قصة للأطفال : يوم على متن محطة فضائية بقلم : د. مصطفى عطية جمعة
صديقي القارئ العزيز ، سأطرح عليك عدة أسئلة :
عندما يتطلع أي فرد للفضاء حيث النجوم والكواكب ، ماذا يتمنى ؟
ستتبادر إلى عقلك إجابات متعددة ، ولكن أهمها : أن كل فرد يطمح في الوصول للفضاء ليتعرف ما فيه ، وبعض الناس يشطحون في الخيال ، ويحلمون بالإقامة فيه .
والسؤال التالي :
هل من الممكن أن يعيش الإنسان في الفضاء ؟
مع التقدم الهائل الذي حدث في الأربعين سنة الأخيرة في علوم الفضاء ، نستطيع أن نقول: نعم من الممكن أن يعيش الإنسان في الفضاء .
كيف ؟
لقد استطاع الإنسان أن يغزو الفضاء ، فدار بصاروخ حول الأرض ، ثم صعد إلى القمر، ثم أرسل سفن فضاء إلى الكواكب الأخرى كالزهرة وعطارد والمريخ .
والآن ، بدأ الإنسان يفكّر في الإقامة في الفضاء ، عن طريق قيامه ببناء محطات فضائية. والمحطة الفضائية هي بناء معدني له شكل الإسطوانة الكبيرة مثل محطة الفضاء الأمريكية "سكاي لاب " التي أطلقت في العام 1973م ، وقد بلغ ارتفاعها حوالي (15) مترًا ، وقطرها ( 6.6 ) متر ، وهي مقسمة إلى غرفتين : غرفة إعاشة سفلية ، وتضم ثلاث قمرات ( غرف ) صغيرة يقيم فيها الرواد ، وغرفة للتدريبات الرياضية وحمامًا ومطبخًا ، بينما خصصت الغرفة العلوية للتجارب العلمية ، وبها بوابات للخروج والدخول ، واستقبال سفن الفضاء .
وهناك المحطة الفضائية الروسية "مير " التي أطلقت في شهر فبراير من العام 1986م ، وهي أكثر تطورًا من السابقة ، وتتكون من وحدة رئيسية تستخدم للإعاشة والتحكم في المحطة كلها ، وتتصل بها وحدات أخرى منفصلة ، يتم إجراء التجارب العملية فيها ، كما تتصل خمس بوابات بالوحدة الرئيسية ، تستقبل سفن الفضاء الأخرى .
ما الهدف من بناء هذه المحطات ؟
ليس هدفًا واحدًا ، بل أهدافًا متعددة ، أهمها : تدريب رواد الفضاء على الإقامة الطويلة في الفضاء ، وانطلاق مركبات فضائية من المحطة لاستكشاف الكواكب والأقمار، بدلاً من العودة ثانية إلى الأرض .
وكذلك : تدريب رواد الفضاء على السفر الطويل إلى الكواكب البعيدة ، مثل المريخ ، فالرحلة إليه ستستغرق حوالي ثلاث سنوات . وتطمح الولايات المتحدة أن يهبط الإنسان على سطح المريخ قبل عام ( 2019 ) م .
والآن :
نحن سنصطحبك لقضاء يوم على متن إحدى المحطات الفضائية ، حيث ستتعرف على بعض أفرادها ، وتعرف ماذا يجري على متنها ، وذلك من خلال يوم من رحلة الصحفي "جاك " مراسل مجلة " الفضاء الخارجي "، والذي أراد أن يعيش على متن إحدى المحطات الفضائية وينقل لقراء المجلة تجربته بعد ذلك ، إلا أن علماء الفضاء على الأرض اشترطوا عليه أن يقوم ببعض الأعمال على متن المحطة ، فلا وجود لمن لا يعمل فيها .
فهيا بنا ..
هيا بنا .. مع " جاك " .
استيقظ " جاك " من نومه ، وفرك عينيه بظهر إصبعيه السبابة ، ثم حرّك يده في داخل الكيس البلاستيكي ؛ ليفكَّ السوستة ، ويخرج من الكيس . كان زميله " رونالدو " قد خرج هو الآخر من كيسه ، فكلا الكيسين مثبتان في جدار المحطة الفضائية ، ومن أراد أن ينام فلينمْ واقفًا .
- صباح الخير يا رونالدو .
- أهلاً جاك ، كيف كان نومك ؟
- لقد نمتُ بعمق ، وحلمتُ أحلامًا سعيدة .
- خيرًا ، ماذا ..؟
- حلمتُ بأنني في بيت أسرتي على الأرض ، وأنني أتناول معهم غذاء عطلة نهاية الأسبوع ، وكنتُ أتبادل الضحك مع أخي وأختي .
ابتسم له " رونالدو " ، وقال :
- بالطبع ، رحتَ تتذكر سريرك في غرفتك ، وأنت تنام مضطجعًا عليه .
- يظهر أننا نسينا النوم ونحن مستلقين على أسرّتنا ، و لسنا واقفين في أكياس .
قال " رونالدو " :
- ولكن الجسم يشعر بالراحة في كل الأحوال ، والدليل أنكَ تنام بعمق ، وبملء جفونك وأنت واقف ، أليس كذلك ؟
- بلى ! فالله قد جعل جسم الإنسان قادرًا على التكيف مع كل بيئة ، ولو كان في الفضاء .
- عمومًا ، لقد اشتقنا كثيرًا إلى أمنا الأرض ، واليوم موعد وصول سفينة الشحن والتموين ، وستحمل إلينا خطابات من أهلنا هناك .
أحنى " رونالدو " رأسه مصدقًا على كلامه ، ثم تحرّك الاثنان لينظرا في النافذة الزجاجية، كانت الكواكب تسبح في الفضاء الفسيح ، والنجوم تتلألأ بأشعة عالية ، وهناك كان كوكب " الأرض " لونه أزرق بفعل مياه البحار والمحيطات التي تغطي ثلثي مساحته ، في حين تجاورت القارات الخمس بجوار بعضها . هكذا ، رأى " جاك ورونالدو" الأرض .
تطلع جاك إلى النصف المضيء من الكرة الأرضية ، وقال :
- الآن ، فترة النهار في مدينتنا بأمريكا الشمالية ، الناس الآن يعملون بنشاط في يومهم .
- نعم ، بينما الناس في نصف الكرة الأرضية الآخر ، يغطون في نوم عميق .
اعتلى " جاك " الدراجة الرياضية المثبتة في أرضية الغرفة ، وراح يحرّك رجليه أسفل الدراجة ، وقال :
- من المهم فعلاً أن أمارس هذه الرياضة ، فقبل أن آتي إلى هنا منذ شهر ، كنتُ لا أهتم كثيرًا باللعب على أجهزة الرياضة تلك .. ، لقد كنت أعشق كرة السلة لدرجة الجنون ، وأقمت أمام بيتي ملعبًا لكي أمارسها مع أصدقائي .
أجابه " رونالدو " ، وكان يتأهب للولوج إلى الحمام :
- عمومًا أنت ضيف علينا هنا ، وعلماؤنا على الأرض درسوا كل شيء . إنني إن لم أمارس التدريبات الرياضية فإن الدم يتجمع في أعلى جسمي .
- أجل يا رونالدو ، فإن في الفضاء الخارجي لا توجد جاذبية أرضية ، وبالتالي كل شيء لا يثبت في مكانه ، وبالرغم من التدريبات التي تدربتها في محطة على الأرض فيها كل صفات تلك المحطة الفضائية التي أحيا فوقها ، ولكن هنا الخبرة عملية ومفيدة .. و .. ومقلقة قليلاً ..
ثم أردف " جاك " بصوت هامس :
- عندما رشحتني مجلتي ، مجلة " الفضاء الخارجي " لكي أعيش على متن هذه المحطة ، كنت متحمسًا جدًا ، ولكنني بدأت أخاف قليلاً .
قال " رونالدو " :
- يا جاك العزيز ، لا تقلق .. ، فهناك من زملائنا من قضى هنا أشهرًا طويلة ..
أشار " جاك " إلى زر ، وقال :
- قم بتشغيل جهاز البول كما أخبرونا .
ثم قال بصوت هامس بحيرة :
- أشهر طويلة ، لا .. لا يمكن .. ، فأنا مستعد لشهرين أو ثلاثة ..
لم يسمعه " رونالدو " ، الذي رفع صوته :
- شكرًا لك يا جاك ، لقد ذكّرتني بضرورة تشغيل جهاز معالجة البول ، حتى يتحول البول إلى وقود للجهاز الذي ينتج الأكسجين لمحطتنا .
وضغط بإصبعه على زر عند باب الحمام ، ليشغّل الجهاز فبدأت ماكينته في العمل ، حيث تتلقف البول ، وتعالجه لتحوّله إلى وقود لتشغيل جهاز إنتاج الأكسجين .
* * *
اتجه "جاك " إلى علبة بلاستيكية كبيرة ، حيث توجد بها كثير من العلب الصغيرة . إنها علبة حفظ الطعام ، راح "جاك " يعدّ الإفطار الذي تكون من شرائح الخبز الجاف والجبن ، وبعض البطاطس المهروسة المطهوة مسبقًا والبسكويت وعلب العصير . وبينما كان منهمكًا في فض أغلفة العلب ، ويرصّ أصناف الطعام في أطباق مثبتتة بالمغناطيس على مائدة صغيرة ، كان " رونالدو " يحي زملاءه بإشارة من يديه لهم ، وهم في غرفتهم المواجهة .
قال جاك :
- الغريب في هذا الطعام أنه لا يحتاج إلى مضغ كثير ، إنني أشعر أنه يذوب في لعابي .
قال " رونالدو " وهو يمضغ شطيرة خبز :
- كنتُ حاضرًا في معامل التغذية في القاعدة الأرضية التي انطلقت منها المحطة ، ولاحظت أن مسؤولي التغذية حريصون على تخليص كل طعامنا من الألياف .
ارتسم التعجب على وجه " جاك " ، فأردف " رونالدو" :
- السبب بسيط يا عزيزي ، وهو الحفاظ على لياقة المعدة والأمعاء حتى لا تتعب في هضم الطعام ، وفي إخراج الفضلات الكثيرة .
قال " جاك " :
- نعم ، فحالة جسم الإنسان تضعف وتتغير بعض الشيء في الفضاء .
ردّ " رونالدو " :
- إنني أشعر بأن عضلاتي تترهل ، وأنسجة جسمي تضعف بعض الشيء .
ثم أكمل حديثه ، وهو يقف :
- هيا نتناول العصير ونحن في عملنا ، فأمامنا اليوم عمل كثير .
تحرك الاثنان وبيد كل واحد علبة عصير يرتشف منها ، وكانا في سيرهما إلى غرفة الاتصالات في المحطة يتسندان على الجدران تارة ، وتارة يقفزان عاليًا .
وما إن وصلا إلى غرفة الاتصالات ، حتى أسرع كل واحد بالجلوس على مقعد معدني ، وشدّ حزامًا حول وسطه ، حتى لا يطير ثانية في فراغ الغرفة ، بعيدًا عن الأزرار والمعدات.
كانت مهمة " رونالد " هي التأكد من اكتمال شحن الكهرباء للمحطة والذي كان قد بدأه قبل النوم ، فراح ينظر في عدّاد الشحن الذي أنبأه بأن العملية قد أوشكتْ على الانتهاء . جلس ينتظر وهو يراقب الجناحين الكبيرين اللذين ظهرا من النافذة ، وكان لونهما الأبيض يعكس الأضواء الخارجية التي تظهر من المحطة ، وهي متعددة بين الأحمر والبرتقالي والأصفر .
وبينما كان " جاك "مشغولاً بتجهيز جهاز اللاسلكي الذي يصله بالقاعدة الأرضية ، حيث لايزال الجهاز في بدء عمله ، التفت إلى " رونالدو " متسائلاً :
- خيرًا يا رونالدو ، لماذا تحملق في جناحي المحطة ؟
أجاب " رونالدو " وهو يشير إلى الجناحين الأبيضين :
- لم أكن أتخيّل أن ضوء الشمس سبب في إمدادنا بالكهرباء ، ولولاه لتوقفت المحطة عن العمل .
- إن جناحي محطتنا الفضائية بهما خلايا " كهروضوئية " تقوم بالتقاط ضوء الشمس الساطعة من بعيد ، وتحويله إلى طاقة كهربية .
قال " رونالدو " :
- الشمس مصدر ثابت ودائم للطاقة والحرارة ، ومهما كنّا سنفعل من تخزين للطاقة من الأرض ، كانت ستنفد ، بينما الشمس مشرقة هنا في الفضاء دائمًا .
قال " جاك " :
- إنني يا " رونالدو " عندما أتذكر كيف أن أهلنا في الأرض يعتمدون على النفط ومشتقاته في إمدادهم بمعظم الطاقة الكهربائية والحرارية أتعجب ، فالنفط له بعض الآثار الضارة على البيئة في الأرض .
أجابه " رونالدو " :
-إن تكاليف استخراج وتكرير النفط رخيصة وهذا هو السبب في اعتماد أهل الأرض عليه ، وعامة فإن الشمس والرياح وغيرهما هما مستقبل الطاقة بعدما ينتهي النفط و …
توقف " رونالدو " عن الكلام ، فقد كان عدّاد الطاقة يشير إلى الإفراغ من شحن المحطة بحاجتها من الكهرباء ، في حين وضع " جاك " سماعتي جهاز الإرسال على أذنيه ، وقد بدت على وجهه أمارات الجدّ ، وراح يقول بصوت عالٍ :
- آلو .. آلو .. كيف حالك يا جيمس ؟
- ماذا تقول ؟ سفينة التموين في طريقها الآن إلى محطتنا الفضائية .
- حسنًا ، سنكون في استقبالها .
أنهى " جاك " المكالمة ، والتفت إلى " رونالدو " الذي كان يضبط بعض الأزرار أمامه ، وقال له :
- سفينة التموين ستصل إلينا خلال وقت قليل .
- إذن ، لابد أن نعدَّ مكان استقبالها ، فأنا في غاية الشوق لخطابات من أسرتي .
- علينا الآن أن نمرّ على موضع استقبال سفينة التموين عند مقدمة المحطة .
فكّ كل واحد منهما الحزام الذي يحيط بوسطه على المقعد ، وسرعان ما ارتفع جسداهما بخفة إلى السقف ، مبتعدين عن لوحة التحكم الإلكترونية ، وعن أزرارها الكثيرة ، وطارا بخفة في سقف الغرفة المعدني ، والذي تلوّن باللون الأخضر الفاتح ، في حين اكتست الأرضية باللون الأخضر الغامق . حرّك " رونالدو " يديه في الهواء صعودًا وهبوطًا كأنهما جناحان ، وقال ضاحكًا :
- لقد قرأتُ أن عالمًا عربيًا مسلمًا يدعى " عباس بن فرناس " كان يعيش في بلاد الأندلس ..
قاطعه " جاك " :
- أين ؟
- في بلاد الأندلس ، وهي أسبانيا والبرتغال حاليًا ، قرأت أنه قام بأول محاولة للطيران في التاريخ باستخدام جناحين من الريش .
هتف " جاك " متعجبًا :
- جناحان من الريش ! وهل طار فعلاً ؟
- نعم ، وقام بعمل ذيل له ، أي أنه صار مثل الحمامة الكبيرة أو الصقر الكبير ، وطار من فوق أحد الجبال مسافة كبيرة بالفعل ، ورآه الناس … وكانوا يظنونه لن يستطيع أن يحلّق في الجو .
- إذن فهو أول رجل طيران ؟
- أجل ، ولكنه لقي مصرعه وسقط على الأرض ، فقد أذابت الشمس الشمع الذي كان قد ألصق الريش به .
أردف " جاك " :
- أترانا الآن نسير على نفس الطريق الذي بدأه هذا الرجل ، وأننا الآن في قمة التطور التكنولوجي ؟
هبط " رونالدو" إلى أرضية الغرفة ، وتساءل :
- وهل نحن في قمة التطور التكنولوجي ؟! أعتقد أن الإنسان لايزال في بداية استكشاف الفضاء ، والدليل أننا نحاول أن نجعل هذه المحطة نقطة انطلاق لصواريخ فضائية تستكشف أعماق الكون الفسيح .
* * *
خرجا من باب الغرفة ، واتجها وهما يقفزان قفزات خفيفة إلى مقدمة المحطة ، في الوحدة الرئيسية ، حيث توجد خمس بوابات ، البوابة الكبرى وهي تستخدم لاستقبال سفن الفضاء التي تحمل أطقم رواد الفضاء الذين يأتون إلى المحطة ، ومعهم أجهزة التصوير والتحليل والمراقبة .
في حين يتم استخدام البوابات الأربع الأخريات في إتمام التحام شاحنات الفضاء (سفن التموين ) بها .
وصل الزميلان إلى البوابة الثالثة ، حيث قدِم إليهما زميل آخر ، فقال "جاك " له :
- أهلاً " وليم " ! كيف حالك ؟
- بخير ، هل ستزورنا سفينة فضاء ؟
أجاب رونالدو :
- يعجبني فيكَ ذكاؤك الذي لم يتأثر بحالة انعدام الجاذبية ، بالرغم من أنك أقدمنا تواجدًا على هذه المحطة .
ردّ وليم عليه :
أنا لا أستسلم هنا لأي تأثير يمنعني عن التعلم والدراسة ، فأنا أتابع الأخبار وأقرأ أحدث الكتب والمجلات والصحف التي تأتي إلينا .
جاك :
المهم هلاّ أخبرتنا بمدى الاستعداد لاستقبال سفينة الشحن .
وليم :
إن كل شيء جاهز ، وأرى أن السفينة قد بدأت في الاقتراب من المحطة ، انظرا .
تطلع" جاك ورونالدو " إلى حيث أشار وليم في النافذة ، كانت سفينة التموين بأضوائها اللامعة تقترب بهدوء من المحطة ، وقد هدّأت من سرعتها واتجهت إلى البوابة الثالثة من الخارج ، بينما تحرّك وليم بسرعة ، حيث راح يتعامل مع بعض الأزرار والمفاتيح في لوحة مثبتة بجوار البوابة الثالثة ، فالتحمت السفينة ببطء مع البوابة ، وبرز ذراعان حديديان من أسفل البوابة ، حيث أمسكا بسفينة الشحن ، وتثبتا في جانبيها .
ضغط " وليم "على زر فانفتحت البوابة الزجاجية وظهر أنبوب معدني ممتد إلى باب سفينة التموين ، الذي بدأ ينفتح رويدًا رويدًا .
هتف " رونالدو " مشدوهًا :
- عملية الالتحام لم تستغرق إلا ثوانٍ معدودة ، والغريب أن سفينة التموين تفعل كل شيء بتوجيه من القاعدة الفضائية على الأرض .
قال " وليم " :
- إنها بدون رائد فضاء ، فهي تذهب وتأتي كل بضعة أيام ، ولولاها لصرنا منعزلين عن أمنا الأرض .
صرخ " جاك " :
- هل من الممكن أن تتركا هذه العواطف الجياشة نحو سفينة الشحن ، وتسرعان معي لأخذ كيس البريد من داخلها ؟
ضحك الجميع ، فقد كان " جاك " مولعًا بقراءة الرسائل البريدية ، التي تأتيه من أصدقائه الكثيرين على الأرض .
قال وليم ساخرًا :
- إنني أطمئن على زوجتي وأطفالي من خلال الاتصال اللاسلكي ، وهذا يتم بصفة مستمرة ، كل أسبوع أو أكثر ، لذا ترياني لا أعبأ كثيرًا بالبريد .
قال " جاك " بمسحة جد على وجهه :
- إذن يا عزيزي ، ستكون آخر شخص فوق هذه المحطة يحصل على رسائله ، لأنك كما تقول في غنىً عنها .
وأسرع بالدخول إلى عمق سفينة التموين ، حيث كان يحفظ جيدًا مكان كيس الرسائل ، فأخذه برفق ، ثم خرج يجري بينما طارده " رونالدو " قائلاً :
- وأنا ما ذنبي لكي تعاقبني ، ولا تعطيني رسائلي ؟
قال "جاك " الذي وقف بعيدًا يفتح كيس البريد :
- ذنبك الوحيد أنك ضحكتَ مؤيدًا لـ " وليم " .
ثم أكمل بعطف :
- ولكن بحكم أنك جاري ، وتسكن وتنام في كيس النوم بجواري ، فسأعطيك رسائلك بعد قليل .
وكان جاك قد أخرج رزمة من الخطابات مربوطة بخيط حريري ملون ، وراح يفك الخيط من حولها ، وشرع في فض غلاف أحد الخطابات ، وبدأ يقرؤه .
لم ينتظر " رونالد " ، بل أسرع بإخراج رسائله هو الآخر .
في الوقت الذي كان " وليم " يُحضِر بواسطة الريموت كنترول إنسانًا آليًا لكي يقوم بإفراغ حمولة سفينة التموين ، وبالفعل تحرّك إنسان آلي كان مرتكنًا في أحد الجوانب ، ثم تحرّك إنسان آلي آخر من ورائه ، واتجها نحو باطن سفينة التموين ليخرجا قنينات الأكسجين التي تأتي كاحتياط في حالة الطوارئ ، وعلب الطعام وغيرها .
أقبل باقي الرواد وتزاحموا على كيس البريد ، واتخذ كل واحدٍ منهم ركنًا يقرأ فيه خطاباته ، أمّا " جاك " فقد صرخ عاليًا :
- هذا شيء عجيب !
انتبه البعض من الواقفين ، فأكمل ، وهو يمسك بأحد الخطابات :
-كنتُ قد أرسلتُ صورًا لي وأنا على ظهر المحطة إلى أحد أصدقائي، فأرسل يقول لي أنني صرتُ صغيرًا في السن ، ويقول إنني أبدو في الصورة كأنني في العشرين من العمر ، بينما أنا الآن في الثلاثين .
علّق أحد الرواد بقوله :
- هذا شيء طيب ، عليك أن تستمر في المكوث هنا حتى تصل إلى سن الطفولة .
سمع " وليم " الحوار ، فأقبل يقول :
- لا تتعجب يا صديقي " جاك " ، فالمسألة ببساطة أن الجاذبية الأرضية عندما تنعدم ، فكل شيء كما ترى ، يرتفع عاليًا ، وكذلك الدماء والسوائل في جسمك يتجمع الكثير منها في منطقة الرأس والوجه ، فيبدو الوجه أكثر نضارة وصغرًا .
تساءل " رونالدو " :
- لهذا السبب نحن نقوم بأداء التمرينات الرياضية صباحًا ومساءً على أجهزة الرياضة ، أليس كذلك ؟
أجابه " وليم " وهو يشير إلى رجليه :
- بلى يا عزيزي ، لقد قرأتُ أن أرجل الإنسان تحتفظ على الأرض حيث توجد الجاذبية الأرضية بكمية من الدم تصل إلى ( 0.7 ) من اللتر في المتوسط ، وحوالي لتر ونصف من الماء . ولكن نحن هنا لا توجد ..
أكمل " جاك " :
- آه .. آه .. نحن هنا لا توجد جاذبية أرضية ، وبالتالي كل الدماء تتجمع في رأسي .. وبالتالي فلا توجد دماء في قدميّ ، فلو قمتُ بشقهما بسكين فلن يتقطر الدم ..
تدخل أحد الرواد ضاحكًا :
- لا تحزن يا جاك ، الدماء تصل لأرجلك مع الرياضة ، وجسم الإنسان يتكيف بالتدريج مع الحياة في الفضاء ، فيرسل القلب بعض الدماء إلى الأرجل .
قال "وليم " بابتسامة إشفاق :
- ذكّرني يا جاك أن أقص عليك قصة " رومانينكو " عندما نتجمع لتناول الغذاء .
استفسر جاك بقلق :
- ومن هو روما.. روما نينكو ..هذا ؟
لم يرد " وليم "لأنه كان قد أسرع بالحركة ، فقد أوشك الإنسانان الآليان على نقل ما جاءت به سفينة التموين إلى داخل المحطة ، فراح " وليم " يوجههما باستخدام الريموت كنترول حيث تحرّك إنسان آلي منهما حاملاً الأكياس والعلب لكي يشوّنها في مخزن المحطة، بينما نقل الإنسان الآلي الآخر قنينات الأكسجين الإضافية إلى غرفة الأكسجين .
جذب " رونالدو " زميله " جاك " ، وقال :
- لنعد الآن إلى غرفة الاتصالات فموعد الاتصال الثاني قد حان .
* * *
وصل الاثنان إلىغرفة الاتصالات ، حيث اتخذ " جاك " مكانه أمام جهاز الاتصال بالأرض ، وبدأ في تشغيل الجهاز ، بينما راح " رونالدو " يثبت سماعة فوق أذنيه، وكانت تلك السماعة لا تصله بالأرض مباشرة ، بل تتصل بإحدى سفن الفضاء التي انطلقت من محطتهم الفضائية في رحلة إلى القمر ، وكان على متنها زميلان من زملائهما في المحطة الفضائية ، وهما " بيل " ، و" يوري " .
ارتفع صوت " جاك " يرد على الاتصال الذي جاءه من الأرض :
- آلو .. ، وصلت سفينة الشحن ، وقمنا بإفراغ حمولتها .
- لن تغادر قبل أن تحمل على متنها نتائج الأبحاث الزراعية التي طلبتموها منّا .
- من الممكن أن تتحرك سفينة الشحن غدًا ، وسيتأكد فريق الفحص الفني من كفاءة أجهزتها .
أنهى " جاك " الاتصال بتثبيت السماعة في مكانها بلوحة الأزرار ، بينما كان "رونالدو" يحاول أن يتصل بمكوك الفضاء الذي اتجه للقمر ، وبالفعل نجح في الاتصال ، فارتفع صوته قائلاً :
- أهلاً " يوري " ، كيف حالك ؟ وما أخبار " بيل " ؟
- حمدًا لله أنكما في طريقكما للعودة إلينا .
- ماذا تقول ؟ غير معقول .. غير معقول ..
- أسرعا بالعودة ، وستجدوننا في انتظاركم .
اصفرّ وجه جاك ، عندما سمع كلمات زميله الأخيرة ، لقد ظن أن مصيبة حدثت لمكوك الفضاء المتجه للقمر ، قال جاك :
- تبدو بارد الأعصاب يا رونالدو ! ماذا حدث لمكوك القمر ؟
أجابه رونالدو مطمئنًا :
- لقد نجح المكوك في الهبوط على سطح القمر بسلام ، وجمع الرائدان عينات كثيرة من الصخور والرمال من فوق سطح القمر .
قاطعه " جاك " :
- نعم أعرف أنا هبط في بحر الظلمات على سطح القمر .. ولكن ماذا حدث ؟
- أبدًا .. اصطدم المكوك بصخرة كبيرة ، عند صعوده ، مما أدى لحدوث بعض التلف في جانب من غطائه المعدني الخارجي ..
مشدوهًا قال جاك :
- تلف .. ، كيف ؟ وكيف ستعود ؟
- لا تقلق ياصديقي هذه أمور معتادة ..
سكت " جاك " قليلاً ، ثم رفع صوته متسائلاً :
- ولكن لماذا لم ينطلق هذا المكوك من قاعدة أرضية مثلما كان يحدث في الماضي ؟
ابتسم " رونالدو" :
- لعلك تقصد أول هبوط للإنسان على سطح القمر ، في رحلة " نيل آرمسترونج " ..
أحنى "جاك " رأسه موافقًا ، فأردف " رونالدو" :
- لقد كان هذا في الماضي القريب ، وإن من أهداف تلك المحطة الفضائية هي انطلاق سفن الفضاء إلى بعض الكواكب منها ، وذلك اختصارًا للوقت وللمسافة ..، فبدلاً من العودة ثانية للقاعدة على الأرض ، يقوم مكوك الفضاء بالعودة إلى محطتنا للتزود بالوقود والطعام والأكسجين ، ثم يتجه إلى رحلة أخرى .
- ولكن هذه السفينة أصيبت بأعطال !
- حتى لو أصيبت بأعطال ، فإن قسم الصيانة هنا به خبراء للإصلاح .. ، أنت ما زلتَ جديدًا علينا ، وفرق بين الحياة على الأرض ، والعيش في المحطة الفضائية فرق كبير
قال جاك :
- نعم فرق كبير ، كانت معلوماتي وأنا قادم إليكم نظرية ، والآن أعايش كل يوم جديدًا في عالم الفضاء .
طارا الاثنان خارج الغرفة ، وقال " جاك " :
- إن طريقي مختلف عنك يا صديقي .. إنني ذاهب إلى معمل البحوث الزراعية ، هل ستأتي معي ؟
فكّر " رونالدو " ، ثم قال :
- ولماذا لا ؟ أمامنا متسع من الوقت لحين وصول سفينة القمر .
* * *
أمام غرفة " الأبحاث الزراعية " ، ضغط " جاك " على زر ، فأضئ مصباح لونه أخضر مثبت في أعلى باب الغرفة ، كانت تلك إشارة الدخول ، فتح " رونالدو " الباب، كان العالم " ميخائيل " المتخصص في أبحاث الزراعة الفضائية منهمكًا بالنظر في قاع أنبوب ، سلَّمَ " جاك " عليه قائلاً :
- كيف حالك يا من تريد إطعامنا نباتات دون تربة أو نباتات الهواء فقط ؟
رفع " ميخائيل " حاجبيه من تحت نظارته ، وقال :
- ألن تكف يا جاك عن الاستهزاء بعملي ؟ إذن لن تأكل مما أزرع أبدًا ، أحضر طعامك من بيتك على الأرض .
" جاك " ضاحكًا :
- منذ جئتُ إلى هنا وأنت تعدني بأننا سنأكل من زراعتك ولم يحدث ؟
- اطمئن .. ، سيحدث قريبًا ، فالتجارب الزراعية على متن المحطات الفضائية تبشّر بطعام كثير .
أمسك "جاك " رأسه وقال :
- أخشى أن يطير عقلي ، كيف أقنع عقلي أن الزراعة ممكنة دون تربة .. دون طين ..
عدّل " ميخائيل " من وضع نظارته ، وتساءل:
- وما فائدة التربة للنبات ؟
هزّ جاك كتفيه ، وقال :
- هذا سؤال إجابته بسيطة .. ، إن النبات يأخذ عناصر غذائه من التربة .
- ولو قمنا يا زميلي جاك باستخلاص تلك العناصر من التربة ، ثم وضعناها في محاليل كيميائية ، وقدّمناها إلى البذرة ، ألن تستفيد منها ؟
تدخل " رونالدو" الذي كان يستمع ، وقال :
- بلى سيستفيد النبات ، وسينمو ، وسنأكل .
جاك صائحًا :
- نأكل .. نأكل .. ماذا نأكل ؟
قال " ميخائيل " :
- ستأكل الكرنب والبصل ..
وأكمل رونالدو :
- في تجربة محطة الفضاء الروسية " ساليوت – 1 " نجح علماء تلك المحطة في استنبات بعض نباتات الكرنب الصيني والبصل .. ، وصديقنا " ميخائيل " يستنبت الطماطم وبعض الخضراوات .
تساءل "جاك " :
- حسنًا ، ولماذا تضع بعض الزجاجات التي بها نباتاتك في كل غرفة بالمحطة يا ميخائيل ؟
ردّ عليه بسؤال استفهامي :
- ماذا يستنشق النبات في فترة النهار وماذا يخرج ؟
قال " جاك " :
- كما أعرف ، فإن النبات في النهار يستنشق ثاني أكسيد الكربون ، ويخرج الأكسجين.
ثم ضرب رأسه بقبضة يده وقال :
- نعم .. ، لقد فهمتُ الآن ، هو يأخذ من أنفاسنا في المحطة ثاني أكسيد الكربون ، ويعطينا الأكسجين … يا لها من فكرة !
قال ميخائيل بتؤدة :
ولو لاحظت في نوافذ المحطة التي يقع النبات بالقرب منها ستجد بعض المرايات العاكسة لضوء الشمس ، حيث تقوم بتجميع ضوء الشمس ونقله إلى داخل المحطة الفضائية ، فيقوم النبات بعملية البناء الضوئي .
هتف "جاك " :
- إذن ، لماذا لا تزرع لنا خضراوات طازجة ؟
قال " رونالدو " :
- المسألة الآن في طور التجربة ، ولن تتم الزراعة الاقتصادية الكثيرة إلا بعد التأكد من سلامة عملية الاستنبات كلها .
ثم التفت " رونالدو " إلى " ميخائيل " متسائلاً :
- كنتَ قد أخبرتني أن هناك بعض الصعوبات التي ما زالت تواجه عملية الزراعة .. ماذا فعلت للتغلب عليها في تجاربك الأخيرة ؟
قال " ميخائيل " :
- إن المشكلة العويصة التي واجهتنا هي أن التربة على الأرض تحتوي على أحياء صغيرة جدًا ، تقوم هذه الأحياء بتوفير " النيتروجين " في ذرات التربة ، وتلك الأحياء غير موجودة هنا ..
بسرعة تساءل جاك :
- نعم تلك مشكلة ، وما حلها ؟
- حلها يكمن في توفير عنصر النيتروجين بطريقة مذابة مع العناصر الكيمائية الأخرى ، وهذا ما فعلته في تجربتي الأخيرة ، والنتائج تبشر ببعض الأمل .
- عمومًا ، فإن علماء المحطة الأرضية يطلبون آخر أبحاثك … وهذا هو سبب زيارتنا .
قال " ميخائيل " :
- تذويب النيتروجين مع العناصر الكيميائية هو آخر بحث لي ، انظرا ..
نظر الاثنان إلى حيث أشار ، كانت نبتة خضراء صغيرة في قعر إحدى القنينات الزجاجية،
وقال ميخائيل :
- تلك هي الطماطم الفضائية .
ضحك الجميع ، فأكمل حديثه :
- وهي ستصل إلى الأرض عند عودة سفينة الشحن ، حيث سيقوم العلماء على الأرض بفحصها جيدًا ، ومواصلة استنباتها في ظروف مشابهة لظروف محطتنا ، المهم أن يكون النبات محتويًا على مختلف العناصر الغذائية التي يحتاجها الإنسان .
كانت حبات عرق قد ترقرقت على جبهة " ميخائيل " ، بفعل انهماكه الشديد في العمل، فهو يحب النباتات إلى حد العشق ، نظر " رونالدو " إليه ، وقال :
- تخيل يا ميخائيل أنك أول زميل لنا أراه اليوم يعرق .
انتبه ميخائيل وقال :
- عجبًا ، لهذه الملاحظة .
- كل ما في الأمر ، أنني لم أشاهد أحدًا ينزل قطرات عرق .
ضحك " ميخائيل " وقال :
- فهمت ، تقصد أن جهاز العرق لم يعمل اليوم ، لا .. لا .. ، لقد شاهدت عدة زملاء على المحطة وهم يفرغون عرقهم في الجهاز .
وبسرعة ، أخرج " ميخائيل " أنبوبة فتحتها واسعة ، واستخدم قطعة بلاستيكية رقيقة لكي ينزل العرق في الأنبوية . كان جهاز " تحويل العرق إلى ماء عذب " موجودًا في معمله ، حيث يقوم هذا الجهاز بتخليص عرق رواد المحطة من الأملاح المذابة فيه ، ومن سائر العناصر الأخرى ، بحيث يصفو تمامًا ويتحول إلى ماء عذب ، صالح للشرب ، فيستغله " ميخائيل " في عمليات الزراعة .
أشار " جاك " إلى الجهاز ، وقال :
- هل من الممكن أن يستفيد الإنسان من هذا الجهاز على الأرض ؟
ردّ عليه " رونالدو " بسؤال آخر :
- ولماذا تستفسر ؟
أجاب " جاك " :
- لأن هناك كثير من المواقف التي تحدث على الأرض ، ويحتاج الإنسان لشربة ماء ولا يجدها ، وكم من الآلاف الذين ماتوا من العطش بسبب الحرمان من الماء .
قال " ميخائيل " :
- هذه ملاحظة جيدة منك ، نعم ، هذا الجهاز تم اختراعه لخدمة رواد الفضاء ، ولكنه بقدر من التطوير عليه ، من الممكن أن يستخدم على الأرض .
- وهل هناك تجارب لذلك ؟
- نعم ، لقد قرأت عن قيام بعض علماء الفضاء بعمل تطويرات في هذا الجهاز ، حتى يستفيد منه الذين يسافرون في الصحراء القاحلة ، ويعرقون كثيرًا ، فيتم تحويل هذا العرق إلى ماء صالح للشرب .
- إذن ، فهو جهاز اقتصادي ، وسيحل مشكلة نقص المياه في السفر ؟
تدخل " رونالدو " في الحديث :
- إن أبحاث الفضاء قد أفادت الإنسان على الأرض كثيرًا ، وجهاز العرق هذا ، بعض مما استفاده الإنسان .
ميخائيل :
- هل تعرفان أن أطباء التجميل قد بدأوا يستفيدون من طب الفضاء ؟
استفهم الاثنان بنظريهما ، فأردف :
- عندما تأكد أطباء التجميل من أن وجوه رواد الفضاء تبدو أصغر من عمر أصحابها الفعلي قرروا أن ..
قاطعه " جاك " :
- نعم لقد حدث هذا معي ، لقد أخبرني أحد أصدقائي على الأرض بأن شكلي يبدو صغيرًا في الصور التي أرسلتها له .
قال " ميخائيل " مبتسمًا :
- قرر أطباء التجميل أن يعالجوا مرضاهم الذين تمتلئ وجوههم بالتجاعيد ، ولا توجد نضارة فيها ، فعالجوهم بأن حقنوا كمية من المواد التي بها قدر من عناصر السوائل في الوجه وفي الرقبة .
هتف جاك :
- آه .. آه .. ، إن أبحاث الفضاء أفادتنا كثيرًا .
* * *
حين خرج جاك ورونالدو من المعمل الزراعي ، نظر " رونالدو " في ساعته ، ثم أسرع يقفز إلى غرفة الاتصالات ليتعرف على أخبار المكوك العائد من القمر ، فعرف أنه سيلتحم بالمحطة الفضائية بعد ساعتين، فأسرع إلى غرفة الطعام ، حيث كان كل رواد المحطة الفضائية متجمعين ، وقد شرعوا في تناول الطعام ، الذي كان يتألف من بطاطس باللحم وقطع جبن ، وشطائر خبز ، وعصير فواكه متعدد الأنواع .
جلس الجميع ، وراحوا يتبادلون الأحاديث .
تذكر " جاك " أمرًا ، فنظر إلى زميله " وليم " وقال له :
- وليم . . وليم ..
التفت إليه " وليم " مستفهمًا ، فأكمل " جاك " سؤاله :
- كنت قد وعدتني بأن تحدثني عن شخص يسمى روما .. روما نينكو .. أهكذا اسمه ؟
- نعم هو اسمه ، ولاشك أنك قد سمعتَ عنه أثناء التدريبات على الأرض ، فهو مشهور بأنه صاحب الرقم القياسي للبقاء قي الفضاء في العام 1987 .
تفكّر جاك قليلاً ، ثم قال :
- فعلاً من الممكن أن أكون قد سمعتُ عنه . ويبدو أن ذاكرتي قد ضعفت هنا .
ضحك أحد الرواد ، وقال له :
- بل محيت ذاكرتك هنا يا جاك ، إنك تسأل عن كل شيء .
شعر "جاك " بالخجل ، وقال :
- عذرًا ، فأنا كنتُ مشتاقًا جدًا للفضاء وأنا على الأرض ، ولكنني عندما جئت إلى هنا، شعرتُ ببعض الضيق ، لأنني تركت أهلي وأصحابي ..
قاطعه " ميخائيل " :
- هذا أمر عادي ، وكلنا مررنا بذلك ، ولكنك ستعتاد على الفضاء ، وبل وستشتاق له كلما عدتَ إلى الأرض .
أكمل " وليم " حديثه :
- إن رائد الفضاء " رومانينكو " كان في المحطة المدارية الروسية " مير " ، وقد قضى على ظهر هذه المحطة حوالي ( 326) يومًا أي أحد عشر شهرًا ، وهذه هي المرة الأولى التي يقضي فيها أحد هذا الوقت في الفضاء .
هتف " جاك " :
- يا إلهي ، إنها فترة طويلة بالفعل ، كم رائدًا كان معه ؟
وليم :
- كان معه رائدان آخران ، ولكن كلاهما أعيدا للأرض بعد فترة ، فأحدهما لم يتحمل البقاء طوال هذه الفترة ، والثاني تعرض لمتاعب صحية ، فعاد الاثنان إلى الأرض .
- ورومانينكو هذا ، هل ظل وحيدًا ؟
- نعم ، ظل بمفرده على ظهر المحطة الفضائية "مير " ، حتى عاد للأرض ثانية .
- يا له من بطل عاش في الفضاء هذه الفترة .
- انتظر ، هناك المزيد ..
- ماذا بعد ؟
كان كل رواد الفضاء المتجمعين للغذاء قد أنصتوا لحديث " وليم " ، الذي أكمل :
- صعد رومانينكو ثانية إلى المحطة ، بعدها بعدة شهور ، حيث ظل متواجدًا عليها لفترة وصلت إلى ( 366 ) يومًا .
قال أحد الحاضرين :
- أي عام ويوم واحد .
- والغريب في الأمر ، أن الأطباء وقتها كانوا يقولون أن مدة البقاء القصوى للإنسان في الفضاء هي ستة أشهر ، إلا أن رومانينكو حطمها وقضى عامًا ..
- هذا يعني أن الإنسان له قدرات عظيمة ..
- بل في كل مرة ، عندما كان يعود للأرض ، كان يسير على قدميه ، عندما ينزل من سفينته ، ولا يرقد في محفة الإسعاف .
ارتفعت صيحات الإعجاب من الجميع ، لأن كل من يعود للأرض يكون غير قادر على السير بحكم التغيرات التي تحدث في الجسم .
واصل " وليم " حديثه :
- لقد كان رومانينكو صاحب لياقة بدنية عالية ، وبالرغم من أن عمره وقتها ثلاثة وأربعون عامًا إلا أنه كان يمارس الرياضة كثيرًا في المحطة الفضائية مير .
قال " جاك " :
- وهل وقف الأمر عند رومانينكو فقط ؟
أجاب وليم :
- لا بالطبع ، بل هناك من تخطى هذا الرقم ، وهو الرائد الروسي " فاليري بولياكوف " حيث قضى داخل المحطة "مير " حوالي ( 438 ) يومًا ، فتجاوز رومانينكو بحوالي (72 ) يومًا وقد أنهاها في مارس عام 1995 .
ابتسم الجميع لغزارة معلومات وليم ، وشكروه على هذه الوجبة العلمية الدسمة ، أما جاك فقد رفع صوته قائلاً :
- إنني سأحاول قضاء فترة طويلة هنا ،ولكن لا تسألوني عن طولها ، ولكن سأحاول .
عقب الغذاء ، انصرف الجميع إلى أعمالهم ، أما رونالدو فإنه أسرع إلى كابينة الاتصال ، وأجرى الاتصال مع مكوك الفضاء العائد من القمر ، فعرف أنه اقترب من المحطة ، فغادر الكابينة .
* * *
وقف " رونالدو " أمام مقدمة المحطة ، حيث البوابة الرئيسية ، ومن حولها البوابات الفرعية الأربعة ، وكان باقي الرواد قد حضروا معه ، عندما أخبرهم بخبر وصول مكوك القمر، وما هي إلا لحظات ، حتى شاهد الجميع مكوك الفضاء يقترب ببطء من المحطة الفضائية ويلتصق بالبوابة الرئيسية ، بعدما التحم عن طريق الذراعين بالأنبوب المعدني الطويل الممتد من البوابة الرئيسية . انفتحت البوابة الرئيسية فظهر الأنبوب الممتد ، وانفتح في المقابل باب مكوك الفضاء ، وخرج منه الرائدان " بيل " ، " يوري " وعبرا الأنبوب إلى بوابة المحطة ، كانا لا يزالان بملابس الفضاء الفضية اللون ، تبادل الجميع العناق معهما، ثم انصرفوا إلى غرفة الطعام للاستراحة ، حيث أخذوا مقاعدهم فيها ، وربطوا الأحزمة حول أجسادهم .
تساءل " رونالدو " :
- ما أخبار الاصطدام الذي حدث في سفينتكم ؟
قال " بيل " :
- لقد تمزّق الغلاف المعدني الخارجي الواقي ، وهذا تسبب في ارتفاع درجة الحرارة في المكوك ، ولكننا قمنا بتثبيت غطاء معدني فوق هذا الجزء الممزق عندما اكتشفناه فوق سطح القمر .
قال " ميخائيل" :
- لقد أحسنتم الصنع بتصرفكم هذا ، ولكن كيف أمكنكم تثبيت هذا الجزء في خارج المكوك ؟
أجاب " يوري " :
- إن أدوات اللحام كانت معنا ، ولابد أن نستفيد منها . وعندما تم هذا العطل فقد خطر على بالي تجربة اللحام في الفضاء الخارجي التي قام بها رواد محطة الفضاء الأمريكية الشهيرة " سكاي لاب " في عام 1973، حيث تدربوا على تجربة اللحام في الفضاء .
هتف " وليم " :
- ياله من تصرف حكيم ، أذكر أن الرواد في سكاي لاب قضوا ( 28 ) يومًا على ظهره ، وهم الذين أصلحوا عطلاً كان في الدرع الواقي للمحطة ساعتها ، حيث نشروا مظلة معدنية فوق الجزء الممزق ، وقد تم كل هذا في الفضاء .
تساءل جاك :
- في محطة سكاي لاب هل تأثرت المحطة من الداخل بتمزق الدرع الواقي ؟
أجاب وليم :
- نعم ، فهذا الدرع يحمي المحطة من حرارة الشمس التي ارتفعت في داخل المحطة وقتها ، لولا مسارعة الرواد بإصلاحها .
أخرج " يوري " من جيبه كيسًا بلاستيكيًا ، وقد امتلأ ببعض الأحجار التي راح يوزعها على الحاضرين ، قائلاً :
- هذه هي الهدايا التي أحضرناها لكم من أرض القمر .
كانت الأحجار لها لون غريب يقترب من اللون الرمادي واللون الأسود ، وبينما راح الجميع ينظرون فيها ، قال " بيل " :
- هذه الأحجار هدية لكم ولأسركم على الأرض ، وهي بعيدة عن التجارب الفضائية ، فقد أحضرنا على ظهر المكوك أكياسًا أخرى للفحص في المعامل .
انصرف " بيل " ،و " يوري " إلى كيسيهما للنوم والراحة ، بينما راح زملاؤهما ينقلون ما في داخل المكوك من أغراض وقنينات الأكسجين الفارغة ، وأكياس أحجار ورمال القمر إلى غرفة الأبحاث وإلى المخزن بمساعدة من الإنسان الآلي .
* * *
أسرع " رونالدو " بالجلوس في غرفة الاتصالات ، وراح يقدّم تقريرًا إلى القاعدة الأرضية عن المكوك الفضائي ، قائلاً :
- نعم .. ، لقد عاد إلى محطتنا .
- آه .. ، كان العطل بسيطًا ، فقد كان في الجدار الخارجي .
- لقد فاجآني بإصلاحه … ، حيث قام " بيل ويوري " بوضع غطاء خارجي عليه ، ولحام هذا الغطاء .
ضحك " رونالدو " ، فقد سأله زميله من المحطة الأرضية عن أحوال جاك ، فقال رونالدو ، وهو يتطلع إلى جاك :
- إن جاك الآن بجواري .. ، هلا تحدثتَ معه .
ظهر التعجب على وجه جاك ، وهو يضع السماعة على أذنيه ، وقال :
- ماذا تقول يا جيمس ؟ إنني أحب الفضاء ، وأريد البقاء هنا .
وأردف غاضبًا :
- لا .. لا .. ، كنتُ في البداية أشعر بالملل ، ولكنني الآن في غاية السعادة ، سأفعل مثل رومانينكو الروسي .
عندما انتهى الاتصال ، تساءل " جاك " بغيظ :
- أريد أن أعرف من أخبر جيمس على الأرض بأنني أشعر بالملل ..؟
أجاب " رونالدو " ببرود :
- أنا .. لماذا ؟
بحنق ، قال جاك : أنت تحب الفتنة يا صديقي .
ضحك " رونالدو " عاليًا ، وهتف :
- إن واجبي يتطلب مني أن أرسل تقريرًا عن كل فرد هنا ..
تناول " جاك " علبة عصير فارغة ، من داخل كيس القمامة المعلق بالقرب من لوحة المفاتيح ، وقذف بها " رونالدو " .. ، ضحك الأخير بقهقهة عالية ، لأن علبة العصير طارت إلى سقف الغرفة ، وتعلقت به .
* * *
في غرفة الطعام ، جلس الجميع ، وقد راح البعض يتثاءب ، وأمسك البعض بجرائد ومجلات حديثة جاءت مع سفينة الشحن ، وهم يتناولون طعام العشاء المكون من سالمون وأرز بالدجاج وجاتوه وكاكاو.
* * *
هتف " رونالدو " وهو يغلق عليه كيس النوم :
- جاك ..
أجابه " جاك " من الخارج :
- نعم .. ، ماذا تريد ؟
- هل ستحلم أحلامًا أرضية الليلة ، أم أحلامًا فضائية ؟
- وكيف لي أن أعرف ؟ !
- سأعرف أنا عندما أستمع إلى صوتك في النوم .
- ماذا ؟! تستمع لصوتي ؟
- نعم ، عندما يرتفع شخيرك أعرف أنك تتعارك معي في النوم ، لأنك فشلت في العراك في اليقظة ..
بغيظ هتف جاك :
- لقد تركتك ولم أضربك رأفة بك وبأولادك .
أكمل " رونالدو " حديثه :
- وعندما ينخفض صوت شخيرك في النوم ، فلاشك أنك تحلم أحلامًا أرضية ، وفي هذه الحالة سأخرج من كيسي وأنهال عليك ضربًا ، حتى أفسد حلمك ..
صرخ " جاك " :
- لا بل أنا الذي سأنهال عليك ضربًا الآن ..
وأسرع يضرب كيس " رونالدو " من الخارج ، بينما قهقه الآخر عاليًا ، فلم يكن يشعر بأثر قبضات " جاك " بسبب سمك الكيس .
أهم المراجع
- سعد شعبان ، الأقمار الصناعية وسفن الفضاء ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1973
- سعد شعبان ، الحياة في سفينة فضاء ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1995 .
- سعد شعبان ، الطريق إلى المريخ ، عالم المعرفة ، الكويت ، 1997 .
- د . محمد بهي الدين عرجون ، الفضاء الخارجي واستخداماته السلمية ، عالم المعرفة ، الكويت ، 1996 .
صديقي القارئ العزيز ، سأطرح عليك عدة أسئلة :
عندما يتطلع أي فرد للفضاء حيث النجوم والكواكب ، ماذا يتمنى ؟
ستتبادر إلى عقلك إجابات متعددة ، ولكن أهمها : أن كل فرد يطمح في الوصول للفضاء ليتعرف ما فيه ، وبعض الناس يشطحون في الخيال ، ويحلمون بالإقامة فيه .
والسؤال التالي :
هل من الممكن أن يعيش الإنسان في الفضاء ؟
مع التقدم الهائل الذي حدث في الأربعين سنة الأخيرة في علوم الفضاء ، نستطيع أن نقول: نعم من الممكن أن يعيش الإنسان في الفضاء .
كيف ؟
لقد استطاع الإنسان أن يغزو الفضاء ، فدار بصاروخ حول الأرض ، ثم صعد إلى القمر، ثم أرسل سفن فضاء إلى الكواكب الأخرى كالزهرة وعطارد والمريخ .
والآن ، بدأ الإنسان يفكّر في الإقامة في الفضاء ، عن طريق قيامه ببناء محطات فضائية. والمحطة الفضائية هي بناء معدني له شكل الإسطوانة الكبيرة مثل محطة الفضاء الأمريكية "سكاي لاب " التي أطلقت في العام 1973م ، وقد بلغ ارتفاعها حوالي (15) مترًا ، وقطرها ( 6.6 ) متر ، وهي مقسمة إلى غرفتين : غرفة إعاشة سفلية ، وتضم ثلاث قمرات ( غرف ) صغيرة يقيم فيها الرواد ، وغرفة للتدريبات الرياضية وحمامًا ومطبخًا ، بينما خصصت الغرفة العلوية للتجارب العلمية ، وبها بوابات للخروج والدخول ، واستقبال سفن الفضاء .
وهناك المحطة الفضائية الروسية "مير " التي أطلقت في شهر فبراير من العام 1986م ، وهي أكثر تطورًا من السابقة ، وتتكون من وحدة رئيسية تستخدم للإعاشة والتحكم في المحطة كلها ، وتتصل بها وحدات أخرى منفصلة ، يتم إجراء التجارب العملية فيها ، كما تتصل خمس بوابات بالوحدة الرئيسية ، تستقبل سفن الفضاء الأخرى .
ما الهدف من بناء هذه المحطات ؟
ليس هدفًا واحدًا ، بل أهدافًا متعددة ، أهمها : تدريب رواد الفضاء على الإقامة الطويلة في الفضاء ، وانطلاق مركبات فضائية من المحطة لاستكشاف الكواكب والأقمار، بدلاً من العودة ثانية إلى الأرض .
وكذلك : تدريب رواد الفضاء على السفر الطويل إلى الكواكب البعيدة ، مثل المريخ ، فالرحلة إليه ستستغرق حوالي ثلاث سنوات . وتطمح الولايات المتحدة أن يهبط الإنسان على سطح المريخ قبل عام ( 2019 ) م .
والآن :
نحن سنصطحبك لقضاء يوم على متن إحدى المحطات الفضائية ، حيث ستتعرف على بعض أفرادها ، وتعرف ماذا يجري على متنها ، وذلك من خلال يوم من رحلة الصحفي "جاك " مراسل مجلة " الفضاء الخارجي "، والذي أراد أن يعيش على متن إحدى المحطات الفضائية وينقل لقراء المجلة تجربته بعد ذلك ، إلا أن علماء الفضاء على الأرض اشترطوا عليه أن يقوم ببعض الأعمال على متن المحطة ، فلا وجود لمن لا يعمل فيها .
فهيا بنا ..
هيا بنا .. مع " جاك " .
استيقظ " جاك " من نومه ، وفرك عينيه بظهر إصبعيه السبابة ، ثم حرّك يده في داخل الكيس البلاستيكي ؛ ليفكَّ السوستة ، ويخرج من الكيس . كان زميله " رونالدو " قد خرج هو الآخر من كيسه ، فكلا الكيسين مثبتان في جدار المحطة الفضائية ، ومن أراد أن ينام فلينمْ واقفًا .
- صباح الخير يا رونالدو .
- أهلاً جاك ، كيف كان نومك ؟
- لقد نمتُ بعمق ، وحلمتُ أحلامًا سعيدة .
- خيرًا ، ماذا ..؟
- حلمتُ بأنني في بيت أسرتي على الأرض ، وأنني أتناول معهم غذاء عطلة نهاية الأسبوع ، وكنتُ أتبادل الضحك مع أخي وأختي .
ابتسم له " رونالدو " ، وقال :
- بالطبع ، رحتَ تتذكر سريرك في غرفتك ، وأنت تنام مضطجعًا عليه .
- يظهر أننا نسينا النوم ونحن مستلقين على أسرّتنا ، و لسنا واقفين في أكياس .
قال " رونالدو " :
- ولكن الجسم يشعر بالراحة في كل الأحوال ، والدليل أنكَ تنام بعمق ، وبملء جفونك وأنت واقف ، أليس كذلك ؟
- بلى ! فالله قد جعل جسم الإنسان قادرًا على التكيف مع كل بيئة ، ولو كان في الفضاء .
- عمومًا ، لقد اشتقنا كثيرًا إلى أمنا الأرض ، واليوم موعد وصول سفينة الشحن والتموين ، وستحمل إلينا خطابات من أهلنا هناك .
أحنى " رونالدو " رأسه مصدقًا على كلامه ، ثم تحرّك الاثنان لينظرا في النافذة الزجاجية، كانت الكواكب تسبح في الفضاء الفسيح ، والنجوم تتلألأ بأشعة عالية ، وهناك كان كوكب " الأرض " لونه أزرق بفعل مياه البحار والمحيطات التي تغطي ثلثي مساحته ، في حين تجاورت القارات الخمس بجوار بعضها . هكذا ، رأى " جاك ورونالدو" الأرض .
تطلع جاك إلى النصف المضيء من الكرة الأرضية ، وقال :
- الآن ، فترة النهار في مدينتنا بأمريكا الشمالية ، الناس الآن يعملون بنشاط في يومهم .
- نعم ، بينما الناس في نصف الكرة الأرضية الآخر ، يغطون في نوم عميق .
اعتلى " جاك " الدراجة الرياضية المثبتة في أرضية الغرفة ، وراح يحرّك رجليه أسفل الدراجة ، وقال :
- من المهم فعلاً أن أمارس هذه الرياضة ، فقبل أن آتي إلى هنا منذ شهر ، كنتُ لا أهتم كثيرًا باللعب على أجهزة الرياضة تلك .. ، لقد كنت أعشق كرة السلة لدرجة الجنون ، وأقمت أمام بيتي ملعبًا لكي أمارسها مع أصدقائي .
أجابه " رونالدو " ، وكان يتأهب للولوج إلى الحمام :
- عمومًا أنت ضيف علينا هنا ، وعلماؤنا على الأرض درسوا كل شيء . إنني إن لم أمارس التدريبات الرياضية فإن الدم يتجمع في أعلى جسمي .
- أجل يا رونالدو ، فإن في الفضاء الخارجي لا توجد جاذبية أرضية ، وبالتالي كل شيء لا يثبت في مكانه ، وبالرغم من التدريبات التي تدربتها في محطة على الأرض فيها كل صفات تلك المحطة الفضائية التي أحيا فوقها ، ولكن هنا الخبرة عملية ومفيدة .. و .. ومقلقة قليلاً ..
ثم أردف " جاك " بصوت هامس :
- عندما رشحتني مجلتي ، مجلة " الفضاء الخارجي " لكي أعيش على متن هذه المحطة ، كنت متحمسًا جدًا ، ولكنني بدأت أخاف قليلاً .
قال " رونالدو " :
- يا جاك العزيز ، لا تقلق .. ، فهناك من زملائنا من قضى هنا أشهرًا طويلة ..
أشار " جاك " إلى زر ، وقال :
- قم بتشغيل جهاز البول كما أخبرونا .
ثم قال بصوت هامس بحيرة :
- أشهر طويلة ، لا .. لا يمكن .. ، فأنا مستعد لشهرين أو ثلاثة ..
لم يسمعه " رونالدو " ، الذي رفع صوته :
- شكرًا لك يا جاك ، لقد ذكّرتني بضرورة تشغيل جهاز معالجة البول ، حتى يتحول البول إلى وقود للجهاز الذي ينتج الأكسجين لمحطتنا .
وضغط بإصبعه على زر عند باب الحمام ، ليشغّل الجهاز فبدأت ماكينته في العمل ، حيث تتلقف البول ، وتعالجه لتحوّله إلى وقود لتشغيل جهاز إنتاج الأكسجين .
* * *
اتجه "جاك " إلى علبة بلاستيكية كبيرة ، حيث توجد بها كثير من العلب الصغيرة . إنها علبة حفظ الطعام ، راح "جاك " يعدّ الإفطار الذي تكون من شرائح الخبز الجاف والجبن ، وبعض البطاطس المهروسة المطهوة مسبقًا والبسكويت وعلب العصير . وبينما كان منهمكًا في فض أغلفة العلب ، ويرصّ أصناف الطعام في أطباق مثبتتة بالمغناطيس على مائدة صغيرة ، كان " رونالدو " يحي زملاءه بإشارة من يديه لهم ، وهم في غرفتهم المواجهة .
قال جاك :
- الغريب في هذا الطعام أنه لا يحتاج إلى مضغ كثير ، إنني أشعر أنه يذوب في لعابي .
قال " رونالدو " وهو يمضغ شطيرة خبز :
- كنتُ حاضرًا في معامل التغذية في القاعدة الأرضية التي انطلقت منها المحطة ، ولاحظت أن مسؤولي التغذية حريصون على تخليص كل طعامنا من الألياف .
ارتسم التعجب على وجه " جاك " ، فأردف " رونالدو" :
- السبب بسيط يا عزيزي ، وهو الحفاظ على لياقة المعدة والأمعاء حتى لا تتعب في هضم الطعام ، وفي إخراج الفضلات الكثيرة .
قال " جاك " :
- نعم ، فحالة جسم الإنسان تضعف وتتغير بعض الشيء في الفضاء .
ردّ " رونالدو " :
- إنني أشعر بأن عضلاتي تترهل ، وأنسجة جسمي تضعف بعض الشيء .
ثم أكمل حديثه ، وهو يقف :
- هيا نتناول العصير ونحن في عملنا ، فأمامنا اليوم عمل كثير .
تحرك الاثنان وبيد كل واحد علبة عصير يرتشف منها ، وكانا في سيرهما إلى غرفة الاتصالات في المحطة يتسندان على الجدران تارة ، وتارة يقفزان عاليًا .
وما إن وصلا إلى غرفة الاتصالات ، حتى أسرع كل واحد بالجلوس على مقعد معدني ، وشدّ حزامًا حول وسطه ، حتى لا يطير ثانية في فراغ الغرفة ، بعيدًا عن الأزرار والمعدات.
كانت مهمة " رونالد " هي التأكد من اكتمال شحن الكهرباء للمحطة والذي كان قد بدأه قبل النوم ، فراح ينظر في عدّاد الشحن الذي أنبأه بأن العملية قد أوشكتْ على الانتهاء . جلس ينتظر وهو يراقب الجناحين الكبيرين اللذين ظهرا من النافذة ، وكان لونهما الأبيض يعكس الأضواء الخارجية التي تظهر من المحطة ، وهي متعددة بين الأحمر والبرتقالي والأصفر .
وبينما كان " جاك "مشغولاً بتجهيز جهاز اللاسلكي الذي يصله بالقاعدة الأرضية ، حيث لايزال الجهاز في بدء عمله ، التفت إلى " رونالدو " متسائلاً :
- خيرًا يا رونالدو ، لماذا تحملق في جناحي المحطة ؟
أجاب " رونالدو " وهو يشير إلى الجناحين الأبيضين :
- لم أكن أتخيّل أن ضوء الشمس سبب في إمدادنا بالكهرباء ، ولولاه لتوقفت المحطة عن العمل .
- إن جناحي محطتنا الفضائية بهما خلايا " كهروضوئية " تقوم بالتقاط ضوء الشمس الساطعة من بعيد ، وتحويله إلى طاقة كهربية .
قال " رونالدو " :
- الشمس مصدر ثابت ودائم للطاقة والحرارة ، ومهما كنّا سنفعل من تخزين للطاقة من الأرض ، كانت ستنفد ، بينما الشمس مشرقة هنا في الفضاء دائمًا .
قال " جاك " :
- إنني يا " رونالدو " عندما أتذكر كيف أن أهلنا في الأرض يعتمدون على النفط ومشتقاته في إمدادهم بمعظم الطاقة الكهربائية والحرارية أتعجب ، فالنفط له بعض الآثار الضارة على البيئة في الأرض .
أجابه " رونالدو " :
-إن تكاليف استخراج وتكرير النفط رخيصة وهذا هو السبب في اعتماد أهل الأرض عليه ، وعامة فإن الشمس والرياح وغيرهما هما مستقبل الطاقة بعدما ينتهي النفط و …
توقف " رونالدو " عن الكلام ، فقد كان عدّاد الطاقة يشير إلى الإفراغ من شحن المحطة بحاجتها من الكهرباء ، في حين وضع " جاك " سماعتي جهاز الإرسال على أذنيه ، وقد بدت على وجهه أمارات الجدّ ، وراح يقول بصوت عالٍ :
- آلو .. آلو .. كيف حالك يا جيمس ؟
- ماذا تقول ؟ سفينة التموين في طريقها الآن إلى محطتنا الفضائية .
- حسنًا ، سنكون في استقبالها .
أنهى " جاك " المكالمة ، والتفت إلى " رونالدو " الذي كان يضبط بعض الأزرار أمامه ، وقال له :
- سفينة التموين ستصل إلينا خلال وقت قليل .
- إذن ، لابد أن نعدَّ مكان استقبالها ، فأنا في غاية الشوق لخطابات من أسرتي .
- علينا الآن أن نمرّ على موضع استقبال سفينة التموين عند مقدمة المحطة .
فكّ كل واحد منهما الحزام الذي يحيط بوسطه على المقعد ، وسرعان ما ارتفع جسداهما بخفة إلى السقف ، مبتعدين عن لوحة التحكم الإلكترونية ، وعن أزرارها الكثيرة ، وطارا بخفة في سقف الغرفة المعدني ، والذي تلوّن باللون الأخضر الفاتح ، في حين اكتست الأرضية باللون الأخضر الغامق . حرّك " رونالدو " يديه في الهواء صعودًا وهبوطًا كأنهما جناحان ، وقال ضاحكًا :
- لقد قرأتُ أن عالمًا عربيًا مسلمًا يدعى " عباس بن فرناس " كان يعيش في بلاد الأندلس ..
قاطعه " جاك " :
- أين ؟
- في بلاد الأندلس ، وهي أسبانيا والبرتغال حاليًا ، قرأت أنه قام بأول محاولة للطيران في التاريخ باستخدام جناحين من الريش .
هتف " جاك " متعجبًا :
- جناحان من الريش ! وهل طار فعلاً ؟
- نعم ، وقام بعمل ذيل له ، أي أنه صار مثل الحمامة الكبيرة أو الصقر الكبير ، وطار من فوق أحد الجبال مسافة كبيرة بالفعل ، ورآه الناس … وكانوا يظنونه لن يستطيع أن يحلّق في الجو .
- إذن فهو أول رجل طيران ؟
- أجل ، ولكنه لقي مصرعه وسقط على الأرض ، فقد أذابت الشمس الشمع الذي كان قد ألصق الريش به .
أردف " جاك " :
- أترانا الآن نسير على نفس الطريق الذي بدأه هذا الرجل ، وأننا الآن في قمة التطور التكنولوجي ؟
هبط " رونالدو" إلى أرضية الغرفة ، وتساءل :
- وهل نحن في قمة التطور التكنولوجي ؟! أعتقد أن الإنسان لايزال في بداية استكشاف الفضاء ، والدليل أننا نحاول أن نجعل هذه المحطة نقطة انطلاق لصواريخ فضائية تستكشف أعماق الكون الفسيح .
* * *
خرجا من باب الغرفة ، واتجها وهما يقفزان قفزات خفيفة إلى مقدمة المحطة ، في الوحدة الرئيسية ، حيث توجد خمس بوابات ، البوابة الكبرى وهي تستخدم لاستقبال سفن الفضاء التي تحمل أطقم رواد الفضاء الذين يأتون إلى المحطة ، ومعهم أجهزة التصوير والتحليل والمراقبة .
في حين يتم استخدام البوابات الأربع الأخريات في إتمام التحام شاحنات الفضاء (سفن التموين ) بها .
وصل الزميلان إلى البوابة الثالثة ، حيث قدِم إليهما زميل آخر ، فقال "جاك " له :
- أهلاً " وليم " ! كيف حالك ؟
- بخير ، هل ستزورنا سفينة فضاء ؟
أجاب رونالدو :
- يعجبني فيكَ ذكاؤك الذي لم يتأثر بحالة انعدام الجاذبية ، بالرغم من أنك أقدمنا تواجدًا على هذه المحطة .
ردّ وليم عليه :
أنا لا أستسلم هنا لأي تأثير يمنعني عن التعلم والدراسة ، فأنا أتابع الأخبار وأقرأ أحدث الكتب والمجلات والصحف التي تأتي إلينا .
جاك :
المهم هلاّ أخبرتنا بمدى الاستعداد لاستقبال سفينة الشحن .
وليم :
إن كل شيء جاهز ، وأرى أن السفينة قد بدأت في الاقتراب من المحطة ، انظرا .
تطلع" جاك ورونالدو " إلى حيث أشار وليم في النافذة ، كانت سفينة التموين بأضوائها اللامعة تقترب بهدوء من المحطة ، وقد هدّأت من سرعتها واتجهت إلى البوابة الثالثة من الخارج ، بينما تحرّك وليم بسرعة ، حيث راح يتعامل مع بعض الأزرار والمفاتيح في لوحة مثبتة بجوار البوابة الثالثة ، فالتحمت السفينة ببطء مع البوابة ، وبرز ذراعان حديديان من أسفل البوابة ، حيث أمسكا بسفينة الشحن ، وتثبتا في جانبيها .
ضغط " وليم "على زر فانفتحت البوابة الزجاجية وظهر أنبوب معدني ممتد إلى باب سفينة التموين ، الذي بدأ ينفتح رويدًا رويدًا .
هتف " رونالدو " مشدوهًا :
- عملية الالتحام لم تستغرق إلا ثوانٍ معدودة ، والغريب أن سفينة التموين تفعل كل شيء بتوجيه من القاعدة الفضائية على الأرض .
قال " وليم " :
- إنها بدون رائد فضاء ، فهي تذهب وتأتي كل بضعة أيام ، ولولاها لصرنا منعزلين عن أمنا الأرض .
صرخ " جاك " :
- هل من الممكن أن تتركا هذه العواطف الجياشة نحو سفينة الشحن ، وتسرعان معي لأخذ كيس البريد من داخلها ؟
ضحك الجميع ، فقد كان " جاك " مولعًا بقراءة الرسائل البريدية ، التي تأتيه من أصدقائه الكثيرين على الأرض .
قال وليم ساخرًا :
- إنني أطمئن على زوجتي وأطفالي من خلال الاتصال اللاسلكي ، وهذا يتم بصفة مستمرة ، كل أسبوع أو أكثر ، لذا ترياني لا أعبأ كثيرًا بالبريد .
قال " جاك " بمسحة جد على وجهه :
- إذن يا عزيزي ، ستكون آخر شخص فوق هذه المحطة يحصل على رسائله ، لأنك كما تقول في غنىً عنها .
وأسرع بالدخول إلى عمق سفينة التموين ، حيث كان يحفظ جيدًا مكان كيس الرسائل ، فأخذه برفق ، ثم خرج يجري بينما طارده " رونالدو " قائلاً :
- وأنا ما ذنبي لكي تعاقبني ، ولا تعطيني رسائلي ؟
قال "جاك " الذي وقف بعيدًا يفتح كيس البريد :
- ذنبك الوحيد أنك ضحكتَ مؤيدًا لـ " وليم " .
ثم أكمل بعطف :
- ولكن بحكم أنك جاري ، وتسكن وتنام في كيس النوم بجواري ، فسأعطيك رسائلك بعد قليل .
وكان جاك قد أخرج رزمة من الخطابات مربوطة بخيط حريري ملون ، وراح يفك الخيط من حولها ، وشرع في فض غلاف أحد الخطابات ، وبدأ يقرؤه .
لم ينتظر " رونالد " ، بل أسرع بإخراج رسائله هو الآخر .
في الوقت الذي كان " وليم " يُحضِر بواسطة الريموت كنترول إنسانًا آليًا لكي يقوم بإفراغ حمولة سفينة التموين ، وبالفعل تحرّك إنسان آلي كان مرتكنًا في أحد الجوانب ، ثم تحرّك إنسان آلي آخر من ورائه ، واتجها نحو باطن سفينة التموين ليخرجا قنينات الأكسجين التي تأتي كاحتياط في حالة الطوارئ ، وعلب الطعام وغيرها .
أقبل باقي الرواد وتزاحموا على كيس البريد ، واتخذ كل واحدٍ منهم ركنًا يقرأ فيه خطاباته ، أمّا " جاك " فقد صرخ عاليًا :
- هذا شيء عجيب !
انتبه البعض من الواقفين ، فأكمل ، وهو يمسك بأحد الخطابات :
-كنتُ قد أرسلتُ صورًا لي وأنا على ظهر المحطة إلى أحد أصدقائي، فأرسل يقول لي أنني صرتُ صغيرًا في السن ، ويقول إنني أبدو في الصورة كأنني في العشرين من العمر ، بينما أنا الآن في الثلاثين .
علّق أحد الرواد بقوله :
- هذا شيء طيب ، عليك أن تستمر في المكوث هنا حتى تصل إلى سن الطفولة .
سمع " وليم " الحوار ، فأقبل يقول :
- لا تتعجب يا صديقي " جاك " ، فالمسألة ببساطة أن الجاذبية الأرضية عندما تنعدم ، فكل شيء كما ترى ، يرتفع عاليًا ، وكذلك الدماء والسوائل في جسمك يتجمع الكثير منها في منطقة الرأس والوجه ، فيبدو الوجه أكثر نضارة وصغرًا .
تساءل " رونالدو " :
- لهذا السبب نحن نقوم بأداء التمرينات الرياضية صباحًا ومساءً على أجهزة الرياضة ، أليس كذلك ؟
أجابه " وليم " وهو يشير إلى رجليه :
- بلى يا عزيزي ، لقد قرأتُ أن أرجل الإنسان تحتفظ على الأرض حيث توجد الجاذبية الأرضية بكمية من الدم تصل إلى ( 0.7 ) من اللتر في المتوسط ، وحوالي لتر ونصف من الماء . ولكن نحن هنا لا توجد ..
أكمل " جاك " :
- آه .. آه .. نحن هنا لا توجد جاذبية أرضية ، وبالتالي كل الدماء تتجمع في رأسي .. وبالتالي فلا توجد دماء في قدميّ ، فلو قمتُ بشقهما بسكين فلن يتقطر الدم ..
تدخل أحد الرواد ضاحكًا :
- لا تحزن يا جاك ، الدماء تصل لأرجلك مع الرياضة ، وجسم الإنسان يتكيف بالتدريج مع الحياة في الفضاء ، فيرسل القلب بعض الدماء إلى الأرجل .
قال "وليم " بابتسامة إشفاق :
- ذكّرني يا جاك أن أقص عليك قصة " رومانينكو " عندما نتجمع لتناول الغذاء .
استفسر جاك بقلق :
- ومن هو روما.. روما نينكو ..هذا ؟
لم يرد " وليم "لأنه كان قد أسرع بالحركة ، فقد أوشك الإنسانان الآليان على نقل ما جاءت به سفينة التموين إلى داخل المحطة ، فراح " وليم " يوجههما باستخدام الريموت كنترول حيث تحرّك إنسان آلي منهما حاملاً الأكياس والعلب لكي يشوّنها في مخزن المحطة، بينما نقل الإنسان الآلي الآخر قنينات الأكسجين الإضافية إلى غرفة الأكسجين .
جذب " رونالدو " زميله " جاك " ، وقال :
- لنعد الآن إلى غرفة الاتصالات فموعد الاتصال الثاني قد حان .
* * *
وصل الاثنان إلىغرفة الاتصالات ، حيث اتخذ " جاك " مكانه أمام جهاز الاتصال بالأرض ، وبدأ في تشغيل الجهاز ، بينما راح " رونالدو " يثبت سماعة فوق أذنيه، وكانت تلك السماعة لا تصله بالأرض مباشرة ، بل تتصل بإحدى سفن الفضاء التي انطلقت من محطتهم الفضائية في رحلة إلى القمر ، وكان على متنها زميلان من زملائهما في المحطة الفضائية ، وهما " بيل " ، و" يوري " .
ارتفع صوت " جاك " يرد على الاتصال الذي جاءه من الأرض :
- آلو .. ، وصلت سفينة الشحن ، وقمنا بإفراغ حمولتها .
- لن تغادر قبل أن تحمل على متنها نتائج الأبحاث الزراعية التي طلبتموها منّا .
- من الممكن أن تتحرك سفينة الشحن غدًا ، وسيتأكد فريق الفحص الفني من كفاءة أجهزتها .
أنهى " جاك " الاتصال بتثبيت السماعة في مكانها بلوحة الأزرار ، بينما كان "رونالدو" يحاول أن يتصل بمكوك الفضاء الذي اتجه للقمر ، وبالفعل نجح في الاتصال ، فارتفع صوته قائلاً :
- أهلاً " يوري " ، كيف حالك ؟ وما أخبار " بيل " ؟
- حمدًا لله أنكما في طريقكما للعودة إلينا .
- ماذا تقول ؟ غير معقول .. غير معقول ..
- أسرعا بالعودة ، وستجدوننا في انتظاركم .
اصفرّ وجه جاك ، عندما سمع كلمات زميله الأخيرة ، لقد ظن أن مصيبة حدثت لمكوك الفضاء المتجه للقمر ، قال جاك :
- تبدو بارد الأعصاب يا رونالدو ! ماذا حدث لمكوك القمر ؟
أجابه رونالدو مطمئنًا :
- لقد نجح المكوك في الهبوط على سطح القمر بسلام ، وجمع الرائدان عينات كثيرة من الصخور والرمال من فوق سطح القمر .
قاطعه " جاك " :
- نعم أعرف أنا هبط في بحر الظلمات على سطح القمر .. ولكن ماذا حدث ؟
- أبدًا .. اصطدم المكوك بصخرة كبيرة ، عند صعوده ، مما أدى لحدوث بعض التلف في جانب من غطائه المعدني الخارجي ..
مشدوهًا قال جاك :
- تلف .. ، كيف ؟ وكيف ستعود ؟
- لا تقلق ياصديقي هذه أمور معتادة ..
سكت " جاك " قليلاً ، ثم رفع صوته متسائلاً :
- ولكن لماذا لم ينطلق هذا المكوك من قاعدة أرضية مثلما كان يحدث في الماضي ؟
ابتسم " رونالدو" :
- لعلك تقصد أول هبوط للإنسان على سطح القمر ، في رحلة " نيل آرمسترونج " ..
أحنى "جاك " رأسه موافقًا ، فأردف " رونالدو" :
- لقد كان هذا في الماضي القريب ، وإن من أهداف تلك المحطة الفضائية هي انطلاق سفن الفضاء إلى بعض الكواكب منها ، وذلك اختصارًا للوقت وللمسافة ..، فبدلاً من العودة ثانية للقاعدة على الأرض ، يقوم مكوك الفضاء بالعودة إلى محطتنا للتزود بالوقود والطعام والأكسجين ، ثم يتجه إلى رحلة أخرى .
- ولكن هذه السفينة أصيبت بأعطال !
- حتى لو أصيبت بأعطال ، فإن قسم الصيانة هنا به خبراء للإصلاح .. ، أنت ما زلتَ جديدًا علينا ، وفرق بين الحياة على الأرض ، والعيش في المحطة الفضائية فرق كبير
قال جاك :
- نعم فرق كبير ، كانت معلوماتي وأنا قادم إليكم نظرية ، والآن أعايش كل يوم جديدًا في عالم الفضاء .
طارا الاثنان خارج الغرفة ، وقال " جاك " :
- إن طريقي مختلف عنك يا صديقي .. إنني ذاهب إلى معمل البحوث الزراعية ، هل ستأتي معي ؟
فكّر " رونالدو " ، ثم قال :
- ولماذا لا ؟ أمامنا متسع من الوقت لحين وصول سفينة القمر .
* * *
أمام غرفة " الأبحاث الزراعية " ، ضغط " جاك " على زر ، فأضئ مصباح لونه أخضر مثبت في أعلى باب الغرفة ، كانت تلك إشارة الدخول ، فتح " رونالدو " الباب، كان العالم " ميخائيل " المتخصص في أبحاث الزراعة الفضائية منهمكًا بالنظر في قاع أنبوب ، سلَّمَ " جاك " عليه قائلاً :
- كيف حالك يا من تريد إطعامنا نباتات دون تربة أو نباتات الهواء فقط ؟
رفع " ميخائيل " حاجبيه من تحت نظارته ، وقال :
- ألن تكف يا جاك عن الاستهزاء بعملي ؟ إذن لن تأكل مما أزرع أبدًا ، أحضر طعامك من بيتك على الأرض .
" جاك " ضاحكًا :
- منذ جئتُ إلى هنا وأنت تعدني بأننا سنأكل من زراعتك ولم يحدث ؟
- اطمئن .. ، سيحدث قريبًا ، فالتجارب الزراعية على متن المحطات الفضائية تبشّر بطعام كثير .
أمسك "جاك " رأسه وقال :
- أخشى أن يطير عقلي ، كيف أقنع عقلي أن الزراعة ممكنة دون تربة .. دون طين ..
عدّل " ميخائيل " من وضع نظارته ، وتساءل:
- وما فائدة التربة للنبات ؟
هزّ جاك كتفيه ، وقال :
- هذا سؤال إجابته بسيطة .. ، إن النبات يأخذ عناصر غذائه من التربة .
- ولو قمنا يا زميلي جاك باستخلاص تلك العناصر من التربة ، ثم وضعناها في محاليل كيميائية ، وقدّمناها إلى البذرة ، ألن تستفيد منها ؟
تدخل " رونالدو" الذي كان يستمع ، وقال :
- بلى سيستفيد النبات ، وسينمو ، وسنأكل .
جاك صائحًا :
- نأكل .. نأكل .. ماذا نأكل ؟
قال " ميخائيل " :
- ستأكل الكرنب والبصل ..
وأكمل رونالدو :
- في تجربة محطة الفضاء الروسية " ساليوت – 1 " نجح علماء تلك المحطة في استنبات بعض نباتات الكرنب الصيني والبصل .. ، وصديقنا " ميخائيل " يستنبت الطماطم وبعض الخضراوات .
تساءل "جاك " :
- حسنًا ، ولماذا تضع بعض الزجاجات التي بها نباتاتك في كل غرفة بالمحطة يا ميخائيل ؟
ردّ عليه بسؤال استفهامي :
- ماذا يستنشق النبات في فترة النهار وماذا يخرج ؟
قال " جاك " :
- كما أعرف ، فإن النبات في النهار يستنشق ثاني أكسيد الكربون ، ويخرج الأكسجين.
ثم ضرب رأسه بقبضة يده وقال :
- نعم .. ، لقد فهمتُ الآن ، هو يأخذ من أنفاسنا في المحطة ثاني أكسيد الكربون ، ويعطينا الأكسجين … يا لها من فكرة !
قال ميخائيل بتؤدة :
ولو لاحظت في نوافذ المحطة التي يقع النبات بالقرب منها ستجد بعض المرايات العاكسة لضوء الشمس ، حيث تقوم بتجميع ضوء الشمس ونقله إلى داخل المحطة الفضائية ، فيقوم النبات بعملية البناء الضوئي .
هتف "جاك " :
- إذن ، لماذا لا تزرع لنا خضراوات طازجة ؟
قال " رونالدو " :
- المسألة الآن في طور التجربة ، ولن تتم الزراعة الاقتصادية الكثيرة إلا بعد التأكد من سلامة عملية الاستنبات كلها .
ثم التفت " رونالدو " إلى " ميخائيل " متسائلاً :
- كنتَ قد أخبرتني أن هناك بعض الصعوبات التي ما زالت تواجه عملية الزراعة .. ماذا فعلت للتغلب عليها في تجاربك الأخيرة ؟
قال " ميخائيل " :
- إن المشكلة العويصة التي واجهتنا هي أن التربة على الأرض تحتوي على أحياء صغيرة جدًا ، تقوم هذه الأحياء بتوفير " النيتروجين " في ذرات التربة ، وتلك الأحياء غير موجودة هنا ..
بسرعة تساءل جاك :
- نعم تلك مشكلة ، وما حلها ؟
- حلها يكمن في توفير عنصر النيتروجين بطريقة مذابة مع العناصر الكيمائية الأخرى ، وهذا ما فعلته في تجربتي الأخيرة ، والنتائج تبشر ببعض الأمل .
- عمومًا ، فإن علماء المحطة الأرضية يطلبون آخر أبحاثك … وهذا هو سبب زيارتنا .
قال " ميخائيل " :
- تذويب النيتروجين مع العناصر الكيميائية هو آخر بحث لي ، انظرا ..
نظر الاثنان إلى حيث أشار ، كانت نبتة خضراء صغيرة في قعر إحدى القنينات الزجاجية،
وقال ميخائيل :
- تلك هي الطماطم الفضائية .
ضحك الجميع ، فأكمل حديثه :
- وهي ستصل إلى الأرض عند عودة سفينة الشحن ، حيث سيقوم العلماء على الأرض بفحصها جيدًا ، ومواصلة استنباتها في ظروف مشابهة لظروف محطتنا ، المهم أن يكون النبات محتويًا على مختلف العناصر الغذائية التي يحتاجها الإنسان .
كانت حبات عرق قد ترقرقت على جبهة " ميخائيل " ، بفعل انهماكه الشديد في العمل، فهو يحب النباتات إلى حد العشق ، نظر " رونالدو " إليه ، وقال :
- تخيل يا ميخائيل أنك أول زميل لنا أراه اليوم يعرق .
انتبه ميخائيل وقال :
- عجبًا ، لهذه الملاحظة .
- كل ما في الأمر ، أنني لم أشاهد أحدًا ينزل قطرات عرق .
ضحك " ميخائيل " وقال :
- فهمت ، تقصد أن جهاز العرق لم يعمل اليوم ، لا .. لا .. ، لقد شاهدت عدة زملاء على المحطة وهم يفرغون عرقهم في الجهاز .
وبسرعة ، أخرج " ميخائيل " أنبوبة فتحتها واسعة ، واستخدم قطعة بلاستيكية رقيقة لكي ينزل العرق في الأنبوية . كان جهاز " تحويل العرق إلى ماء عذب " موجودًا في معمله ، حيث يقوم هذا الجهاز بتخليص عرق رواد المحطة من الأملاح المذابة فيه ، ومن سائر العناصر الأخرى ، بحيث يصفو تمامًا ويتحول إلى ماء عذب ، صالح للشرب ، فيستغله " ميخائيل " في عمليات الزراعة .
أشار " جاك " إلى الجهاز ، وقال :
- هل من الممكن أن يستفيد الإنسان من هذا الجهاز على الأرض ؟
ردّ عليه " رونالدو " بسؤال آخر :
- ولماذا تستفسر ؟
أجاب " جاك " :
- لأن هناك كثير من المواقف التي تحدث على الأرض ، ويحتاج الإنسان لشربة ماء ولا يجدها ، وكم من الآلاف الذين ماتوا من العطش بسبب الحرمان من الماء .
قال " ميخائيل " :
- هذه ملاحظة جيدة منك ، نعم ، هذا الجهاز تم اختراعه لخدمة رواد الفضاء ، ولكنه بقدر من التطوير عليه ، من الممكن أن يستخدم على الأرض .
- وهل هناك تجارب لذلك ؟
- نعم ، لقد قرأت عن قيام بعض علماء الفضاء بعمل تطويرات في هذا الجهاز ، حتى يستفيد منه الذين يسافرون في الصحراء القاحلة ، ويعرقون كثيرًا ، فيتم تحويل هذا العرق إلى ماء صالح للشرب .
- إذن ، فهو جهاز اقتصادي ، وسيحل مشكلة نقص المياه في السفر ؟
تدخل " رونالدو " في الحديث :
- إن أبحاث الفضاء قد أفادت الإنسان على الأرض كثيرًا ، وجهاز العرق هذا ، بعض مما استفاده الإنسان .
ميخائيل :
- هل تعرفان أن أطباء التجميل قد بدأوا يستفيدون من طب الفضاء ؟
استفهم الاثنان بنظريهما ، فأردف :
- عندما تأكد أطباء التجميل من أن وجوه رواد الفضاء تبدو أصغر من عمر أصحابها الفعلي قرروا أن ..
قاطعه " جاك " :
- نعم لقد حدث هذا معي ، لقد أخبرني أحد أصدقائي على الأرض بأن شكلي يبدو صغيرًا في الصور التي أرسلتها له .
قال " ميخائيل " مبتسمًا :
- قرر أطباء التجميل أن يعالجوا مرضاهم الذين تمتلئ وجوههم بالتجاعيد ، ولا توجد نضارة فيها ، فعالجوهم بأن حقنوا كمية من المواد التي بها قدر من عناصر السوائل في الوجه وفي الرقبة .
هتف جاك :
- آه .. آه .. ، إن أبحاث الفضاء أفادتنا كثيرًا .
* * *
حين خرج جاك ورونالدو من المعمل الزراعي ، نظر " رونالدو " في ساعته ، ثم أسرع يقفز إلى غرفة الاتصالات ليتعرف على أخبار المكوك العائد من القمر ، فعرف أنه سيلتحم بالمحطة الفضائية بعد ساعتين، فأسرع إلى غرفة الطعام ، حيث كان كل رواد المحطة الفضائية متجمعين ، وقد شرعوا في تناول الطعام ، الذي كان يتألف من بطاطس باللحم وقطع جبن ، وشطائر خبز ، وعصير فواكه متعدد الأنواع .
جلس الجميع ، وراحوا يتبادلون الأحاديث .
تذكر " جاك " أمرًا ، فنظر إلى زميله " وليم " وقال له :
- وليم . . وليم ..
التفت إليه " وليم " مستفهمًا ، فأكمل " جاك " سؤاله :
- كنت قد وعدتني بأن تحدثني عن شخص يسمى روما .. روما نينكو .. أهكذا اسمه ؟
- نعم هو اسمه ، ولاشك أنك قد سمعتَ عنه أثناء التدريبات على الأرض ، فهو مشهور بأنه صاحب الرقم القياسي للبقاء قي الفضاء في العام 1987 .
تفكّر جاك قليلاً ، ثم قال :
- فعلاً من الممكن أن أكون قد سمعتُ عنه . ويبدو أن ذاكرتي قد ضعفت هنا .
ضحك أحد الرواد ، وقال له :
- بل محيت ذاكرتك هنا يا جاك ، إنك تسأل عن كل شيء .
شعر "جاك " بالخجل ، وقال :
- عذرًا ، فأنا كنتُ مشتاقًا جدًا للفضاء وأنا على الأرض ، ولكنني عندما جئت إلى هنا، شعرتُ ببعض الضيق ، لأنني تركت أهلي وأصحابي ..
قاطعه " ميخائيل " :
- هذا أمر عادي ، وكلنا مررنا بذلك ، ولكنك ستعتاد على الفضاء ، وبل وستشتاق له كلما عدتَ إلى الأرض .
أكمل " وليم " حديثه :
- إن رائد الفضاء " رومانينكو " كان في المحطة المدارية الروسية " مير " ، وقد قضى على ظهر هذه المحطة حوالي ( 326) يومًا أي أحد عشر شهرًا ، وهذه هي المرة الأولى التي يقضي فيها أحد هذا الوقت في الفضاء .
هتف " جاك " :
- يا إلهي ، إنها فترة طويلة بالفعل ، كم رائدًا كان معه ؟
وليم :
- كان معه رائدان آخران ، ولكن كلاهما أعيدا للأرض بعد فترة ، فأحدهما لم يتحمل البقاء طوال هذه الفترة ، والثاني تعرض لمتاعب صحية ، فعاد الاثنان إلى الأرض .
- ورومانينكو هذا ، هل ظل وحيدًا ؟
- نعم ، ظل بمفرده على ظهر المحطة الفضائية "مير " ، حتى عاد للأرض ثانية .
- يا له من بطل عاش في الفضاء هذه الفترة .
- انتظر ، هناك المزيد ..
- ماذا بعد ؟
كان كل رواد الفضاء المتجمعين للغذاء قد أنصتوا لحديث " وليم " ، الذي أكمل :
- صعد رومانينكو ثانية إلى المحطة ، بعدها بعدة شهور ، حيث ظل متواجدًا عليها لفترة وصلت إلى ( 366 ) يومًا .
قال أحد الحاضرين :
- أي عام ويوم واحد .
- والغريب في الأمر ، أن الأطباء وقتها كانوا يقولون أن مدة البقاء القصوى للإنسان في الفضاء هي ستة أشهر ، إلا أن رومانينكو حطمها وقضى عامًا ..
- هذا يعني أن الإنسان له قدرات عظيمة ..
- بل في كل مرة ، عندما كان يعود للأرض ، كان يسير على قدميه ، عندما ينزل من سفينته ، ولا يرقد في محفة الإسعاف .
ارتفعت صيحات الإعجاب من الجميع ، لأن كل من يعود للأرض يكون غير قادر على السير بحكم التغيرات التي تحدث في الجسم .
واصل " وليم " حديثه :
- لقد كان رومانينكو صاحب لياقة بدنية عالية ، وبالرغم من أن عمره وقتها ثلاثة وأربعون عامًا إلا أنه كان يمارس الرياضة كثيرًا في المحطة الفضائية مير .
قال " جاك " :
- وهل وقف الأمر عند رومانينكو فقط ؟
أجاب وليم :
- لا بالطبع ، بل هناك من تخطى هذا الرقم ، وهو الرائد الروسي " فاليري بولياكوف " حيث قضى داخل المحطة "مير " حوالي ( 438 ) يومًا ، فتجاوز رومانينكو بحوالي (72 ) يومًا وقد أنهاها في مارس عام 1995 .
ابتسم الجميع لغزارة معلومات وليم ، وشكروه على هذه الوجبة العلمية الدسمة ، أما جاك فقد رفع صوته قائلاً :
- إنني سأحاول قضاء فترة طويلة هنا ،ولكن لا تسألوني عن طولها ، ولكن سأحاول .
عقب الغذاء ، انصرف الجميع إلى أعمالهم ، أما رونالدو فإنه أسرع إلى كابينة الاتصال ، وأجرى الاتصال مع مكوك الفضاء العائد من القمر ، فعرف أنه اقترب من المحطة ، فغادر الكابينة .
* * *
وقف " رونالدو " أمام مقدمة المحطة ، حيث البوابة الرئيسية ، ومن حولها البوابات الفرعية الأربعة ، وكان باقي الرواد قد حضروا معه ، عندما أخبرهم بخبر وصول مكوك القمر، وما هي إلا لحظات ، حتى شاهد الجميع مكوك الفضاء يقترب ببطء من المحطة الفضائية ويلتصق بالبوابة الرئيسية ، بعدما التحم عن طريق الذراعين بالأنبوب المعدني الطويل الممتد من البوابة الرئيسية . انفتحت البوابة الرئيسية فظهر الأنبوب الممتد ، وانفتح في المقابل باب مكوك الفضاء ، وخرج منه الرائدان " بيل " ، " يوري " وعبرا الأنبوب إلى بوابة المحطة ، كانا لا يزالان بملابس الفضاء الفضية اللون ، تبادل الجميع العناق معهما، ثم انصرفوا إلى غرفة الطعام للاستراحة ، حيث أخذوا مقاعدهم فيها ، وربطوا الأحزمة حول أجسادهم .
تساءل " رونالدو " :
- ما أخبار الاصطدام الذي حدث في سفينتكم ؟
قال " بيل " :
- لقد تمزّق الغلاف المعدني الخارجي الواقي ، وهذا تسبب في ارتفاع درجة الحرارة في المكوك ، ولكننا قمنا بتثبيت غطاء معدني فوق هذا الجزء الممزق عندما اكتشفناه فوق سطح القمر .
قال " ميخائيل" :
- لقد أحسنتم الصنع بتصرفكم هذا ، ولكن كيف أمكنكم تثبيت هذا الجزء في خارج المكوك ؟
أجاب " يوري " :
- إن أدوات اللحام كانت معنا ، ولابد أن نستفيد منها . وعندما تم هذا العطل فقد خطر على بالي تجربة اللحام في الفضاء الخارجي التي قام بها رواد محطة الفضاء الأمريكية الشهيرة " سكاي لاب " في عام 1973، حيث تدربوا على تجربة اللحام في الفضاء .
هتف " وليم " :
- ياله من تصرف حكيم ، أذكر أن الرواد في سكاي لاب قضوا ( 28 ) يومًا على ظهره ، وهم الذين أصلحوا عطلاً كان في الدرع الواقي للمحطة ساعتها ، حيث نشروا مظلة معدنية فوق الجزء الممزق ، وقد تم كل هذا في الفضاء .
تساءل جاك :
- في محطة سكاي لاب هل تأثرت المحطة من الداخل بتمزق الدرع الواقي ؟
أجاب وليم :
- نعم ، فهذا الدرع يحمي المحطة من حرارة الشمس التي ارتفعت في داخل المحطة وقتها ، لولا مسارعة الرواد بإصلاحها .
أخرج " يوري " من جيبه كيسًا بلاستيكيًا ، وقد امتلأ ببعض الأحجار التي راح يوزعها على الحاضرين ، قائلاً :
- هذه هي الهدايا التي أحضرناها لكم من أرض القمر .
كانت الأحجار لها لون غريب يقترب من اللون الرمادي واللون الأسود ، وبينما راح الجميع ينظرون فيها ، قال " بيل " :
- هذه الأحجار هدية لكم ولأسركم على الأرض ، وهي بعيدة عن التجارب الفضائية ، فقد أحضرنا على ظهر المكوك أكياسًا أخرى للفحص في المعامل .
انصرف " بيل " ،و " يوري " إلى كيسيهما للنوم والراحة ، بينما راح زملاؤهما ينقلون ما في داخل المكوك من أغراض وقنينات الأكسجين الفارغة ، وأكياس أحجار ورمال القمر إلى غرفة الأبحاث وإلى المخزن بمساعدة من الإنسان الآلي .
* * *
أسرع " رونالدو " بالجلوس في غرفة الاتصالات ، وراح يقدّم تقريرًا إلى القاعدة الأرضية عن المكوك الفضائي ، قائلاً :
- نعم .. ، لقد عاد إلى محطتنا .
- آه .. ، كان العطل بسيطًا ، فقد كان في الجدار الخارجي .
- لقد فاجآني بإصلاحه … ، حيث قام " بيل ويوري " بوضع غطاء خارجي عليه ، ولحام هذا الغطاء .
ضحك " رونالدو " ، فقد سأله زميله من المحطة الأرضية عن أحوال جاك ، فقال رونالدو ، وهو يتطلع إلى جاك :
- إن جاك الآن بجواري .. ، هلا تحدثتَ معه .
ظهر التعجب على وجه جاك ، وهو يضع السماعة على أذنيه ، وقال :
- ماذا تقول يا جيمس ؟ إنني أحب الفضاء ، وأريد البقاء هنا .
وأردف غاضبًا :
- لا .. لا .. ، كنتُ في البداية أشعر بالملل ، ولكنني الآن في غاية السعادة ، سأفعل مثل رومانينكو الروسي .
عندما انتهى الاتصال ، تساءل " جاك " بغيظ :
- أريد أن أعرف من أخبر جيمس على الأرض بأنني أشعر بالملل ..؟
أجاب " رونالدو " ببرود :
- أنا .. لماذا ؟
بحنق ، قال جاك : أنت تحب الفتنة يا صديقي .
ضحك " رونالدو " عاليًا ، وهتف :
- إن واجبي يتطلب مني أن أرسل تقريرًا عن كل فرد هنا ..
تناول " جاك " علبة عصير فارغة ، من داخل كيس القمامة المعلق بالقرب من لوحة المفاتيح ، وقذف بها " رونالدو " .. ، ضحك الأخير بقهقهة عالية ، لأن علبة العصير طارت إلى سقف الغرفة ، وتعلقت به .
* * *
في غرفة الطعام ، جلس الجميع ، وقد راح البعض يتثاءب ، وأمسك البعض بجرائد ومجلات حديثة جاءت مع سفينة الشحن ، وهم يتناولون طعام العشاء المكون من سالمون وأرز بالدجاج وجاتوه وكاكاو.
* * *
هتف " رونالدو " وهو يغلق عليه كيس النوم :
- جاك ..
أجابه " جاك " من الخارج :
- نعم .. ، ماذا تريد ؟
- هل ستحلم أحلامًا أرضية الليلة ، أم أحلامًا فضائية ؟
- وكيف لي أن أعرف ؟ !
- سأعرف أنا عندما أستمع إلى صوتك في النوم .
- ماذا ؟! تستمع لصوتي ؟
- نعم ، عندما يرتفع شخيرك أعرف أنك تتعارك معي في النوم ، لأنك فشلت في العراك في اليقظة ..
بغيظ هتف جاك :
- لقد تركتك ولم أضربك رأفة بك وبأولادك .
أكمل " رونالدو " حديثه :
- وعندما ينخفض صوت شخيرك في النوم ، فلاشك أنك تحلم أحلامًا أرضية ، وفي هذه الحالة سأخرج من كيسي وأنهال عليك ضربًا ، حتى أفسد حلمك ..
صرخ " جاك " :
- لا بل أنا الذي سأنهال عليك ضربًا الآن ..
وأسرع يضرب كيس " رونالدو " من الخارج ، بينما قهقه الآخر عاليًا ، فلم يكن يشعر بأثر قبضات " جاك " بسبب سمك الكيس .
أهم المراجع
- سعد شعبان ، الأقمار الصناعية وسفن الفضاء ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1973
- سعد شعبان ، الحياة في سفينة فضاء ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1995 .
- سعد شعبان ، الطريق إلى المريخ ، عالم المعرفة ، الكويت ، 1997 .
- د . محمد بهي الدين عرجون ، الفضاء الخارجي واستخداماته السلمية ، عالم المعرفة ، الكويت ، 1996 .
تعليق