احتضار الساعة العاشرة
أحاول الآن أن أعيد ترتيب ذكريات العتمة.....أن آوي إلى هذا الليل الفاضح... أن أعتاد العدم الذي صار يصاحب مواويل الّليل
كل شيء جاهز لهذا الانكسار العاطفي ... الشمع المطفأ..والورود الذابلة... القصائد المحروقة...و الحب المدفون في رسائل مزيفة
وشعري...الذي تركته مبعثرا
لم يتبق من الوقت الكثير...الدقائق تتعثر بالثواني ...اقتربت العاشرة...الساعة تطلق أصواتاً أحسبها مدافع (تك ...تك...)
منذ زمن بعيد فقدت حاسة الانتظار... لم أعتد يوما مراقبة عقارب الساعة ...أحسها تلدغني... وتتخمني بسمها الذي يدأب على خنقي ....
أخيرا...
استجمعت الساعة كل قوتها...
و أطلقت صرخة ولادة العاشرة...
لم أهرع كعادتي إلى المرآة لأطمئن على أناقتي ...
لم أمرر الإصبع الملون على شفتي ..
ولم أهد شعري يد حنان تعيد لملمته...
وقفت إلى الباب أتحرق غيظاً ...و انطفئ حباً....
وبما أنني قد حسمت أمري..لن ألقي نظرة خاطفة على حذائي الذي اعتدت اختياره بعناية فائقة....لأنه يرى فيه جزءاً أساسيا من أناقتي التي يشدد عليها
(( كنت حقاً بلهاء لأستجيب إلى هرائه و أعقد نفسي خاتما في إصبعه))
ها هو جرس الباب يعلن مقدمه... كان سابقا بالنسبة لي مقطوعة موسيقية لم يكن لبيتهوفن حتى أن يعزفها ما دامت من صنع يده....
الآن أحس بذلك النشاز الذي أشار إليه أكثر من مرة بقوله
(( علينا تغيير هذا الجرس ...إنه يصدر نشازاًً ))
لم أسرع الخطى كما كنت أفعل لأجعل كعب حذائي يرتطم بالأرض معلنا شوقه إلى أن يُرمى عليها... بل مررت قدمي يتثاقل .. إلى أن وصلت إلى الباب الخارجي الذي أراه بشعا ً... ابتلعني مرّة ... و علي ّ أن ألفظه قبل أن يفعل هو... أمسكت بقبضته .. وتشبثت بها جيّدا ً خوفا ً مما سيمرق بعدها من تفاصيل...
شددت الباب بما تبقى من قوّتي .. لينبجس به ماثلا بعبقرية تمثال حجري...
تمالكت نفسي للمرّة الأولى... و لم أرم بها في غيابات حضنه .. وبذلت جهداً مضاعفاً لخلق ابتسامة وشت بهذا الإنكار الذي أعددت نفسي إليه...
عبر ببصره على تفاصيلي .. و أظهر حركة من وجهه تعبر عن استيائه من هذا التبعثر الذي لم يعتده مني
زحف ببصره إلى شعري.. استفزه لدرجة كبيرة... أشاح بوجهه عني .. ثم أجهد نفسه في رسم ابتسامة جانبية.. و أخرج صوته ليندلق بكلماته سما يفوق عقارب الساعة قسوة:
- كيف أنت ... هل كنت نائمة ..!!!؟
قال هذا و هو يطمئن على ربطة عنقه .. وينفض غبارا ً لم يقدر له الوقوف على معطفه بعد !!...
كان الوقت قد سرق من العاشرة أولى دقائقها العشر..
معلنا بمروره بداية مراسم تشييع الشاعر...
كان الغضب يأكله ..و هذا ما مرّر بعض الفرح في نفسي.. فلم أجبه على سؤاله
اقترب مني .. ومرّر يده على شعري ... ثم دفن فتات قبلة فيه... و انتهى قائلا :
- هيا .. اذهبي وعدّلي من مظهرك .. وهلمي لنكمل السهرة .. هيا ... اذهبي.
أدرك الآن من نبرة صوته المختنقة أن غضبه قد وصل إلى درجة الغليان و ما علي ّ إلا أن أدخله إلى تلك الغرفة لينفجر
في طريقه مط رقبته كالعادة إلى المرآة .. ليباركها بصورته ( كما كان يقول...!!!)
و إذ به يفاجأ باتساخها .. لم يتمالك نفسه فانفجر صارخاً......
- ما هذا.. المرآة متسخة ... هيا .... اذهبي و نظفيها...
لم أعره أي اهتمام .... و لم أسمح لشفتيّ أن تتفرج عن أيّ كلمة...
كنت قد قررت سابقا ً بدء انتقامي بالصمت... و فوضى الأشياء الصغيرة...
ألقى نظرة على حذائي فأزعجته مقدمته العريضة... و كعبه الملتصق بالأرض لدرجة موجعة لها و لأسماع من عليها .. أما لونه فلا يمكن تحديده....
مط شدقيه بطريقة عصبية ... و التزم الصمت للمرّة الأولى
الساعة تشير إلى العاشرة والربع ...
لم يتبق الكثير من الوقت لأتابع
طقوس تعذيبه... توقفت و تركته يدخل الغرفة وحده...
انسكب على كرسيه الهزّاز ... و راح يبحلق في تفاصيل الغرفة وأشيائها.....
الورود الذابلة.. الشموع الذائبة ... الستائر المكشوفة .... اللهفة المطفأة و الشوق الميّت...
كل شئ فيها يشي بانفضاح أمره ... و يذكره بإلحاح زائد بذلك الغدر المسرف لنقاء ٍ و صفاء ٍ كنته.... و ضيّعه في صكوك مزيّفة
في ذلك اليوم الآبق رسم ابتسامته المنمّقة و جاء مع اثنين من أصدقائه
لم يكلف نفسه عناء تعريفي بهما... فقط رسما نفس الابتسامة و أحنيا رأسيهما بطريقة أرستقراطية و هما يفسحان الطريق لرجل ثالث توسّط المجلس و بيده دفترٌ أخضر...كتب فيه بعض المعلومات ... و ذيّله بتوقيع منه و آخر مني ... و بخطوط مبهمة لهذين الشابين و رحل....
أما هو فقد استدار بثقته ليواجهني قائلا ً :
- الآن لا يمكن لشئ أن يمنعني عنك ....و ما هي إلا أيام حتى أعلن للملأ إنك زوجتي... أمهليني بعض الوقت حتى يستوعب الناس فكرة زواجي من إحدى معجباتي .
كانت العاشرة أيضاً...
و لكنها كانت تمشي طربا ً على روحي و تغريها بالحب الصادق...!!!!
أوقن الآن بأنّ هذه الحادثة قد عبرت ذاكرته مع علمه بزيف الشاهدين و بطلان الدفتر الأخضر
وهذا ما اكتشفته أنا بعد فوات الأوان....
و لكنه و مع تذكره لذلك التاريخ لم يرفع علمه الأبيض ...بل أصر على متابعة المشهد بكلّ تفاصيله ...
كنت أدرك تماما إنه يحتفظ بجليد قلبه لمثل هذا الموقف.. فأعددت ما يستفزه بشتى الوسائل ....
طبعا لم أعد الشراب الأحمر الرائق ... ولا قطع الثلج ... ولم أرتب وسائد آخر الليل ...
راح يهز كرسيه بعصبية ...
ولكنه لم يتطلع إلى الساعة التي تلح على الإسراع في فضحه.....
أمسك بالزهور , و راح يبعثر أوراقها ... مساهما ً في الفوضى .....
لفت انتباهه ورقة وردية مزركشة .... كان قد كتب عليها أولى كذباته لي
عفوا ً ... أولى قصائده ...!! و قد كنت أحتفظ بها في صندوق مذهّب الآن هي مرمية بجوار الموقد.... و قد أسعفها القدر ... ولم تحترق بعد ...
و بحركة عصبية التقطها من الأرض ... واحتواها في جيبه ... ثم تمتم بكلمات لم أفهمها ...
كنت أشعر بسعادة كبيرة و أنا أرقبه من المكان الذي أعده لمراقبتي وأنا أصنع القهوة " كما قال" ألحظ تغيرات لونه ... مرة أحمر قاتم ... ومرة أصفر .... و مرة يميل إلى الأزرق المخنوق .
الآن أصبح كل شئ جاهزاً لهذا الفضح الذي أعددت له جيدا ً ...
حتى منتصف الساعة تشاركني الرأي....
أكملت بعثرة قطع الليل في شعري ... و بدأت بسحب قدمي ّ على الأرض مصدرة ما يزعجه من الأصوات ... وقفت أمامه... ففتح فمه فاهرا من الدهشة ... ثمّ قال بهدوء مصطنع :
- ما بالك اليوم يا حبيبتي .. هل عبرك الجنون ... أو أهديت نفسك لطائر من الجن.!!؟؟؟ههههههههه....
و أشعل غليونه ..... أخذ نفسا ً طويلا ً ... ثم بدأ يسعل بشدة ...
طبعا ً توقع مني أن أهرع إلى المطبخ لآتيه بكوب ماء يطفئ لهيبه ... ويهدّئ سعاله .. ولكني وقفت أحدق فيه منتشية برؤيته ضعيفا يحاول منع الموت من الوصول إليه.
- أعبر أيها الموت ... أعبر على روحه ... نظف البشرية من حضوره ... فلتنطفئ عيناه المغويتان و لتنتحر الكلمات في شفتيه ... لتكتحل عيني ّ برؤيته جثة هامدة...
استعاد وعيه معلنا انتصاره على الموت ... وبخبث شديد ... لم يعر ما حصل أي ّ اهتمام .. بل استجمع هدوءه و بدأ بممارسة غواية الكلمات
- أتعرفين ... أراك اليوم جميلة جدا ً حتى مع شعرك المبعثر ... كل ّ ما فيك يضج ّ أنوثة و اخضرارا ..... شكرا ً لأنك ملك لي وحدي ....
قال هذا و هو يمرر يديه على جسدي...... شعرت بالقرف و النفور من شيطانية يديه ... وتجرئها على تعرية أكتافي ... و سكب القبل على حوافها ... تراجعت بسرعة بعد أن أسقطت يديه عني...
كنت أرقب الساعة و هي تبدأ العد العكسي ....
لم يحفل بهذا التراجع ...بل كنت ألحظ الغواية البشعة في عينيه ...
بينما حان الوقت لوداع ساعة التقيته فيها ... لتكون العاشرة الأخيرة ...!!!
كان مستمرا في بث أشواقه المريضة.. عندما أسقطت يدي ّ على كبريائه كصاعقة... جمد مكانه .. وكأنه قد شل ّ ... أطلقت كلماتي كقنابل في وجهه
" إنك حقير .... بشع ... جبان ... " ثم ّ بللت وجهه بما كان يتغنى بحلاوته ...
أراه الآن مهاناً ... صغيرا ً ... هو أمامي كجرذ وسخ لا ينقصه سوى السم ّ لينتفخ ميتا ً ... و لكن لا ... لن أفعلها ...
حاول أن يستخدم سلاحه الأقوى... وبدا بعقد اعتذاره في مناديل حب أصيل في قلبه كما يزعم !!!
فألحقته بالصاعقة الأخرى على وجهه ...همد ساكنا ً ... لم يتوقع مني أن أصمد يوما ً أمام عهر كلماته.. فأعلن انهزامه
الساعة...
الدقائق العشر الأخيرة..
لم يكتمل الانتقام بعد ...
أمسكت بمقص كنت قد أعددته مسبقا... و بدأت بتعرية رأسه من جماله .......
ظنّني سأقدم على قتله ... حاول الصراخ .. ولكنه لم يستطع
انتفض بقوة و أبعدني عنه .... ثم فر ّ كفأر مذعور إلى الغرفة الأخرى...
في الطريق عبر برأسه على المرآة"النظيفة"!!!
ليكتشف للمرة الأولى من يكون ....!!!
العاشرة تلفظ الدقيقة الأخيرة ...
هو لا يسمع صوتها !!....
و أنا...........
مشغولة في لملمة شعري!!!!......
غفران طحّان
أحاول الآن أن أعيد ترتيب ذكريات العتمة.....أن آوي إلى هذا الليل الفاضح... أن أعتاد العدم الذي صار يصاحب مواويل الّليل
كل شيء جاهز لهذا الانكسار العاطفي ... الشمع المطفأ..والورود الذابلة... القصائد المحروقة...و الحب المدفون في رسائل مزيفة
وشعري...الذي تركته مبعثرا
لم يتبق من الوقت الكثير...الدقائق تتعثر بالثواني ...اقتربت العاشرة...الساعة تطلق أصواتاً أحسبها مدافع (تك ...تك...)
منذ زمن بعيد فقدت حاسة الانتظار... لم أعتد يوما مراقبة عقارب الساعة ...أحسها تلدغني... وتتخمني بسمها الذي يدأب على خنقي ....
أخيرا...
استجمعت الساعة كل قوتها...
و أطلقت صرخة ولادة العاشرة...
لم أهرع كعادتي إلى المرآة لأطمئن على أناقتي ...
لم أمرر الإصبع الملون على شفتي ..
ولم أهد شعري يد حنان تعيد لملمته...
وقفت إلى الباب أتحرق غيظاً ...و انطفئ حباً....
وبما أنني قد حسمت أمري..لن ألقي نظرة خاطفة على حذائي الذي اعتدت اختياره بعناية فائقة....لأنه يرى فيه جزءاً أساسيا من أناقتي التي يشدد عليها
(( كنت حقاً بلهاء لأستجيب إلى هرائه و أعقد نفسي خاتما في إصبعه))
ها هو جرس الباب يعلن مقدمه... كان سابقا بالنسبة لي مقطوعة موسيقية لم يكن لبيتهوفن حتى أن يعزفها ما دامت من صنع يده....
الآن أحس بذلك النشاز الذي أشار إليه أكثر من مرة بقوله
(( علينا تغيير هذا الجرس ...إنه يصدر نشازاًً ))
لم أسرع الخطى كما كنت أفعل لأجعل كعب حذائي يرتطم بالأرض معلنا شوقه إلى أن يُرمى عليها... بل مررت قدمي يتثاقل .. إلى أن وصلت إلى الباب الخارجي الذي أراه بشعا ً... ابتلعني مرّة ... و علي ّ أن ألفظه قبل أن يفعل هو... أمسكت بقبضته .. وتشبثت بها جيّدا ً خوفا ً مما سيمرق بعدها من تفاصيل...
شددت الباب بما تبقى من قوّتي .. لينبجس به ماثلا بعبقرية تمثال حجري...
تمالكت نفسي للمرّة الأولى... و لم أرم بها في غيابات حضنه .. وبذلت جهداً مضاعفاً لخلق ابتسامة وشت بهذا الإنكار الذي أعددت نفسي إليه...
عبر ببصره على تفاصيلي .. و أظهر حركة من وجهه تعبر عن استيائه من هذا التبعثر الذي لم يعتده مني
زحف ببصره إلى شعري.. استفزه لدرجة كبيرة... أشاح بوجهه عني .. ثم أجهد نفسه في رسم ابتسامة جانبية.. و أخرج صوته ليندلق بكلماته سما يفوق عقارب الساعة قسوة:
- كيف أنت ... هل كنت نائمة ..!!!؟
قال هذا و هو يطمئن على ربطة عنقه .. وينفض غبارا ً لم يقدر له الوقوف على معطفه بعد !!...
كان الوقت قد سرق من العاشرة أولى دقائقها العشر..
معلنا بمروره بداية مراسم تشييع الشاعر...
كان الغضب يأكله ..و هذا ما مرّر بعض الفرح في نفسي.. فلم أجبه على سؤاله
اقترب مني .. ومرّر يده على شعري ... ثم دفن فتات قبلة فيه... و انتهى قائلا :
- هيا .. اذهبي وعدّلي من مظهرك .. وهلمي لنكمل السهرة .. هيا ... اذهبي.
أدرك الآن من نبرة صوته المختنقة أن غضبه قد وصل إلى درجة الغليان و ما علي ّ إلا أن أدخله إلى تلك الغرفة لينفجر
في طريقه مط رقبته كالعادة إلى المرآة .. ليباركها بصورته ( كما كان يقول...!!!)
و إذ به يفاجأ باتساخها .. لم يتمالك نفسه فانفجر صارخاً......
- ما هذا.. المرآة متسخة ... هيا .... اذهبي و نظفيها...
لم أعره أي اهتمام .... و لم أسمح لشفتيّ أن تتفرج عن أيّ كلمة...
كنت قد قررت سابقا ً بدء انتقامي بالصمت... و فوضى الأشياء الصغيرة...
ألقى نظرة على حذائي فأزعجته مقدمته العريضة... و كعبه الملتصق بالأرض لدرجة موجعة لها و لأسماع من عليها .. أما لونه فلا يمكن تحديده....
مط شدقيه بطريقة عصبية ... و التزم الصمت للمرّة الأولى
الساعة تشير إلى العاشرة والربع ...
لم يتبق الكثير من الوقت لأتابع
طقوس تعذيبه... توقفت و تركته يدخل الغرفة وحده...
انسكب على كرسيه الهزّاز ... و راح يبحلق في تفاصيل الغرفة وأشيائها.....
الورود الذابلة.. الشموع الذائبة ... الستائر المكشوفة .... اللهفة المطفأة و الشوق الميّت...
كل شئ فيها يشي بانفضاح أمره ... و يذكره بإلحاح زائد بذلك الغدر المسرف لنقاء ٍ و صفاء ٍ كنته.... و ضيّعه في صكوك مزيّفة
في ذلك اليوم الآبق رسم ابتسامته المنمّقة و جاء مع اثنين من أصدقائه
لم يكلف نفسه عناء تعريفي بهما... فقط رسما نفس الابتسامة و أحنيا رأسيهما بطريقة أرستقراطية و هما يفسحان الطريق لرجل ثالث توسّط المجلس و بيده دفترٌ أخضر...كتب فيه بعض المعلومات ... و ذيّله بتوقيع منه و آخر مني ... و بخطوط مبهمة لهذين الشابين و رحل....
أما هو فقد استدار بثقته ليواجهني قائلا ً :
- الآن لا يمكن لشئ أن يمنعني عنك ....و ما هي إلا أيام حتى أعلن للملأ إنك زوجتي... أمهليني بعض الوقت حتى يستوعب الناس فكرة زواجي من إحدى معجباتي .
كانت العاشرة أيضاً...
و لكنها كانت تمشي طربا ً على روحي و تغريها بالحب الصادق...!!!!
أوقن الآن بأنّ هذه الحادثة قد عبرت ذاكرته مع علمه بزيف الشاهدين و بطلان الدفتر الأخضر
وهذا ما اكتشفته أنا بعد فوات الأوان....
و لكنه و مع تذكره لذلك التاريخ لم يرفع علمه الأبيض ...بل أصر على متابعة المشهد بكلّ تفاصيله ...
كنت أدرك تماما إنه يحتفظ بجليد قلبه لمثل هذا الموقف.. فأعددت ما يستفزه بشتى الوسائل ....
طبعا لم أعد الشراب الأحمر الرائق ... ولا قطع الثلج ... ولم أرتب وسائد آخر الليل ...
راح يهز كرسيه بعصبية ...
ولكنه لم يتطلع إلى الساعة التي تلح على الإسراع في فضحه.....
أمسك بالزهور , و راح يبعثر أوراقها ... مساهما ً في الفوضى .....
لفت انتباهه ورقة وردية مزركشة .... كان قد كتب عليها أولى كذباته لي
عفوا ً ... أولى قصائده ...!! و قد كنت أحتفظ بها في صندوق مذهّب الآن هي مرمية بجوار الموقد.... و قد أسعفها القدر ... ولم تحترق بعد ...
و بحركة عصبية التقطها من الأرض ... واحتواها في جيبه ... ثم تمتم بكلمات لم أفهمها ...
كنت أشعر بسعادة كبيرة و أنا أرقبه من المكان الذي أعده لمراقبتي وأنا أصنع القهوة " كما قال" ألحظ تغيرات لونه ... مرة أحمر قاتم ... ومرة أصفر .... و مرة يميل إلى الأزرق المخنوق .
الآن أصبح كل شئ جاهزاً لهذا الفضح الذي أعددت له جيدا ً ...
حتى منتصف الساعة تشاركني الرأي....
أكملت بعثرة قطع الليل في شعري ... و بدأت بسحب قدمي ّ على الأرض مصدرة ما يزعجه من الأصوات ... وقفت أمامه... ففتح فمه فاهرا من الدهشة ... ثمّ قال بهدوء مصطنع :
- ما بالك اليوم يا حبيبتي .. هل عبرك الجنون ... أو أهديت نفسك لطائر من الجن.!!؟؟؟ههههههههه....
و أشعل غليونه ..... أخذ نفسا ً طويلا ً ... ثم بدأ يسعل بشدة ...
طبعا ً توقع مني أن أهرع إلى المطبخ لآتيه بكوب ماء يطفئ لهيبه ... ويهدّئ سعاله .. ولكني وقفت أحدق فيه منتشية برؤيته ضعيفا يحاول منع الموت من الوصول إليه.
- أعبر أيها الموت ... أعبر على روحه ... نظف البشرية من حضوره ... فلتنطفئ عيناه المغويتان و لتنتحر الكلمات في شفتيه ... لتكتحل عيني ّ برؤيته جثة هامدة...
استعاد وعيه معلنا انتصاره على الموت ... وبخبث شديد ... لم يعر ما حصل أي ّ اهتمام .. بل استجمع هدوءه و بدأ بممارسة غواية الكلمات
- أتعرفين ... أراك اليوم جميلة جدا ً حتى مع شعرك المبعثر ... كل ّ ما فيك يضج ّ أنوثة و اخضرارا ..... شكرا ً لأنك ملك لي وحدي ....
قال هذا و هو يمرر يديه على جسدي...... شعرت بالقرف و النفور من شيطانية يديه ... وتجرئها على تعرية أكتافي ... و سكب القبل على حوافها ... تراجعت بسرعة بعد أن أسقطت يديه عني...
كنت أرقب الساعة و هي تبدأ العد العكسي ....
لم يحفل بهذا التراجع ...بل كنت ألحظ الغواية البشعة في عينيه ...
بينما حان الوقت لوداع ساعة التقيته فيها ... لتكون العاشرة الأخيرة ...!!!
كان مستمرا في بث أشواقه المريضة.. عندما أسقطت يدي ّ على كبريائه كصاعقة... جمد مكانه .. وكأنه قد شل ّ ... أطلقت كلماتي كقنابل في وجهه
" إنك حقير .... بشع ... جبان ... " ثم ّ بللت وجهه بما كان يتغنى بحلاوته ...
أراه الآن مهاناً ... صغيرا ً ... هو أمامي كجرذ وسخ لا ينقصه سوى السم ّ لينتفخ ميتا ً ... و لكن لا ... لن أفعلها ...
حاول أن يستخدم سلاحه الأقوى... وبدا بعقد اعتذاره في مناديل حب أصيل في قلبه كما يزعم !!!
فألحقته بالصاعقة الأخرى على وجهه ...همد ساكنا ً ... لم يتوقع مني أن أصمد يوما ً أمام عهر كلماته.. فأعلن انهزامه
الساعة...
الدقائق العشر الأخيرة..
لم يكتمل الانتقام بعد ...
أمسكت بمقص كنت قد أعددته مسبقا... و بدأت بتعرية رأسه من جماله .......
ظنّني سأقدم على قتله ... حاول الصراخ .. ولكنه لم يستطع
انتفض بقوة و أبعدني عنه .... ثم فر ّ كفأر مذعور إلى الغرفة الأخرى...
في الطريق عبر برأسه على المرآة"النظيفة"!!!
ليكتشف للمرة الأولى من يكون ....!!!
العاشرة تلفظ الدقيقة الأخيرة ...
هو لا يسمع صوتها !!....
و أنا...........
مشغولة في لملمة شعري!!!!......
غفران طحّان
تعليق