غرام يحتضر
بشير - النسمة المغتربة
في اللحظة الآنية
رغد هي حبيبة قلبي، وابنة عمي، ومراد عمري. أحبها أكثر مما أحب نفسي. ألغيت الحب في قلبي لجميع البشر لكي تكون هي صاحبة قلبي. أنانيتي في الغرام أضعفتنا، وأبعدتنا. كنت أغار من حبها لأي شيء غيري. كانت غيرتي هي أساس المشاكل المتكررة التي دارت بيننا. كنت أجرحها بالقول حتى أرى وجهها يبهت من الحزن. ما ظننت يوماً أنني قد أعيي صبرها، وأسقم صدرها. ما بالي أظن أن غضب المحبوبة لا يدوم؟ فحتى قلب الأم يقسو على ولدها إن عقها، ولكن الأم الرؤوم تغفر، أما الحبيبة المجروحة قد لا تغفر أبداً!
كنت مدللا. زرع والدي في قلبي الكبر. "أنت بشير السيد، أنت خير شباب رام الله، وسيم ومتعلم ومن أسرة غنية. لك أن تحصل على كل شيء وأي شيء. نحن أبناء السيد نسود ولا نساد." أي كلام فارغ هذا، أهذا منطق يتربى الأبناء عليه؟ كانت رغد تضحك كلما اعتززت أمامها بأنني إبن السيد وتقول:"إيش كبّرك عني، وإنت إبن عمي."
يقول والدي أنه منحها ووالدتها ما يزيد عن حصيلة إرثهما شفقة منه عليهما ووصلاً لرحمهما، أسكنهما بيت العائلة بعد وفاة عمي "مريد". كان يردد دائماً أنه هو من ينفق عليهما ويرعاهما، ولكنه كان منصرفاً في جمع المال وقلّما كان يسأل عن أخبارهما بعد وفاة رب أسرتهما، لم أسمع منهما شكوىً أو انتقاداً لمزاعم أبي حتى شارفت على تصديق ما يقول.
كان أبي حسوداً وطماعاً لم يغفر لأخيه زواجه من امرأة تقدم هو لخطبتها أولاً فرفضته. كنت أنا أول ضحية لزواج متسرع، في محاولة من أبي للتهرب من غيرة دمرت أخوة ومحبة صادقة. أنا لا أعرف شيئاً عن أمي سوى أنها من لبنان وأنها ماتت في الحرب الأهلية اللبنانية هي وكامل أسرتها. فصرت يتيما تربيني زوجة أب مقهورة من عِشرة رجل لا يحبها، ولا يحب سوى نفسه. حاولت أن تنجب له صبياً لتفوز بحبه. إلا أنها أنجبت ستّ بنات. فظلت لي مكانتي عند أبي كوني ولده الوحيد.
صممت على كره زوجة أبي -رغم أنني اليوم أعذرها بل وأشفق عليها- وعلى إثر ذلك لم يتسنَّ لي التقرب من أخواتي البنات. ازدادت أنانيتي، وصار شعوري باليتم والإهمال غذاءً لعشق ذاتي وكره من حولي حتى أحببت رغد..كانت هي منقذتي من التحول إلى نسخة محدثة لوالدي.
عندما رأيتها لأول مرة كانت قد جاءت من عمّان في زيارة. كنا في الرابع الإبتدائي، ولم نتجاوز العشر سنوات من العمر. كان أبوها سقيما يصارع مرض السرطان، أراد الموت في أحضان الأسرة، ورأب الصدع بينه وبين أخيه الذي قاطعه منذ أكثر من عقد. كان عمي حنوناً ومعطاءَ. كان يضمني إلى صدره وكأنني ابنه. لا أذكر حناناً استقيته من غير حضنه.
تربيت على أن دموع الرجال انتكاس وذل، آلمني بكاء عمي على قبر والديه. فسألت أبي: "كيف يبكي عمي مريد أليس هو برجل أيضاً؟" فأجاب:"لو كان رجلاً لما فضل امرأة على أخيه وأبويه." لم يعترف والدي يوماً، أن ما حسّر قلب جديّ لم يكن حب مريد لحنان، بل ما قتلهما هو حب مراد لنفسه.
جمعني ورغد اليتم والحسرة في السنوات التي تلت وفاة والدها. لم يكن قد تبقى لها ولأمها من الإرث سوى القليل. فعملت أمها ليلاً ونهاراً ما بين التدريس والترجمة ومنح الدروس الخصوصية. وبدأت أشعر وأنا في بداية المراهقة بحاجتي لرؤية ابنة عمي الوحيدة كل يوم. حتى أدركت حبي لها، فاعترفت لها بمشاعري وكنت في الخامسة عشرة. فردت ببراءة "ولكننا ما زلنا أطفالاً!" فأجبتها وقد عميت عيني عن المفارقة الساخرة لإجابتي:"بل نحن في نفس سن روميو وجولييت، هل تعلمين أنهما كانا مراهقين؟" فأجابت: "يا لطيف! إنت عبيط يابني، أهكذا تقنعني؟ بقصة حب تنتهي بالانتحار؟ لو كانا أكبر سنّا لما هلكا!" فسألتها: "أتظنين أنهما كانا سيستغنيان عن بعضهما لو كان لهما في الحياة باع أطول؟" وعندها قالت: "ربما، وربما وجدا حلاَّ أفضل من الموت."... "وما هو؟" .... "البقاء والقتال"...
بعد تلك الفترة بقليل، عادت رغد إلى عمّان مع والدتها، بعد أن تزوجت أمها للمرة الثانية من رجل ميسور الحال. لم تستمر الرسائل بيننا لأكثر من بضعة أشهر، حتى أصابنا الملل. وبدأ تفكيرنا بالنضوج. كلانا أحس أن مشاعرنا لم تكن تزيد عن مشاعر مراهقة أقنعتنا بالقرب من بعضنا. ومرت أربعة سنوات إلى حين التقينا ثانية في جامعة بير زيت، كانت أم رغد حينها قد توفيت بنفس مرض أبيها، سرطان العظام، ولحق بها زوجها الثاني الذي داهمته سكتة قلبية وهو ما زال في حداد على زوجته...
آه يا رغد! كلما تذكرت سجالات حبنا ندمت على بعدي عنك، إغفري لي ذنبي، وتقبليني كما أنا عنيد، وعبيط!
غرامي حزين، خجول، مذبذب...
من الهجر والبعد صار مقلّب
فتارةْ تراني سعيد بهمي
وتارةَ أهجر كي أتعذب
أريد الجوى والهوى والنواح
ويكرهني النوم والإرتياح
فإن أثقلت رأسي المسكرات
همت هموميَ بالإجتياح
فلا السكر ينسيني ثقل دموعي
ولا الليل يسعى إلى الإصطباح
فكيف أمحوكِ يا معصياتي
وقد وُشم الحرق فوق الجراح؟
بشير - النسمة المغتربة
في اللحظة الآنية
رغد هي حبيبة قلبي، وابنة عمي، ومراد عمري. أحبها أكثر مما أحب نفسي. ألغيت الحب في قلبي لجميع البشر لكي تكون هي صاحبة قلبي. أنانيتي في الغرام أضعفتنا، وأبعدتنا. كنت أغار من حبها لأي شيء غيري. كانت غيرتي هي أساس المشاكل المتكررة التي دارت بيننا. كنت أجرحها بالقول حتى أرى وجهها يبهت من الحزن. ما ظننت يوماً أنني قد أعيي صبرها، وأسقم صدرها. ما بالي أظن أن غضب المحبوبة لا يدوم؟ فحتى قلب الأم يقسو على ولدها إن عقها، ولكن الأم الرؤوم تغفر، أما الحبيبة المجروحة قد لا تغفر أبداً!
كنت مدللا. زرع والدي في قلبي الكبر. "أنت بشير السيد، أنت خير شباب رام الله، وسيم ومتعلم ومن أسرة غنية. لك أن تحصل على كل شيء وأي شيء. نحن أبناء السيد نسود ولا نساد." أي كلام فارغ هذا، أهذا منطق يتربى الأبناء عليه؟ كانت رغد تضحك كلما اعتززت أمامها بأنني إبن السيد وتقول:"إيش كبّرك عني، وإنت إبن عمي."
يقول والدي أنه منحها ووالدتها ما يزيد عن حصيلة إرثهما شفقة منه عليهما ووصلاً لرحمهما، أسكنهما بيت العائلة بعد وفاة عمي "مريد". كان يردد دائماً أنه هو من ينفق عليهما ويرعاهما، ولكنه كان منصرفاً في جمع المال وقلّما كان يسأل عن أخبارهما بعد وفاة رب أسرتهما، لم أسمع منهما شكوىً أو انتقاداً لمزاعم أبي حتى شارفت على تصديق ما يقول.
كان أبي حسوداً وطماعاً لم يغفر لأخيه زواجه من امرأة تقدم هو لخطبتها أولاً فرفضته. كنت أنا أول ضحية لزواج متسرع، في محاولة من أبي للتهرب من غيرة دمرت أخوة ومحبة صادقة. أنا لا أعرف شيئاً عن أمي سوى أنها من لبنان وأنها ماتت في الحرب الأهلية اللبنانية هي وكامل أسرتها. فصرت يتيما تربيني زوجة أب مقهورة من عِشرة رجل لا يحبها، ولا يحب سوى نفسه. حاولت أن تنجب له صبياً لتفوز بحبه. إلا أنها أنجبت ستّ بنات. فظلت لي مكانتي عند أبي كوني ولده الوحيد.
صممت على كره زوجة أبي -رغم أنني اليوم أعذرها بل وأشفق عليها- وعلى إثر ذلك لم يتسنَّ لي التقرب من أخواتي البنات. ازدادت أنانيتي، وصار شعوري باليتم والإهمال غذاءً لعشق ذاتي وكره من حولي حتى أحببت رغد..كانت هي منقذتي من التحول إلى نسخة محدثة لوالدي.
عندما رأيتها لأول مرة كانت قد جاءت من عمّان في زيارة. كنا في الرابع الإبتدائي، ولم نتجاوز العشر سنوات من العمر. كان أبوها سقيما يصارع مرض السرطان، أراد الموت في أحضان الأسرة، ورأب الصدع بينه وبين أخيه الذي قاطعه منذ أكثر من عقد. كان عمي حنوناً ومعطاءَ. كان يضمني إلى صدره وكأنني ابنه. لا أذكر حناناً استقيته من غير حضنه.
تربيت على أن دموع الرجال انتكاس وذل، آلمني بكاء عمي على قبر والديه. فسألت أبي: "كيف يبكي عمي مريد أليس هو برجل أيضاً؟" فأجاب:"لو كان رجلاً لما فضل امرأة على أخيه وأبويه." لم يعترف والدي يوماً، أن ما حسّر قلب جديّ لم يكن حب مريد لحنان، بل ما قتلهما هو حب مراد لنفسه.
جمعني ورغد اليتم والحسرة في السنوات التي تلت وفاة والدها. لم يكن قد تبقى لها ولأمها من الإرث سوى القليل. فعملت أمها ليلاً ونهاراً ما بين التدريس والترجمة ومنح الدروس الخصوصية. وبدأت أشعر وأنا في بداية المراهقة بحاجتي لرؤية ابنة عمي الوحيدة كل يوم. حتى أدركت حبي لها، فاعترفت لها بمشاعري وكنت في الخامسة عشرة. فردت ببراءة "ولكننا ما زلنا أطفالاً!" فأجبتها وقد عميت عيني عن المفارقة الساخرة لإجابتي:"بل نحن في نفس سن روميو وجولييت، هل تعلمين أنهما كانا مراهقين؟" فأجابت: "يا لطيف! إنت عبيط يابني، أهكذا تقنعني؟ بقصة حب تنتهي بالانتحار؟ لو كانا أكبر سنّا لما هلكا!" فسألتها: "أتظنين أنهما كانا سيستغنيان عن بعضهما لو كان لهما في الحياة باع أطول؟" وعندها قالت: "ربما، وربما وجدا حلاَّ أفضل من الموت."... "وما هو؟" .... "البقاء والقتال"...
بعد تلك الفترة بقليل، عادت رغد إلى عمّان مع والدتها، بعد أن تزوجت أمها للمرة الثانية من رجل ميسور الحال. لم تستمر الرسائل بيننا لأكثر من بضعة أشهر، حتى أصابنا الملل. وبدأ تفكيرنا بالنضوج. كلانا أحس أن مشاعرنا لم تكن تزيد عن مشاعر مراهقة أقنعتنا بالقرب من بعضنا. ومرت أربعة سنوات إلى حين التقينا ثانية في جامعة بير زيت، كانت أم رغد حينها قد توفيت بنفس مرض أبيها، سرطان العظام، ولحق بها زوجها الثاني الذي داهمته سكتة قلبية وهو ما زال في حداد على زوجته...
آه يا رغد! كلما تذكرت سجالات حبنا ندمت على بعدي عنك، إغفري لي ذنبي، وتقبليني كما أنا عنيد، وعبيط!
غرامي حزين، خجول، مذبذب...
من الهجر والبعد صار مقلّب
فتارةْ تراني سعيد بهمي
وتارةَ أهجر كي أتعذب
أريد الجوى والهوى والنواح
ويكرهني النوم والإرتياح
فإن أثقلت رأسي المسكرات
همت هموميَ بالإجتياح
فلا السكر ينسيني ثقل دموعي
ولا الليل يسعى إلى الإصطباح
فكيف أمحوكِ يا معصياتي
وقد وُشم الحرق فوق الجراح؟
بشير مراد السيد‴‴
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞
۩۩ رام الله، 1996، عادت رغد إلى أرض فلسطين بعد أن قضت أمها إثر نزاع طويل مع المرض، وتوارى زوج أمها تحت الثرى حزنا وألما على الفراق، فتركاها ومعها شريكة في اليتم وهي أختها الصغيرة أغاريد. وجدهما الناس سيرة خصبة للحديث فهما بنات حنان ذات النحس، فلقبت الفتاتين بالنحاسات بتشديد الحاء ومن ثم بتسكين النون، ليصبح الاسم نسبة إلى لون شعرهما النحاسي.
جلس مريد السيد في غرفة مجلسه، ينتظر وصول الفتاتين مع السائق الذي ذهب لاستقبالهما على جسر أريحا، كان يفكر في ماض لن يعود، وأخ راحل وفتاة يتيمة تشبه أمها الجميلة، وشباب منصرم، وقلب مولوع مضّرِم. كان في نزاع مع نفسه، فهو يشتاق لأخيه الراحل مريد، ويندم على مقاطعته له سنين طوال. ولم الندم وقد فات الأوان عليه. يسائل نفسه عن قراراته الماضية، أراد المال والجاه والقوة، وباع الصداقة والحب والأخوة. هو كمن جعل ماله وأولاده أعداءه. يقول في نفسه دوماً لم يفت الأوان ما دمت ممهلاً، ويخشى من نفاذ المهلة في وهلة، ليودع أحباءه وأهله، ويرحل إلى دار لا صاحبة فيها ولا ونيس.
هو مريد السيد، إبن الرجل الصالح والمعلم القدير، هو ابن الأصل والعلم، لا يصح أن يهدر تربية والديه الصالحين، رحمهما الله، كم دعوة إلى السماء انطلقت من قلبيهما ليصلح الله حاله، فيصحو ضميره، ولكن بلا جدوى فالله يهدي من يشاء.
دخلت رغد إلى المجلس وهي تمسك بيد أغاريد، ألقت التحية، واقتربت من عمها فقبلته على خده. فهي لا تعرف جبروته وقسوته، فهي النقية الصافية، التي ترى الخير في كل الناس، قبلت عمها، أخ أبيها، وحضنته بمودة، وسالت دموع من مقلتيها، فما كان منه إلا أن ربت على كتفها, وأوعز لها بالجلوس، وقال :" إمسحي دموعك يا بنتي، إن شاء الله، ما بتشوفي هم طول وأنا حي." حاول أن يكون رغم تجلده وتصلب ملامحه عطوفاً بكلماته وعزائه. طمأنها وأكد لها بأنها ستكون في أمان، فهي رغد السيد، وأبناء السيد لا يضامون طالما مريد السيد حي يرزق. وبعد حديث مقتضب نادى مراد السيد على ولده بصوت جهوري يهز قاع الدار:"بشير... يا بشير"
-"أمرك يابا."
-"تعال فسلم على بنت عمك وأختها أغاريد، وعزيهما في الوالدة ووالد أغاريد."
كان قد مر خمس سنوات على رؤية بشير لابنة عمه، ولكنه ما أن سمع اسمها حتى شعر برجفة في أوصاله، وكأن العشق تشقشق بين مسامه من جديد. تقدم إلى حيث هما بحماس واقترب من رغد ليرى إن كانت على جمالها المعهود. ولكنها كانت شاحبة، تربط شعرها، وترتدى ثياباً سوداء، وعيناها غائرتان من كثرة البكاء وليس فيهما اشتياق أو مشاعر، حضنت أختها التي كانت في الرابعة من العمر بكل قوة كلبؤة تحمي صغيرها من أبناء آوى. مد بشير يده قائلا: "البقاء لله." فأجابته مصافحة: "لا إله إلا الله."
مريد السيد: "يا بشير، ابنة عمك وأختها أمانة لن نفرط فيها، أصحبهما إلى جناحهما، وقم على احتياجاتهما، فهما اليوم أختين لك، فارعاهما بما يرضي الله."
دخلت زوجة مريد إلى القاعة معترضة بصوت لا خجل فيه ولا استحياء:" تريد أن تسكن ابنة المنحوسة حنان في بيتي، هل تريد أن تذكرك بحبيبة القلب التي فضلت أخاك عليك؟"
احتنق وجه مريد غضباً وصرخ مهدداً ومتوعداً. فاجتمع أهل المنزل وعلت الأصوات في البيت ما بين التهديد والتهدئة غير آبهين بحزن رغد وحسرتها. فبكت أغاريد انزعاجا وخوفا من تلك المشادات الشرسة. حملت رغد أختها وخرجت من القاعة ومن ثم البيت دون أن يشعر بهما أحد، حتى انتبه بشير. وعندما لحق بهما إلى باب المنزل الضخم كانا قد قطعا مسافة لا بأس بها في الشارع.
صار يركض وينادي، وعندما انتبهت رغد، أدارت وجهها ناحيته، فرأته في قميصه الأزرق السماوي يلحق بهما وفي وجهه لهفة وشوق. انتبهت لوسامة محياه وانتفض فيها شعور لم تألفه من قبل. وكأن قلبها يهبط من بين الضلوع فيخطف أنفاسها قبل أن تزفر بها... تسارعت شهقاتها وضربات قلبها، وعندما وصل إليها أمسك بيدها وقال: "إلى أين يا رغد؟ هل لك غيرنا؟"
- "لي الله."
-"ونعم بالله، سأفتح لك بيت العائلة، خير لك ولأغاريد من العيش في بيتنا، الكل فيه يكره الآخر، أكاد لا أطيق البقاء فيه"
-"هؤلاء أهلك، أنت في نعمة لا تدركها."
أحاطها بشير بذراعه مبتسماً حاثاً خطاها على التقدم وقائلاً: "يا ابنة العم، مشكلتي أنني أدرك تلك النعمة لحد يفوق الإدراك."
وقع لفظ "ابنة عمي" في صدرها وكأنه لفظ النجاة، شعرت بالقرب من ذلك الشاب، الذي لم يعد مراهقاً ولا طفلاً، صار رجلاً يحميها من المخاطر، ويحنو عليها ويحيطها بكل قوة.
انتسبت رغد لكلية الآداب في جامعة بير زيت، وانصرفت لدراسة اللغات، بينما كان بشير طالباً في كلية التجارة وإدارة الأعمال. وفي تلك الأيام كانت أحلى الذكريات والألاعيب والتكتيكات. لم يكن سهلاً على رغد أن تعشق ابن عمها الذي كبر عن حبها وصار يعاملها كأخت له، كانت تغار من ملاحقة الفتيات له. وتخشى أن يقع في حب غيرها، ظلت تحاول إثارة انتباهه بكل الوسائل. وكان هو منشغلاً بحياة ملئها الترف والفتيات والرحلات والموسيقى.
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞
يتبع ....
جلس مريد السيد في غرفة مجلسه، ينتظر وصول الفتاتين مع السائق الذي ذهب لاستقبالهما على جسر أريحا، كان يفكر في ماض لن يعود، وأخ راحل وفتاة يتيمة تشبه أمها الجميلة، وشباب منصرم، وقلب مولوع مضّرِم. كان في نزاع مع نفسه، فهو يشتاق لأخيه الراحل مريد، ويندم على مقاطعته له سنين طوال. ولم الندم وقد فات الأوان عليه. يسائل نفسه عن قراراته الماضية، أراد المال والجاه والقوة، وباع الصداقة والحب والأخوة. هو كمن جعل ماله وأولاده أعداءه. يقول في نفسه دوماً لم يفت الأوان ما دمت ممهلاً، ويخشى من نفاذ المهلة في وهلة، ليودع أحباءه وأهله، ويرحل إلى دار لا صاحبة فيها ولا ونيس.
هو مريد السيد، إبن الرجل الصالح والمعلم القدير، هو ابن الأصل والعلم، لا يصح أن يهدر تربية والديه الصالحين، رحمهما الله، كم دعوة إلى السماء انطلقت من قلبيهما ليصلح الله حاله، فيصحو ضميره، ولكن بلا جدوى فالله يهدي من يشاء.
دخلت رغد إلى المجلس وهي تمسك بيد أغاريد، ألقت التحية، واقتربت من عمها فقبلته على خده. فهي لا تعرف جبروته وقسوته، فهي النقية الصافية، التي ترى الخير في كل الناس، قبلت عمها، أخ أبيها، وحضنته بمودة، وسالت دموع من مقلتيها، فما كان منه إلا أن ربت على كتفها, وأوعز لها بالجلوس، وقال :" إمسحي دموعك يا بنتي، إن شاء الله، ما بتشوفي هم طول وأنا حي." حاول أن يكون رغم تجلده وتصلب ملامحه عطوفاً بكلماته وعزائه. طمأنها وأكد لها بأنها ستكون في أمان، فهي رغد السيد، وأبناء السيد لا يضامون طالما مريد السيد حي يرزق. وبعد حديث مقتضب نادى مراد السيد على ولده بصوت جهوري يهز قاع الدار:"بشير... يا بشير"
-"أمرك يابا."
-"تعال فسلم على بنت عمك وأختها أغاريد، وعزيهما في الوالدة ووالد أغاريد."
كان قد مر خمس سنوات على رؤية بشير لابنة عمه، ولكنه ما أن سمع اسمها حتى شعر برجفة في أوصاله، وكأن العشق تشقشق بين مسامه من جديد. تقدم إلى حيث هما بحماس واقترب من رغد ليرى إن كانت على جمالها المعهود. ولكنها كانت شاحبة، تربط شعرها، وترتدى ثياباً سوداء، وعيناها غائرتان من كثرة البكاء وليس فيهما اشتياق أو مشاعر، حضنت أختها التي كانت في الرابعة من العمر بكل قوة كلبؤة تحمي صغيرها من أبناء آوى. مد بشير يده قائلا: "البقاء لله." فأجابته مصافحة: "لا إله إلا الله."
مريد السيد: "يا بشير، ابنة عمك وأختها أمانة لن نفرط فيها، أصحبهما إلى جناحهما، وقم على احتياجاتهما، فهما اليوم أختين لك، فارعاهما بما يرضي الله."
دخلت زوجة مريد إلى القاعة معترضة بصوت لا خجل فيه ولا استحياء:" تريد أن تسكن ابنة المنحوسة حنان في بيتي، هل تريد أن تذكرك بحبيبة القلب التي فضلت أخاك عليك؟"
احتنق وجه مريد غضباً وصرخ مهدداً ومتوعداً. فاجتمع أهل المنزل وعلت الأصوات في البيت ما بين التهديد والتهدئة غير آبهين بحزن رغد وحسرتها. فبكت أغاريد انزعاجا وخوفا من تلك المشادات الشرسة. حملت رغد أختها وخرجت من القاعة ومن ثم البيت دون أن يشعر بهما أحد، حتى انتبه بشير. وعندما لحق بهما إلى باب المنزل الضخم كانا قد قطعا مسافة لا بأس بها في الشارع.
صار يركض وينادي، وعندما انتبهت رغد، أدارت وجهها ناحيته، فرأته في قميصه الأزرق السماوي يلحق بهما وفي وجهه لهفة وشوق. انتبهت لوسامة محياه وانتفض فيها شعور لم تألفه من قبل. وكأن قلبها يهبط من بين الضلوع فيخطف أنفاسها قبل أن تزفر بها... تسارعت شهقاتها وضربات قلبها، وعندما وصل إليها أمسك بيدها وقال: "إلى أين يا رغد؟ هل لك غيرنا؟"
- "لي الله."
-"ونعم بالله، سأفتح لك بيت العائلة، خير لك ولأغاريد من العيش في بيتنا، الكل فيه يكره الآخر، أكاد لا أطيق البقاء فيه"
-"هؤلاء أهلك، أنت في نعمة لا تدركها."
أحاطها بشير بذراعه مبتسماً حاثاً خطاها على التقدم وقائلاً: "يا ابنة العم، مشكلتي أنني أدرك تلك النعمة لحد يفوق الإدراك."
وقع لفظ "ابنة عمي" في صدرها وكأنه لفظ النجاة، شعرت بالقرب من ذلك الشاب، الذي لم يعد مراهقاً ولا طفلاً، صار رجلاً يحميها من المخاطر، ويحنو عليها ويحيطها بكل قوة.
انتسبت رغد لكلية الآداب في جامعة بير زيت، وانصرفت لدراسة اللغات، بينما كان بشير طالباً في كلية التجارة وإدارة الأعمال. وفي تلك الأيام كانت أحلى الذكريات والألاعيب والتكتيكات. لم يكن سهلاً على رغد أن تعشق ابن عمها الذي كبر عن حبها وصار يعاملها كأخت له، كانت تغار من ملاحقة الفتيات له. وتخشى أن يقع في حب غيرها، ظلت تحاول إثارة انتباهه بكل الوسائل. وكان هو منشغلاً بحياة ملئها الترف والفتيات والرحلات والموسيقى.
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞