ليل فوق تلٍ من الحطب، ولا تواجهه في الصباح الباكر بفواتير الكهرباء والماء والنفايات، ولا تعكر مزاجه بقائمة طويلة ترهق جيبه، وتأكل سنين عمره.
امرأة تعرف متى تتكلم ومتى تصمت، ولا تكف عن الابتسام.
سبع وستون سنة لم يجد فيها من يهبها شرف الوقوف بجوارها جوار المأذون..
مدخلها مدخل ضيق، حيطانها طين أخضر يابس ملطخ من الخارج بمخلفات البعير. نافذة رطبة وحيدة من خشب متآكل، باب حديدي مستطيل تنغرز حافة قاعدته بين ذرات التراب، ثابت في مكانه منذ أكثر من نصف قرن، ليس مفتوحاً على آخره تمام الانفتاح، ولا منغلقاً كل الانغلاق. سرير يتيم لا يحزن على والده يحاذي الأرض كأنه يريد أن يحتمي بحضنها إلى الأبد من جسده الغارق في ثبات عميق..
السحب تلملم أحزانها في الخارج، تعقد اجتماعاً طارئاً، وتعلن عن حضورها ببكاء كالسيل.
زخات المطر تدق بحماس على سقف الغرفة المعروشة بسيقان أشجارٍ انقرضت منذ زمن طويل. القش المستلقي على الساق يبتل حد الارتواء.
قطرات متمردة من ماء السماء تفتتح بلا تحية احتفالية الهطول. ومضات البرق تتسرب عبر الشقوق. الغطاء يشهر تمرده من فوق جسده، ويكتفي بتغطية ثلث جسده السفلي العاري. فمه الكبير لا يكف عن الشخير، يفتحه على مصراعيه جهة السقف. قطرات من الماء البارد تتسلل عبر القش وتنزلق عبر جسر لسانه وتستقر في قاع الفم، يمتلئ الفم بماء المطر، الماء يكتم نفس الشخير. يتكئ على ساعده الأيمن، وجزء من مؤخرة رأسه، يدحرج جسده جهة اليمين. يعود الشخير أكثر قوة من هدير السماء. الوسادة تتدلى كعنق مناضل شنق للتو، يلامس طرفها الآخر أرضية الغرفة، تبتل بالماء، يختلط اللعاب بماء الطين. النافذة الوحيدة تنزع مخالبها من جوف الجدار، تسقط كبركان ساخط بالقرب من رأسه. يهتز الباب الواقف في مكانه بحياد، لا يريد أن ينفتح على مصراعيه، ولا يريد أن ينغلق على نفسه. الماء كسيل جارف ينخر في الجدران من الخارج. الناموس يفخر بابتهاجه ويطلق شحنة كاملة من الزغاريد. السحب تجمع ثغراتها وتختفي..
شعاع شمسي جرئ يغزو فمه المتثائب. يفتح عينيه كمن يرى لأول مرة تفاصيل الأشياء. كتيبة كاملة ومجهزة بآلياتها من الذباب تحاصره، تحمر أوداجه وتنتفخ ككرة يد صنعت خصيصاً لمباريات كأس العالم هذا العام. يرسل نظرات تائهة في كل الجهات، يكتشف أنه كان مستلقياً في الفراغ منذ البارحة. تلال من الطين القذر تملأ مساحة منزله. ماء المطر راكداً في مكانه كأنه نسى سمة الجريان. الباب ليس في مكانه، والنافذة تضحك أسفل أذنيه. الكرسي الذي عليه أشياؤه الموعودة بها البشرية منكفئاً على بطنه. الحذاء يروى ظمأه ويسبح خارج المكان. المرأة التي تختصر في رائحتها كل نساء الأرض ترفع في وجهه جوازاً للخروج..
كمقبرة فرعونية يتحرك (عم هاني) من مكانه، يربت على سطح خزانة من الصفيح. بيد واحدة يرفع غطاءها لأعلى، ينحني ويدخل نصفه في داخلها، يستقيم بقامته ويغلق الغطاء. يضع بزاوية شبه منفرجة فم الوعاء الذي يحوي في بطنه المعجون على فرشاة أسنانه، يضغط على الوعاء بأصابعه العشرة. بضع حبيبات جافة بلونيها الأبيض والأحمر تسقط مجبرة على أسنان فرشاته المتآكلة. يدخل مقدمة الفرشاة في فمه الكبير، يمررها فوق وتحت لسانه، يحكُّ أسنانه كمن يمرر مكواة فحم قديمة على قطعة قماش من الصوف، تتقرح لثته العليا، ويبصق على الأرض سائلاً له رائحة كرائحة الدماء. يرفع رأسه جهة السماء، يمسح دمعة هاربة من مكانها قبل أن تستقر في جيبه الأمامي. يتذكر (رميساء) المرأة العجوز الوحيده مثله، وبيتها الآيل للسقوط. يحدق في قدميه، يهمس لنفسه بصوت مسموع ويردد..
- "لن تعترف (رميساء) إلا (بحنظلة) شاهداً على فجيعتها مناصفة مع (الشيخ إمام)، وعليها أن تجعلني شريكاً ثالثاً"..
جدران المنازل المحيطة بمنزله تسبح في الشوارع، والشوارع تسبح في بركة مياه آسنة. ينسل عبر باب منزله الخارجي، يضع أولى خطواته خارج العتبة، يبتسم لصباح الشوارع المشرق بقلب أسود. مصعوق هذا الشارع باحمرار الجفون التي تحدق فيه بلا رحمة. ترك الناس بيوتهم العائمة وتراكموا كأغصان صغيرة في العراء، والتفوا جماعات جماعات، يرسمون بأكواعهم مثلثات متساوية الأضلاع مع خصورهم الضامرة. يشعر (عم هاني) بصمتهم المخيف، القاتل، الكامن بين عين وعين، وبين شباك وشباك. يعدو على تراب زلق خوفاً منهم. تذكر بأنه ليس لديه خرقة حمراء اللون تحميه إذا ما جر أحدهم الغضب الكامن في الصدور كثور إسباني. الناس المجتمعة هنا وهناك مازالت تنظر إليه من خلف ضباب سميك، وكأنه نكرة تنتمي لطبقة أخرى غير طبقات هذه الأرض الطينية.
فتيات جميلات في عمر الزهور بلا غطاء يغطي رؤوسهن، يرمين في غضب ظاهر مكانس من القش تحت رجليه، يرفعن لافتات كتبت على عجل. تتقدم أكثرهن غضباً ورقة، تبصق على الماء الراكد في وجه الأرض، وتدفع ناحيته كلمات نافرة..
- كيف لنا أيها المسكين، والوحيد أن نكنس الماء والبعوض، ولا غبار اليوم كما ترى سوى غباركم، لماذا لا تذهب وتقود حياة سيدك، كما تقود له سيارته؟
وكأنه سقط في بركة من العمى المفاجئ فاجأته أخرى بقذيفة لم تكن في حسبانه..
- لماذا يا أستاذ (هاني) لا يمنحك سيدك بعد كل بذور الإخلاص التي زرعتها تحت أقدامه، امرأة لديها كرسي متحرك لأعلى، علّك وأنت في خريف العمر تكف عن التلهي بأعضائك عندما تنام تحت غطائك في آخر كل ليل، ألا تريد أن ترى سطح الحياة أيها العجوز؟
يتحسس (عم هاني) أطرافه الخاصة خلسة، ينتابه إحساس بأمان مؤقت، وأن كل شئ في مكانه.
عبر إضاءة ذهنية شاردة تذكر كرسيه القابع جوار فراشه، وكيف أنه يحوي مهام عظيمة سيؤديها سيده المسؤول الكبير للبشرية، ذلك السيد الذي جعل منه سائقاً خاصاً.
وكمن اكتشف عنصراً كيميائياً جديداً يضيفه للجدول الدوري تذكر بأن مهنته بالفعل سائق لسيارة سيده المسؤول، ولكن في العلن فقط، ومدرساً خصوصياً لأولاده في السر، وكاتباً ومنسقاً لأفكاره في قلب السر.
لماذا لا تتعلم هذه البشرية الصبر، وتكف عن مضائقته وكأنه هو الذي تسبب في كل هذا الخراب..!.
أقل من ساعة ويحدد سيده مصائر الناس.
بنود الاجتماع التاريخي للمسؤول مع الناس، وتفاصيل وعوده الجاذبة لتغيير حياتهم للأفضل كلها معه. الملف الذي سيحدث منعطفاً في حياة البشرية راقداً الآن في ذاك الكرسي القريب من فراشه..
يصيبه الارتباك في مقتل..
(رميساء) تنتظره بشعيراتها البيضاء المتفرقة فوق فروة رأسها، وجسدها المتماسك رغم ضربات الزمن المؤلمة. لا شك أن المياه ابتلعت أغراضها الصغيرة، ولا معين لها سواه. ابتسم وهو يتخيل أن سيده المسؤول عن سعادة البشرية ينظر في هذا الوقت في ساعته بتأفف، ويتوعده بشر عظيم على هذا التأخر.
الكتل البشرية المبعثرة على طول الشارع العام تزحف نحوه. الأصوات تتداخل، وتسخر منه..
- "(هاني) العجوز..
(هاني) الوحيد..
(هاني) المعزول..
(هاني) الكاتب..
لماذا لا يرمي علينا سيدك (التورتة) من شرفته؟
..هم..م..م..هم..، ما أطيب ابتسامات السائق المغمورة في طست الغسيل"..
يفلح ويهرب من الكتل البشرية التي تلاحقه بالاستهزاء، والسخرية منه ومن سيده الذي يأتمنه على كل شئ. يقرر بينه وبين نفسه أن يؤجل موعده مع سيده المنتخب حتى يتفقد أحوال صديقته العجوز، وعلى خطاب سعادة المسؤول العظيم الذي سينقذ البشرية من كل الشرور عليه أن ينتظر قليلاً.
يقترب من منزل (رميساء)...
المكان كأنه لا ينتمي للمكان، الحيطان غير الحيطان، الأثاثات متماسكة ومغسولة، الستائر ناعمة ونظيفة وتعرض دون حياء مفاتنها لعيون الشمس. الأرض لامعة ومستوية كأنها تم قياسها بمسطرة. هواء بارد ومنعش يداعب المسامات من كل جهة، الكتب، المجلات، المجلدات، الصحف، جميعها وضعت بعناية وفق الترتيب الأبجدي. كيف تبدل الحال بين يوم وليلة ؟..
يسن حنجرته، يمارس احماءة بسيطة، ثم يصرخ بأعلى صوته منادياً:
(رميساء)..(رميساء)..(رميساء)..
لا شئ سوى الصدى يعيد ذات النداء. الغرف تبدلت، هدمت ثم بنيت من جديد. الأثاثات جديدة ومستوردة من الخارج. الأبواب مفتوحة على مصراعيها، عدا غرفة واحدة في ركن قصي مغلقة من الداخل. يدير مقبض الباب بحذر، لم يصدق ما يراه. ذابلة حد الموت، منكفئة (رميساء) على بطنها. سيده الذي يجب أن ينتظره في مكانٍ ما حتى يجلب له الخطاب التاريخي ليلقيه على البشرية لتبتهج بوعوده لتنقل حياتهم من التعاسة إلى السعادة جالساً الآن بجوارها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. السيد بغيلونه الفخم ينفخ في الفضاء دخانه..
(لرميساء) منزل ذات موقع استراتيجي خطير، جميع من يسكن في تلك المنطقة يعرف ذلك. ساومها فيه كل الرجال وأشباه الرجال. لم يكن لها ظل حائط حتى تتكئ عليه، ومع ذلك صممت هذه العجوز المعجزة أن لا شئ في هذه الحياة يجعلها تترك منزلها سوى الموت، فكيف لهذا السيد الذي ظل (عم هاني) يقود له سيارته عشرات السنين في ليلة واحدة ممطرة أن يقتلها ويغير ملامح المكان..
الموت وحده هو الذي يهب الخنوع، له أهازيجه، خطواته، ورتبته. كل النجوم تستلقي الآن يا (رميساء) فوق كتفيك، يا من كنت تقتسمين مع الموت تمر التسامر، وتورثيه الآن انفعالات هائجة. نامي يا امرأة ولا تدعيه يرى وجهك النير..
· لو مت
لا تدعوه يراني
غطوني
بسحابة من بنفسج
واذهبوا
لو مت
لا تدعوه
يرى روحي
دخاناً
في وحدة الغرفة
وكأنه خارج للتو من حظائر النسيان، شعر (عم هاني) بأن هذا الليل حزين، ولن ينتظر ليلاً سواه غداً، وأن الرغبة التي تلح عليه في أن يدفن سيده في هذه الغرفة إلى الأبد تسيطر عليه. تلاشى ذعر المسافات بينه وبين سيده، وقرر كما لم يقرر من قبل في حياته أن لا أحد سوف يبصق فوق قبر هذا المتسلط سواه.
....................
· لو مت
نص شعري
للشاعرة لينا الطيبي
تعليق